الأحد ٢٤ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم زكرياء أبو مارية

أوطان صغيرة

(3) الشاعر

عندما سألته عن رأيه في الفيلا، بعد أن أكملت به جولتي السياحية خلال الغرف والممرات والمرافق، قال لي ممتدحا: صندوق العجب هذا.

 تقصد جهازا تلفزيونيا مثلا؟! سألته وهوسي التحليل نفسي يتراقص في صوتي، ويشكل خلفية متفكهة في سؤالي.

ظن أنني كنت أعاتبه، ولكي يلطف قليلا من حدة الصورة عاد بسرعة إلى ألوانه ثم اختار أن يجعل رده بظلال خفيفة، قال لي، مقلدا إغماضي الخفيف لعينيّ وحركات يديّ المتدافعة بحماس وراء تحليلي وأنا أحاول أحيانا أثناء جلساتي العلاجية معه أن أقرب حالته المرضية من فهمه، بشرحها له عبر مركبات تعبيرية كنت أستحدثها في التو:

 فقط لا تحللي ذلك على أنه مخيال تعليبي حول هذا الاتساع والوجاهة.

ما كنت أجهد ذهني لأرتبه حتى ينفع أن يكون مبررا لاستضافته في سكناي بدل العيادة شغلني عن الابتسام، ولكنني حاولت ذلك، ثم أخذت شفتاي تخونا محاولتي، وعندما توارت ابتسامتي نهائيا خلف ترددهما، حول قراري بأن لا أتكتم على مشاعري نحوه أكثر من ذلك، عاد هو ليغذي صمتي مواصلا خلاله بإيقاعه الخاص، وساحبا صورته من حدقتيّ، ليعكسها وإن أقل وضوحا هذه المرة، السطح المرفوع والصقيل للبيانو:

 بغيت نقول أن الاتساع في الخاطر، وعموما يا شامة، أضاف بلغة عارفة وحزينة وأبعد ما تكون عن التقليد هذه المرة، فالحالة النفسية هي ما يجعل المساكن ولو كانت قصورا تبدو مجرد صناديق كبيرة، وبداخل كل منها مجموعة من الصناديق الأصغر، وليس ذلك واقعا هندسيا فقط.

وأنا كنت أعرف أن الشاعر كان مريضا نجيبا، ولكن قانون الأمراض النفسية سن منذ تفشيها البدائي أن تبقى سرا مغلقا دون أصحابه، حتى ولو كانوا أطباء.

(وعرفت أن شامة عادت لتبتسم، مع أن مرمر البيانو لم يكن بالقوة العاكسة الكافية لكي أرى منها أكثر من شبحها المتربص خلفي بلا لون أو معالم، ذلك أن بقايا ابتسامة كانت لا تزال عالقة في شفتيها عندما عدت لأستقصي أمرها وهي تمسك بي من يدي وتسحبني خلفها، وكأن لمساتي الفاحمة، التي اعتبرَتْها هي دون شك ظلالا خفيفة في ردي، لم تؤلم فهمها، ثم هي ربما قصدت مباشرة بعد ذلك أن تحتفل بي، لعلها تبدد حرجي وضيقي، عندما استقبلتني بكامل تفتحها الأوربي في هودج غرفة نومها، ولم تعلم أنها أبلغتني بذلك أوجي من الاختناق والألم...)

كان في مواقع كثيرة من مذكراته يضع نقطا للاسترسال، وكأنْ ليوحي من خلالها بأن ما يختفي من الآيسبيرك هو أعظم بكثير مما يبدو للعيان واضحا وشامخا، وكانت حياته قد استحالت فعلا في آخر مطافها إلى هذا النوع الخارجة عظمته من تواضعه الأعظم، وما كان يعرفه الناس عنه كان القمة الناصعة البياض فقط، إلى أن حاولت الغوص في أبعد أعماقه، بعد أن أتاحت لي ممكنات جديدة لم أكن أتوقعها أن أحقق هذا المستحيل، لأكتشف ما كان أعظم بكثير، وأقوى بياضا ورسوخا، ولا يأتي عليه الذوبان، ولكنه كان في المقابل يختنق ويغرق.

(كنت أحملق في وجهها وأنا لا يتراءى لي في الحقيقة إلا بياض كان قد أخذ غيابي يؤثثه ببعض الرثاء في “فاء” عندما استعادتني شامة من أوزانه وبحوره:

 لا يبدو أنك ترتاح لرغبتي بأن أسكن في عينيك في انتظار أن يتسع قلبك لاتساعي.

وسألتني بفرنسية أنيقة وناعمة إن كانت الأوضاع التي طارحتني بها الغرام وقحة، أو كرست لتوطيد علاقتي بباقي الأبعاد اللاشعورية في مفهوم الخيانة عندي، وكنت وجدت كل الأوضاع مريحة جدا، ولم تتعب بها شامة تذكري بما يكفي لكي أضعها في عينيّ وأسدل جفنيّ عليها كما صنعت دائما مع “فاء”.

كنت موقنا أن قلبي غدا بعد فاتحة أشح من أن يرنو الاتساع إلا ليصدي في فراغاته باسمها دون سواها، فإذا به يتدافع وراء احتضان صوت شامة وهي تخلق هذا الصدى من خالص إبداعها حتى تعاقدنا عفويا أن نلقب حبيبتي بـ“فاتحة”.

 آه يا شامة عدت لأقول لها، لو تعلمين يا شامة، فقط لو تعلمين.)

 ماذا؟ سألته بنبرة أبديت فيها تبرمي، آملة أن يثنيه مني ذلك عن عادة إشراعه لردوده على العالم الآخر كلما كان يأخذه الحزن نحو مخاطبتي بنفس ذلك الاستهلال المتأوه.

 حتى القبور يا شامة، أجابني، حتى القبور عبارة عن صندوق واحد مهما ضاق، ملقى في أرض براح. آه يا شامة، فقط لو يأتي الموت يا شامة ويريحني من عذاب هذا الضيق الذي لا يريد أن يرخي شدّه على صدري مثلما ترتاح فاتحة الآن.

ونادى كوعل ذبيح:

 فاتحة.

وكنت أعرف، وأنا أراه يطلب بندائه هكذا تذكّرها، أنه كأنما كان يطلب من حد السكين أن يمر مروره الثاني على وريده ليؤكد فيه الذبح الذي بدأه ذهابها.

(3) الشاعر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى