الاثنين ١١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم سهيلة بورزق

الرجل العنكبوت

لم أتصور نفسي يوما امرأة عنكبوتية أو بتعبير آخر لم أحاول مرّة اصطياد رجل بعنكبوتيتي ، لا زلت قديمة الأنوثة أنتظر رجلا مثلي يعشق المساء في شموعه الباكية ، ويبلل عطشي بقبلة مرتعشة في غفلة مني، ويهديني وردة حمراء تحيلني على المغفرة . في ذلك المساء القرمزي حملت هيكلي الشيطان وقررت أن أعربد في الرّجال فما أسهل أن ينهار الذكور أمام جلالة الجسد ، تخفيت في فستاني الأسود المرصّع بالمرجان الأحمر ، ووضعت على رقبتي عقدا من اللؤلؤ، وأسدلت شعري الأسود المسافر في استفهامه ، وعانقت عطري الخاص جدا وخرجت.

عندما وصلت الفندق الشهير بمزبلة الرجال الأغنياء قررت أن أدخله ببطاقتي الشخصية عوض بطاقة المال والأعمال حتى لا أعامل بقسوة الرسميات فأنا اليوم حالمة وعاشقة وأريد من يدلل جمالي وفتنة بريقي ، جلست بالقرب من طاولة كانت تجمع رجل ما بامرأة في الأربعين من عمرها ، توددت اليه بنظراتي فرد بابتسامة مرتبكة أوحت لي بسهولته ، لا.. لا ..لا أريد أن تنتهي سهرتي بهذه السرعة ، أريد رجلا يشدني اليه بقسوة ، يدمي قلقي ، يسفك دمعي ، يبعثر انتباهي ، ينسيني لحظتي،
تلك الطاولة المستديرة الضخمة في حجم فراغي كانت كلها محجوزة لي وحدي وأنا مبللة بفتنة لا ترد ولا تنزل النظرات من عليها ، تحولت في لحظات الى اشعاع يعبر الرجال الى الداخل من دون واسطة حب ولا شفرة تفكير ، لم يكن رجلا واحدا بلا امرأة ، كان كل عتريس يضم اليه لذّته في شكل عشيقة أو زوجة أو قحبة أو شاذ مخبول من الجنس الثالث ، وكنت كالراهبة في مكاني أستمتع بالنظرات الخائنة وهي تتأوه أمام لا مبالاتي. تقدم مني "براين " صاحب الفندق ودعاني للرقص معه فوافقت حتى أكسر ملل انتظاري لرجلي الفريسة ، " براين " في الخامسة والأربعين من عمره يغير النساء في اليوم بأعداد لا تحصى وها هو يعترف لي أنّه ملّ معاشرتهن وقررأخيرا الصوم على الجنس الى الأبد ، طبعا لم أصدقه لأنه كان يرمق صدري بشهوة عارمة لاهثة ومختلطة بعرق الرغبة ، استأذنت منه بطريقة تليق بذكورته الرعناء وعدت الى مكاني ذاك حيث الانتظار لكني تعثرت في فستاني الطويل فجأة وكدت أسقط لولا تلك اليد السمراء القوية التي أمسكت بي بحرص عميق وفائض ومغرور وأعادتني الى استقامتي بمغفرة ورجاء ودعوة وبوح ، ارتعشت عنكبوتيتي وفاض فيها الزّمن بعد أن كان ضئيلا في حجم دقات منتهية الصلاحية ، كان رجلا ولم يكن مزبلة ، كان في قامته تلك أشبه باءلاه وأنا امرأة أعشق العبادة أبدا.

كان برفقة امرأة ذات شعر أصفر ترتدي فستانا فضيا وتمسك بيدها حقيبة ديبلوماسية سوداء ، كانا يضحكان بصوت مرتفع وأحيانا يقترب منها ويهمس في أذنها فتقهقه هي عاليا ، كان منهمكا في سهرته كما لو أنّه لم ينتبه اليّ ، ألم تنتقل اليه حرارة يدي وعطري وأنوثتي وهو يرفعني من عثرتي تلك؟ ، أحقا لم أعجبه ؟ أيمكن أن يكون شاذا جنسيا ؟ بعض الرجال ينتهون قبل البدء وبعضهم الآخر لا يقدّر رجولته أمام صبابة امرأة غارقة فضول وتحوّل وأسئلة ، ماذا أعجبه في تلك التي تشبه القردة في صوتها؟، انه لا يزال يفترسني ببرودة لا مبالاته وهذا يعني أن أسلحتي الفتاكة كلها فاشلة ، اقترب مني " جونسن" الكاتب المعروف بعشقه للفنون العربية وطلب مني أن أشاركه رقصته وعوض أن أتأبط ذراعه تأبطني هو وسار بي حيث الموسيقى وفي غمرة رقصنا سألني : لماذا أنت وحيدة الليلة ؟

ابتسمت وقلت : أنا لم أكن وحيدة أبدا
قال : أعني الليلة ؟
قلت : أترى ذاك الرجل الأسمر هو رفيقي
قال : كفي عن المزاح ، ذاك السائق الأبله رفيقك ؟
قلت : من تقصد ؟
قال : نعم ذاك الأسمر هو بعينه ، انّه سائق " مايكل جاكسون " وتلك التي برفقته مساعدة مديرة أعمال " جاكسون "
قلت : هل هذه نكتة ؟
قال : تعالي معي

وشدني من يدي وذهب بي اليه ، أحب الرجل الأسمر العنيف الذي لا تجرحني نظراته ولا تبعثرني أنفاسه.
قال "جونسن " للرجل الأسمر : هذة السيدة الفاتنة تدّعي أنّها برفقتك ؟
يا لورطتي ، اللعنة عليك يا " جونسن " المقرف ، سأمسح بك الأرض لا حقا ، تغير لون وجهي وضاعت مني ألفاظي وكدت أسقط عرضا وطولا وأفقيا وعموديا ، تشتت لحظتي تلك والأسمر ينظر اليّ ويقول : هي لا تدّعي بل الحقيقة ما قالت لك ، لم تكن جملته مفيدة أي نعم لكنّها خدمت الموقف وحسمته وأغلقت فم " جونسن " ،تقدم مني الأسمر ودعاني الى طاولته الفاخرة ، قال : كيفك يا رفيقتي ؟

قلت : أمجنون أنت ؟
قال : أليس هذا ما قلتيه " لجونسن "؟
قلت : أووف ذاك المعتوه انّه يقول ما يريد وكفى
قال : سأصدقك أنت
قلت : ماذا تعني ؟
قال : أعني أنني هنا معك وأنتظر قرارك ؟
قلت : ماذا تقصد ؟
قال : ماذا تريدين أنت ؟
قلت : هل أنت مخمور ؟
قال : بعينيك
قلت : أوووه هذا كثير
قال : أمامي ربع ساعة فقط وسأغادر بعدها المكان
قلت : هل " مايكل جاكسون " هنا أنا لم أره
قال : " مايكل جاكسون " هنا ؟
قلت : ألست سائقه ؟
قال : هههه أنا سائق أعمالي
قلت : من أنت ؟

قال : احتفظي ببطاقتي الشخصية وهذه بطاقة أخرى فيها عناويني وأرقام تلفوناتي
عليّ أن أغادر فورا عندي طائرة بعد ساعة ونصف
تركني وخرجت خلفه تلك القردة ذات الشعر الأصفر.
ترك لي بطاقته الشخصية ؟ أمعقول أن يفعل ذلك مع امرأة لا يعرف حتى اسمها ؟
أكيد يعرفني أو سمع عني حتى ، تجاهلت الأمر حتى أصفي حسابي مع " جونسن " الخبيث أين هو ؟ أكيد يراقص عجوز شمطاء مثله ويحاول اقناعها أنه ما يزال يصلح للمعاشرة ، آ انّه هناك يتودد لاحداهن حتى تراقصه
عفوا سيّدتي ولكنني مضطرة لأخذه منك قلت لها.

قال : أين رفيقك ؟
قلت : سائق " مايكل جاكسون" ؟
قال : كنت متأكد أنك لا تعرفينه ولذلك ضحكت عليك
قلت : لا أحد يستطيع أن يضحك عليّ وأنت تعلم ّذلك ، لكنني لا أحب طريقتك في المزاح
قال : أنا زبالة ماذا أفعل ؟
قلت : عليك بتنظيفها ، ولا أريدك أن تكرر هذا معي أبدا
قال : ألهذه الدرجة ؟
قلت : أنت تعرف غضبي
قال : على العموم ...
تركته في مكانه وخرجت...

لم تكن السهرة حافلة بالمفاجآت ، لكنها كانت حافلة بوخزة حضوره ذاك الأسمر الذي أخذ قلبي معه وترك لي بطاقة تشبه بطاقة اليانصيب ، هل هذه هي أنا ؟ ما هو الفارق اءذن بيني وبين أية امرأة مملوءة رجل تسكنه أبدا كي يرميها هو في أي وقت يشاء ؟ أية مفارقة هذه ، وأنا أدّعي الشمولية في أنوثتي والخصوبة في تجاربي ؟ ضحكت على نفسي حتى سالت دموعي وأنا أسوق سيارتي بجنون ، هاهي سيارة الشرطة تلاحقني ، يا لطيشي ، توقفت وفتحت النافذة وانتظرت مجيء الشرطي كي يعطيني درسا في السياقة ، سيهدر صبري حتما وهو يسجل لديه معلوماتي ، ثم سيقرصني بمبلغ تافه أدفعه لتسديد حماقتي ، لم ينزل أحد من سيارة الشرطة تلك ما المشكلة ؟ أم تراه ينتظر نزولي أنا لطلب المغفرة منه ، حسنا سأذهب اليه .
كان الليل دامسا وعندما اقتربت من السيارة اكتشفت أنها ليست للشرطة فارتعدت وحاولت مسرعة الرجوع الى سيارتي لكن يدا فولاذية أمسكت بي من خلفي ورمتني أرضا ثم انهالت عليّ ضربا حتى فقدت الوعي .

استفقت داخل غرفة الانعاش ومن حولي آلات وخيوط ، ناديت الممرضة بضغطي على زر ما وسألتها عما حصل لي فقالت : جاؤوا بك الى هنا منذ يومين هذا كل ما أعرف ، قلت :أين أغراضي ؟ ردت : لا أدري سيّدتي ، عفوا هناك السيّد "كوهين " من مكتب الشرطة يريد التحدث اليك ، قلت : حسنا ، دعيه يتفضل .
ماذا حصل لي برب السماء ؟ لماذا لا أستطيع أن أتذكر شيئا ؟
دخل الشرطي المحقق " كوهين " الأصلع وفي يده دفتر ومسجلة صغيرة ، سلم عليّ ثم تنهّد وقال : هل أنت بخير ؟ قلت : ماذا حدث لي ؟ قال : هذا سؤالي لك ؟ قلت : لا أستطيع أن أتذكر شيئا ؟ ، قال : لقد أخبرني الطبيب أنّها حالة عابرة ، لكنك قوية وستساعديننا في القبض على المجرم ، قلت مذعورة : ماذا تقصد بالمجرم ، ماذا حصل لي؟،قال :لقد حاول أحدهم قتلك ، ووجدنا سيارتك محروقة هل تصدقين ؟ أدري أنّك صاحبة مؤسسات ناجحة في البلد ، لكن محاولة قتلك لها أبعاد سياسية أكثر، قلت باستخفاف :
هل تصدق ؟ ، ردّ بعصبية : سيدتي أنا لا أمزح هنا ، قلت : دعني الآن أرجوك فلست قادرة على تحليل أي من أفكارك ، قال : حسنا ، سأعود غدا ، قلت : بعد غد من فضلك،قال : بعد غد ، اهتمي بنفسك .

استحيت أن أسأل الممرضة عن اسمي ، عن هويتي فلست متأكدة اذا كنت أنا هي أنا ، انّهم يعاملونني معاملة فيها الكثير من الوّد والاحترام ، طيب سأحاول أن أنام كثيرا عساني ألتقي بذاكرة ما تعيدني اليّ واليه...

الرجل الأسمر الذي فتح شهيتي وشهوتي وجنون جسدي الى شبق سمرته وغادر، ماذا عساني أفعل في جوعي اللحظة وأنا غارقة في غياهب النسيان ؟ لا أذكره تحديدا ولا أخاله سيعود الى ذاكرتي ، أتخيله يداعب شعري ويمرر يده على وجهي ويهمس في أذني كذبة حب يذيب بها جليد تعنتي فأصاب بحمى الرغبة وأتحوّل الى عاهرة أطلب منه أن لا يتوقف عن تعنيفي في لحظة المتعة .
عندما استيقظت فوجئت بسكريتيرتي " ماتيسا" جالسة على كرسي بجانب السرير والدموع في عينيها ، لم يعني لي وجودها أكثر من صورة وكانت فرحتي عارمة عندما عرفتها ، هل أنت "ماتيسا " ؟ سألتها كمن لا يصدق نفسه ، قالت : نعم سيدتي أنا سكريتيرتك " ماتيسا " لقد... ، قاطعتها منادية الممرضة وقلت : أريد الحديث الى طبيبي من فضلك ؟ لقد تذكرت من أنا وهذه " ماتيسا " سكريتيرتي واسمي هو " جوانا كيمبري " وأنا امرأة أعمال مشهورة و...و... كنت أتحدث بسرعة وألفاظي تخرج متقطعة من شدة فرحتي ، ابتسمت الممرضة وبكت " ماتيسا " وغرقت أنا في وجه الأسمرالعنكبوت .

تذكرت السهرة وتفاصيلها المملة وتذكرت تلك اليد الحديدية التي رمتني أرضا وحاولت خنقي ، لم تكن ملامح المجرم واضحة لي فقد كان يغطي رأسه كلّه بقناع صوفي.

دخل الشرطي المحقق " كوهين " وبسمة عريضة على محياه ، حياني مصافحا لي ويده تكاد تعتصر أصابعي وقال : أنا سعيد لك ، ألم أقل لك أنّك قوية ؟ ، قلت : شكرا لك لكنّني لا زلت مشوشة وغير متأكدة من شيء ، قال : لا ، لا تهتمي الشرطة قامت بالتحقيقات وتوصلت الى الفاعل ، قلت بدهشة عارمة : صحيح ، يا الاهي من الذي حاول قتلي برب السماء؟ ، قال : المجرم من رجال رجل الأعمال الايطالي " غابريلو روديوملي "وهو خارج أمريكا الآن في سفر له حول العالم وهذه صورته .

شعرت وأنا أنظر الى الصورة بانهيار في ذاكرتي التي من الممكن أن تغادرني هذه المرة الى الأبد ، كانت الصورة للرجل الأسمر وهو يحضن تلك الشقراء ذات الصوت الذي يشبه القردة .

انهرت وصوت "كوهين " يصلني خافتا وكأنّه حلم : لقد حاول قتلك لأنك الوحيدة التي تهدد مؤسساته بالخسارة ، وأنت سيدة أعمال ناجحة وجذابة ومرغوبة ، مابك لا تردين ؟ سيدتي ... سيدتي...سيدتي
لا شيء غير الأضواء وخيوط عنكبوتية تلتف حول جسدي .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى