الخميس ٢١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم محمد محمد علي جنيدي

الصرخة الغائبة

كنتُ دائماً حينما أكتبُ لأُنفسَ عن أفكارِي .. مشاعرِي .. أحلامي .. سرعان ما أُمزِّقُ أوراقي ليكونَ مصيرُها الحرقَ أو سلةَ النِّفاياتِ ، لقد ذهب عمري كُلُّه على هذا النَّحو ولكن أيَّ عمرٍ قد ذهب ، لا بأسَ ولا غرابةَ ، فهو واحدٌ من أعمارِ الصَّامتين !!
أهٍ من الدَّمعةِ الثَّقيلةِ الَّتي تُمَزِّقُ صاحبَها فتُقعدُه فلا يستطيعُ بعدها حِراكاً ، فهل ستكونين يادمعتي هذه المَرَّةُ كالقَشَّةِ الَّتي قسمتْ ظهرَ البعيرِ ؟!.
هُنّ جاراتي، وأُشاهِدُهن جميعاً من نافذةِ غرفةِ معيشتِهم الواسعةِ والمُطِلَّةِ أمامي مباشرةً ، أتذكرُ أمهنّ الجميلةَ والرائعةَ أخلاقاً ، فكم كانتْ هادئةً حَتَّي أنَّني وعلى الرَّغمِ من مرورِ أعوامٍ على مشاهدَتِها فلم أسمعْ لها صَوْتاً، ولكنَّها سُنَّةُ الحياةِ فقد ماتتْ الطَّيِّبةُ مع زوجِها في غارةٍ من غاراتِ هذه الدُّنيا وتركا فيها بناتَهن الثَّلاثة ووالَّذي خلقني لهنّ أنضرُ من زهورِ الرَّبيعِ الباسمةِ ولكن ! يالمرارةِ الإبتسامةِ حينما تنزفُ دموعاً وتَلِدُ جراحاً غائرة!! .
أوسطهن – شهيدة – والَّتي لازم اسمُها معنى صاحبتِه ، فقد توفَّاها اللهُ وغربت شمسُ حياتِها مع إشراقةِ شمسِ أمس – ماتتْ – ولكن أيَّ موتةٍ ماتتْها شهيدة !!

فقد شاءتْ الأقدارُ أن تطيرَ رُوحُها الشَّريفةُ وتجدَ الخلاصَ جوارَ بارئِها أخيراً في حوارٍ قصير - نعم - رحلتْ في حوارٍ ونالتْ الشَّهادةَ في حروفِ التَّعبيرِ عن مشاعرِها.
بدأتْ القصَّةُ قُبَيل ساعاتٍ ، فقد كنتُ أسمعُها وأشاهدُها تُدِيرُ حواراً مع عَمِّها ( الحاكم بأمره ) والَّذي ابتلتْه أقدارُه ، فأصبح مسئولاً عن حياتِهن وتدبيرِ حاجاتِهن بعد فقدانِهن القلوبِ الرحيمةِ في الدُّنيا وأصبحن أيتامَ الأبِّ والأم.

سألتْه شهيدة:
 ما الَّذي سوف يحدثُ ياعمُّ لوأنَّكَ تركتَ لأختي ( شجن ) حرِّيَّةَ اختيارِ شريكِ حياتِها ؟! وكيف تُستباحُ هكذا لِمَنْ لا ترغبُ فيه ولا في معاشرتِه !!
ثُمّ سَكَتتْ قليلاً لتحاولَ أنْ تُهدأَ مِنْ حِدَّةِ حديثِها ، ثمّ قالتْ له مَرَّةً أخْرَى:
 استحْلِفُكَ بالله عَمِّي العزيز وبكلِّ غالٍ أن تُراعى مشاعرَ أختى شجن ولا تكبت مشاعرَها
انتهى حديثُها ، فقال العَمُّ لها ساخراً قولاً في غيرِ موضعِه:
ما هذا العَبَثُ يا ناقصاتِ العقلِ؟! ، ألم يَكُنْ العريسُ الَّذي أُقَدِّمُه هو الأكثر مالاً والأعلى مَنْصِباً ؟! أتعتقِدِين أنّ مِثْلِى يترك فرصةً كهذه ينتظرها منذ أعوامٍ ؟! عجباً لكم أيُّها الجيلُ الأحمق !! اغْرُبِي عن وجهي ولا تُضَيِّعِي وقتي ، بهذه الكلماتِ كان العَمُّ قد اغتال الحوارَ معها وأطبق على أنفاسِ شهيدةَ تماماً بالألمِ واليأسِ وما يَزال ضاغطاً عليها بسخريتِه حتَّى استفزّ جبروتُه ضميرَها ، فقالتْ له بصوتٍ حادٍ أَسْمَع كُلَّ الجيران:
 يا عَمُّ لا هذا المَنْصِبُ الَّذي تُبارِكه ولا هذا المالُ الَّذي ترغبُ فيه يَمْلُكان نبضَ قلبٍ ولا يَصنعان لأحَدٍ أُلْفةَ رُوح وهُنا بَدا العُمُّ وكأنَّه دِيكٌ رُومِيٌ وقد نَفَش ريشَه بعدما أخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإثْمِ وهو الَّذي من قبل كان لا يسمعُ لها صَوْتاً .
فانهال عليها ضَرْباً ولَطْماً حَتَّى كانت اللطمةُ الأخيرة – لطمة الموت – الَّتي أخذتْ برأسِها على طاولةِ الغرفةِ فأمْسَكَتْ أنفاسَها عن الحِراكِ وقلبَها عن النبضِ - وهنا - فاضتْ رُوحُها ولكن فجأة !! بَدَتْ خلفهما أمامي أخْتُها الصُّغْرَى وهذا ما ذبحني أكثر وآلَمَنِي أكثر وسلب مِنِّى وَعيي للحظاتٍ ، لأنَّني رأيتُها في مشهدٍ سيَظلُّ عالقاً ببالي طوال العمر ، حيث تَرَى الدِّموعَ نازِفةً والعيونَ تائهةً بغيرِ نحيب!! فلم أسمعْ منها صَوْتاً خافِتاً واحداً يَسْكُنُ إلَيْهِ ضَمِيري وتُلْقِي - النِّهايةُ - بظِلالِها على عَيْنِي وتُلْقِي الصَّغِيرَةُ بحقيبةِ مدرستِها على الأرضِ ثمّ تَنْهارُ على رُكْبَتَيْها وهاهي مازالتْ صرختُها الغارقةُ غارقةً في غَيَابَاتِ الحَلْقِ تنتظرُ مَنْ ( يَلْتَقِطُها ) مِنْ أيادِي الشُّرفاءِ، وإنَّهُ – لَيَحْزُنُنِي – أنَّني بعدما اسْتَرَدَّيْتُ وَعْيي كنتُ قد أدركتُ مؤخراً أن المسكينةَ كانت خائفةً أن تُصاحِبَ دموعُها تلك - الصرخة الغائبة - فتقول بها لِعمِّها الطَّاغِيَة ..لا..لا !!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى