الثلاثاء ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم حسن المير أحمد

ترنيمة للنهارات المقبلات

تتبعثر الأغنيات في لجّة إعصار مشاكس يجتاح الأماكن.. يغير ملامح الأشياء، تعمي رماله العيون بعد أن عجز الدمع عن غسلها، فتتوه الأقدام التي كانت تضّج بالحركة المتقنة على أنغام الفرح.. تتخشب، وتغوص في الأخاديد الجديدة.

يبدأ الجسد المنمّش بفتات الحصى يتلمس دربه الباهت.. يقاوم تلك الريح العنيفة المصرّة على ترجله عن عنفوانه وصموده؛ لتمرّغه في التراب.. وتقهقه!!

تتشبث كفاه بجدار قريب، ويصيح الفم: انتفض يا من ركبت موج الأمنيات، والتقط ما تيسر من قواك لترحل في عتمة الدرب القصي، فلطالما سرت مستهدياً بأحاسيسك التي أوصلتك إلى برّ الأمان قبل أن تغرق في لمّ الفتات.

يهتف الماضي: توقف.. إنه القبر أمامك!! فيجيب الحاضر: بل تقدم، فلعينيك الأغاني تنتظر، ولزهر يبزغ من تحت التراب تتلهف، فامضِ صوب تلك القبّرات العاريات فوق أشجار مورقات، علّها تكشف سراً عن فتاة غافية تحت ظل وارف، تحلم بيد تربت على جيدها، ثم تمسح خصلة من شعرها فتتورد وجنتاها ويرفّ الهدب سحراً قبل أن تختلج الشفتين ارتعاشاً.

يخفق القلب قليلاً، ويسير تائه الدرب وئيد الخطوات، ربما كان يحاول أن يعدّ القبّرات.. عندها تتناهى إلى مسامعه همسات معطّرة بأنفاس من العنبر، فتنجلي عن العينين غمّة الخيبات، وتتجلى وردة غيداء من بين الركام تتمطى وتغيّر رقدتها من جنب إلى جنب، وحين يستلّ الأصابع يمسح جبهة الصبح البهية، يغرق الوجه بلون أحمر، ويضيء كالألماس تحت شمس مشرقة، وتفتر من الثغر ابتسامة، ثم تنساب الرموش الناعسات بتكاسل، فتغني القبّرات لعينيها من جديد!

إصبع، سبّابة، تعلو إلى شفتيه وتشير: اهدئي، فأنا لم آت كي أخطف من غفوتك حلماً باهتاً.. ارقدي في الفلا، وغوصي تحت ترنيمات خفية، واتركيني أقبض ما شئت إلهاماً أو كلاماً عصياً.. اتركيني أتجرع كأساً من هذا الشراب المحلَى، وأحوّله إلى حبر يرفد أقلامي بعطر الكلمات، أو عبيراً موسمياً أنثره فوق الروابي، أو هواء مشبعاً بالحب يتغلغل في صدور الكائنات، أو ضياء يخرق العتمة ويضحك للنهارات المقبلات.. ثم يضحك.. ثم يضحك.. ثم يضحك!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى