الاثنين ٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم محمد السموري

التاريخ الشفهي

الجزيرة السورية أنموذجا

عرَف العربُ منذ القِدَم التاريخ الشفهي الذي يعتمدُ رواياتِ شهودِ العيان، وهي الطريقة البدائية البكر لمحاولة معرفة الزمن،والأحداث ،وامتدّ العمل بهذه الطريقة رغم تطوّر العلوم التاريخيّة ، وقد أثرى التطوّر النظري والمنهجي لتلك العلوم التاريخ الشفهي كممارسة ،لأنّهُ أوجد الأدوات المعرفيّة لتحديدها ، فضلاً عن الجّدل والمناقشات الحادّة التي أثيرت عن طبيعة العلاقة بين التاريخ والذاكرة : الماضي والحاضر،فإنّ هناك مجموعة من الأفكار والمناظرات الإشكاليّة حدّدت شكلاً معاصرًا للتاريخ الشفهيّ،ومن هنا تأتي مناقشة خلافية أخرى عن مدى قيمة التاريخ الشفهيّ وشرعيته (1)

لقد أرّخ العربُ بالأحداث الهامّة النادرة كالظاهرات الطبيعية من : خسوف، وكسوف، وفيضانات ،وبراكين، وزلازل، وأرّخوا بالأحداث الإنسانية: كالحروب، والموت ، والزواج ،والسفر . وحيث لم تكن للعرب دولة واحدة في شبه الجزيرة العربية ، ولم يكن لديهم عادة ُكتابة التاريخ ، لغياب الأسباب والدّواعي الملحّة لذلك ، فالأشعارُالتي تتحدث عن بطولات قبيلة ضد أخرى ، أو تتحدث عن معركة أو بعض الخصال ،كانت تفي بالغرض لحدود الذاكرة الموظفة بمسألة توكيد الذات الفرديّة أو الجماعيّة .

وفي جاهليتهم عرفوا أياما ً جعلوها محطات تاريخية كعام :الفيل، ويوم ذي قار(2)وغيرهما ،ورغم معرفتهم بالتاريخ المدوّن في الإسلام ولا سيّما بعد الهجرة التي اعتُمِدت كبداية للتأريخ عند المسلمين وهي بحدّ ذاتها كانت حدثا مهما في حياتهم ،وعندما نهى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أثناء واقعة مذاكرة الشاعر حسان بن ثابت مع الشاعرين :عبد الله بن الِزبَعْرى، و ضرار بن الخطاب .. فقد نهاهم عن تلك المذاكرة التي كانت بمثابة إشارة للامتناع عن ذكر أخبار ما قبل الإسلام. وعمّت تلك الظاهرة سائر بلاد المسلمين، حتى عهود متأخرة . وما ظاهرة العنعنة إلا واحدة من سبل هذا التأريخ ، وقد أسبغت العرب بخصوصيتها كما سمّوا السنين بأسماء الأحداث الكبرى التي حصلت كامتداد معرفي للطريقة العربية في التأريخ ،فسمّوا السنة الثانية للهجرة بسنة الأمر بالقتال ، ثم تلتها سنوات: التحميص ، الترّفيه ، الأحزاب ، الاستئناس ، الاستغلاب ، الفتح ، حجّة الوداع ، أما السنة الحادية عشرة للهجرة فكانت سنة الوفاة (3) وأرّخوا : بحلف الفضول ، وحلف المطيبين ، وعام الرمادة، ووفاة هشام بن المغيرة ،وكان التاريخ عندهم بموت ابن كعب أبو هُصيص بمئة وعشرين سنة قبل الفيل وهو أول من سن الاجتماع ،يوم العروبة ( الجمعة ) وأطلقوا على الغزوات أسماء الأمكنة :كبدر، وأحد، والخندق ، ذلك لأهمية ربط الزمان بالمكان ،التي هي أحد أوجه وضرورات التأريخ الشفهي .

ونقول : العربيّ أهمل تاريخ الأحداث وتدوينها لأنه مسكون بالنتائج بسبب جدّيته التي أملتها بيئته الثقافية لكنّه سرعان ما يستحضر تلك التفاصيل والأسباب بعد الاطمئنان على الخاتمة . كما تأثّر العرب في ظل الإسلام بالمنهج القرآني في ذكر القصَص حيث لم يدوِّن القرآن الكريم الأحداث بتاريخها بشكل مباشر وإنَّ ذلك يعدُّ من الإعجاز الذي لم تفهمه العامّة من الناس وظلّت مسألة كشفه في عناية المفسرين والعلماء ففي مطلع سورة الروم لم يحددّ البيان الإلهي السنة التي ستغِلبُ فيها الرومُ فارس َبل جعلها في بضع سنين (4) لأن التاريخ هنا غير مهمّ بالقدر الذي تحمله البشرى الإلهيّة ويومئذ يفرح المؤمنون (الروم 4 ) فكان هذا الإخفاء المباشر للزمن بمثابة الإشارة إلى أهميّة الحدث لا إلى أهميّة تاريخه وزمنه .

التاريخ الشفهي في الجزيرة السورية

لقد عرَف أهل الجزيرة السّوريّة- كغيرهم من العرب - هذه الطريقة في تسمية السنين بالأحداث التي وقعت فيها ، وقد ورثوا طريقتهم هذه بالتواتر كحالة امتداد معرفيّ فرضتها بيئتهم الثقافية العربية ونمط حياتهم الاجتماعية القبليّة.ويكثر في الجزيرة التأريخ بحروب القبائل ونزاعاتها ،ولمّا وجدنا الضرر بذكرها تجاوزناه على قاعدة ( لا تسألوا عن أشياء إنْ تبدُ لكم تسؤكم )الى ذكر محطات أهم كالظاهرات المناخية وأهمها حالة نزول الثلج باعتبارها من الحالات النادرة في الجزيرة ذات الجوّ الصحراوي الحار صيفا والبارد الجّاف شتاءً، مما يسببّ القحط الذي لا يبقي ولا يذر حيث تموت المواشي والزروع، فتكون هذه السنين علامات فارقة في الزّمن لايمكن للجزري نسيانها ومن هذه السنين .

1- سنة ذرّ اية ( 1910) من ذرّا :نثر والذر: الهباء المنتشر في الهواء (5) ومنها ذرا البيدر:نثر التبن وأبقى على الحب . ومن هنا اشتقوا اسم هذه السنة فشبهوا الثلج بالتبن المتناثر من البيدر، وهي السنة التي ذرت الثلج وقيل إنّ ارتفاع الثلج بلغ شبرين ( نصف متر) أو كما قالوا من مبالغات: وكان ثلجا أحمرا نخالهُ يحمل أتربة من رياح خماسينية مغبرّة فسمّوها بسنة الثلج الأحمر كما عرفت بسنة الدمّام أي أن الثلج قد غطى الأرض تماما وفي تعبير أهل الجزيرة (دمّ ) تعني طمر بالتراب ومنها دم ّ الميت دفنه، ولأن الثلج غطى الأرض تماما سمّيت بسنة الثلج الدمّام وقد هبّت عاصفة سوّت الأرض حيث جرفت الثلج من المرتفعات إلى المناطق المنخفضة ولذا سمّي بثلج الدمّام وتمّ التأريخ بهده السنة وذلك لغرابة الحدث حيث أن الثلج من الظاهرات شبه النادرة في معظم بلاد العرب ولهذا لا نجد للثلج مرادفات في اللغة العربية،بينما يوجد في لغة الأسكيمو عشرات الأسماء للثلج.

2- سنة الغلاء( 1916)هنا لا يعني المفهوم غلاء الأسعار بالتعبير الاقتصادي والتجاري ، ففي تعبير العامّة الغلاء :هو القحط وكان سببه انحباس الأمطار عن الجزيرة.
وقد شهد هذا العام أحداثا مهمّة كالثورة العربية،وسفر برلك المعروفة بالسوقيات .

3- سنة الوسميّة ( 1917) سنة الوسم هي سنة الأمطار الغزيرة عندما تهطل مبكرا ، وقد أرّخوا بها لأهميتها في حياتهم بعد سنة من القحط والجفاف.

4- وقعة بياندور(1921- ) كانت الحامية الفرنسية تتمركز في قرية بياندور قرب القامشلي وتتكون من حوالي /350/ جنديا بقيادة الجنرال (روغال ) وقد منعت قوات الاحتلال الأهالي من ورود الماء، فاجتمعت قبائل المنطقة وطوّقت الحامية من جميع الجهات وقضت على الحامية وقتلت قائدها ( روغال ) وقيل أن الوقعة كانت قبل مقتل روغال، ولا يزال يدور جدل بين هذه القبائل للتفرّد بشرف مقاومة المستعمر،لكنّهم أجمعوا على اعتماد هذه السنة كتاريخ مهم في حياتهم جميعا .

5-سنة لوفة ( 1925) وهي سنة برد شديد – بحسب المعمّرين – قيل أن الفرات ودجلة تجمّدا في هذه السنة وإنّ الجمال عبرت بأحمالها من فوقهما، وفي اللغة لاف الطعام أكله . وفي تعبير العامّة يقال :( لافت الناس) فصلت بينهم وبين مواشيهم وفي هذه السنة تأسست مدينة القامشلي ،فهي بذلك تتزامن بولادتها مع الثورة السورية ، وإنّ القامشلي تمصّرت في هذا العام وهذا لا يعني البتة بداية الوجود البشري فيها ،وأي زعم من هذا القبيل يجافي الحقائق التاريخية .

6-سنة الجراد ( 1926) وقد غزت المزارع أسراب هائلة من الجراد وقام الأهالي بحفر الأنفاق والسواقي، والضرب على الدفوف وصفائح (التنك) وإطلاق الرصاص ، فعبرت أسراب الجراد نهر دجلة باتجاه الشرق ، وهو عام بناء أول جامع في القامشلي . كما بنيت في عام 1928كنيسة مار أفرام النصيبيني من اللبن .

7-سنة موّاصة ( 1930) في اللغة المواصة : الغُسَالة أي ما غسل به الثياب أو الإناء(6)ولعلهم يقصدون بهذه التسمية إنها سنة جدب ومحل فقد ماتت المواشي كالأغنام والماعز جوعا من شدّة البرد والقحط ويقال: إنّ الثلج دام على الأرض أياما، وتعرف هذه السنة باسم سنة (ضوّاية ) الضاوي في اللغة : الآتي ليلا، وفي تعبير العامة ضوى البعير أناخ ومن المفهوم نستدلّ على أن الثلج دام في الأرض . كما عرفت بسنة أم عظام أي أنها لم تترك سوى عظام تلك المواشي.
 وفي هذا العام تم بناء دار الحكومة في القامشلي .
 وبنيت في العام/ 1931/أول مدرسة رسمية للمعارف باسم مدرسة صقر قريش

8-سنة عامودا/ 1937/أرّخوا بهذه السنة حيث ضربت قوات الاحتلال الفرنسي بالطائرات بلدة عامودا الواقعة غربيّ القامشلي /14/ كيلو مترا. وأحرقت بعض أحيائها ،وقد تصدّى لها الأهالي وقاوموا قوّات الاحتلال وأخرجوها من البلدة.وقد عرفت كثير من السنين التي تلت سنة عامودة وأرِّخت بالأحداث التي شهدتها بمقاومة المستعمر وتذكرعادة ً مترافقة بالبطولات التي أبداها الأهالي . ومنها على سبيل المثال قرية قضاء رجب الواقعة غربي ّ مدينة المالكية بسبع كيلو مترات التي ضربتها القوات الانكليزية العابرة الى العراق/1941/ فتصدى لها الأهالي .

9-سنة الجدري ( 1942) وقد عمّ المدن والأرياف وباء الجدري مترافقا مع وباء الملاريا ، حيث قامت الحكومة بتشكيل لجان لمكافحته،برئاسة الدكتور بكري قباقيبي، وقد قضى خلق كثير بهذا الوباء الفتّاك ،والملاريا كانت منتشرة كوباء منذ تأسيس المدينة واستمرت لغاية الخمسينات وسبب ذلك يعود إلى وجود المستنقعات الكثيرة والأشجار الكثيفة ونباتات القصب والقاميش والسوس والزَّل وغيرها التي تغطي مساحات واسعة على أطراف النهر وانتشار البعوض وأنواع الحشرات فيها ، كما كانت مأوى لقطعان الخنازير والثعالب والذئاب والهوام المختلفة ، و يعدّ وادي الجراح ومستنقعاته الكثيرة أحد أسباب انتشار الملاريا . فضلا عن كثير من الأمراض التي تعرّضت لها المواشي. واجتاحت أسراب الجراد في هذه السنة مزارع المنطقة مرة أخرى ،وعرفت أيضا باسم سنة الجراد

10- سنة السبع ثلجات ( 1943)( سبع الثلجات ) وفي هذه السنة تجمّد نهرالفرات وقيل أن الجمال عبرت فوقه بأحمالها ، كما تجمّد وادي الجرّاح أحد روافد نهر جغجغ ( الهرماس ) الذي ينبع من طور عابدين مرورا بنصيبين ويرفد الخابور، ومن التسمية يتبين أن الثلج قد نزل على الجزيرة سبع مرات . وتسمّى أيضا بسنة العايشة من العَيش. والإعاشة : توزيع الأرزاق والمؤن على الجماعات .

11-سنين الميرة( 1940لغاية 1945) أسس الاحتلال الفرنسيّ ما يعرف بالميرة وعيّن ضبّاطا فرنسيين فيها وتمّت مصادرة إنتاج الفلاحين من الحبوب من قبل قوات الاحتلال الفرنسي ،وكانت ترسل لجان التفتيش على الحبوب والمؤن في المنازل وتنبش ما خبّؤوه في حفر تحت الأرض كانوا يسمونها (الجفر) وشهدت هذه الفترة دخول أول حصادة آليّة لحصاد حقول الأرز حيث كان المحصول الرئيسي للجزيرة . وأول جرار زراعي .ويؤرخ أهل القامشلي خاصة بسنة اسمها (سنة مانوك)تقع – على الأرجح - ضمن فترة الميرة وهي سنة مجاعة، تمّ فيها توزيع الطحين على الناس من مطحنة مانوك في القامشلي .

12-زيارة الرئيس شكري القوتلي للقامشلي (5/5/1947) حيث وضع حجر الأساس للمشفى الوطني في شارع القوتلي- كما سمي فيما بعد أمّا الزيارة الثانية فكانت في 20/11/1955 . ولا يزال الناس يؤرخون بهذه المناسبة .

13-المقاومة الشعبية ( 1956) وقد أطلِق مشروع المقاومة الشعبية ضد التهديدات التركية لسورية، أبان الأحلاف الاستعمارية والعدوان الثلاثي على مصر.

14- -سنة جمال 1959وفي هذا العام زار الرئيس جمال عبد الناصر مدينة القامشلي .وألقى خطابا على الجماهير. وكانت سنة قحط بسبب انحباس المطر .وهذه السنة تذكر لشدّة المجاعة التي تعرّضت لها المحافظة .

15-حريق سينما عامودا/في ربيع عام 1961 وفي هذه السنة احترقت السينما بينما كانت تعرض فلما لأطفال المدارس يعود ريعه لدعم الثورة الجزائرية . وقد قضى حوالي/ 200/ طفلا منهم ، وقد ذكرت روايات عديدة عن أسباب الحريق منها: كثرة استعمال الفلم فارتفعت درجة حرارة المحرّك بينما جدران السينما مغطاة بالخيش، الذي احترق وأحرق السينما ومن فيها . ويتوسط البلدة اليوم نصب تذكاري للشهداء الأطفال .
16- فيضان قبور البيض :في ربيع 1962 وتسمى سنة الفيضة وقبور: البيض الاسم القديم لناحية القحطانية شرقي القامشلي، ففي ربيع هذا العام فاض نهر الجراح وغمر البيوت والمزارع والأغنام . وقد تكررت فيضانات هذا الوادي في سنوات عديدة كونه ملتقى مجاري السيول المنحدرة من المرتفعات المتاخمة للمنطقة.

17- سنة الكوم 1971 وهي سنة مجدبة بيعت الغنم بالكوم أي بالجملة وقيل أن رأس الغنم بيع بكأس من الشاي في المقهى .

ونحن لا نزعم أيّ تاريخ مؤكد ودقيق لهذه السنوات لأنها من مصادر شفاهية تعتمد على ذاكرة بعض المعمّرين في المنطقة (7)ذلك لاعتماد الفئات الشعبية على الذكر الدوغمائي للأحداث مجهولة التاريخ على طريقة التقريب أو الذكر الوهميّ ممّا يضيّع هذه الأحداث ولا سيّما عندما لا تقترن بالظاهرات المعروفة فاستعملوا عبارات فانتازية مثل ( سنين التِرب) للدلالة على الأحداث القديمة جدا .أو ذكر أحداث تاريخية واقعية لكنهم لا يعرفون تاريخها كعبارة ( منذ خراب البصرة ) من قبيل المبالغة .

ولكن كيف تمّ تحديد هذه السنين بتاريخها المتفق عليه كما هو؟ فإن (العوارف والحسّابة ) لديهم معارفهم الخاصة لتحديد التاريخ وحسابه فهم يقولون : ذرّاية قبل الفرمان التركي ولجوء الأرمن إلى الجزيرة (1915)بخمس سنين ،ومن ذراية إلى لوفة خمس عشرة سنة ، ومن لوفة إلى موّاصة خمس سنين ،ومن موّاصة إلى سبع الثلجات ثلاث عشرة سنة ، ومن سبع الثلجات إلى الوطنية ثلاث سنين ، أما الوطنية فهي عام استقلال سورية/ 1946/وهكذا يتم حساب السنين لديهم ، وحفظها بالتواتر والتأريخ بها فهي محطات يتمّ بموجبها حساب أعمارهم ووفيات مشاهيرهم ، وأحداثهم من زواج وطلاق ومعاملات طويلة الأمد كبيع الأراضي واستملاكه،وعمارة القرى ، وتاريخ سكنهم في هذه الديار أو تلك أو الرحيل عنها ، واتفاقات بيع الخيول أو محاصصتها لآجال بعيدة .وهذه السنون تتخللها عادة أحداث صغرى ليس لها صفة العموميّة لأنّها قد تخصّ جماعة محددّة أو فردا ً فلم تلحظ بشكل دقيق لكنها لم تهمل إهمالا كاملا، كالتأريخ للشخصيات الاجتماعيّة من الزعماء السياسيين ومشايخ الدين ، وشيوخ القبائل ،بتنصيبهم ووفياتهم أو أعمالهم المختلفة . وحتى على مستوى الأسرة الواحدة فهناك تواريخ شفاهية يحفظها الوالدان ويحلو لهم تكرارها على مسامع أبنائهم ، ليحفظوها، ثم يجعلوا مقاربة بينها وبين الأحداث الموازية لها، فهم يربطون حدثا بحدث آخر له أهميته القصوى لديهم . كأن يقاربوا تاريخ زواج أو وفاة، أو ولادة أحد أبنائهم ، بتاريخ الرحيل في الربيع إلى مناطق الرعي والعودة في أول الشتاء،فأرخ بعضهم بسنة المرياع وهي أن رجلا تركيا قتل (مرياع) الغنم المدلل (8) فهم يحفظون هذه السنين ويذكرون أحوال كل سنة منها تبعا لمستوى الربيع فيها،أو ما جرى لهم من أمور خلالها ،ويربطونها بأحوالهم الراهنة... وقد يذهب بهم الميل الشديد لمشافهة تواريخهم إلى المقاربة بين أعمار خيولهم ومواشيهم مع بعض الظاهرات والأحداث المهمّة في حياتهم لتأكيد معرفتها.

أمّا طريقتهم في حساب أعمارهم وأجيالهم فتعتمد على حساب الفروق بينها ومقارنتها ، فيقال مثلا :( أنا حملتك على رقبتي )دلالة على أنه يكبره بحوالي خمس عشرة سنة ، ويقال أيضا :( أنا دبكت في عرس أمك )،أو (أكلت من صبحة أمك )، أو (كنت من زفّافة أمك ) وللتعبير عن التقارب في أعمار فئة منهم يقول قائل منهم : كلنا ( قطع سنة ) ويقول : (أنا ابن موّاصة ،وأنت ابن لوفة) يعني أنه يكبره بخمس سنين . وعبارة( أنت واعي جدّي ) وهكذا... والمثل الشعبي القائل :( الشهر المالك بيه خبز لا تعدو ولا تعد أيامه) يكشف للدارس طريقة العرب في الاهتمام بالزّمن .فهم لا يعتنون كثيرا بالزّمن المجرّد ، بقدر ما تهمهم أحداثه. ونؤوّل سبب هذه النزعة لديهم إلى شظف العيش ومكابدة مكدّراته ومنغّصاته فلديهم دوما ما يشغلهم عن الاهتمام بالمجرّدات .

ومن خلال حرصهم على مذاكرة تلك السنين تنجلي أمام تتبُعنا للحيثيات السلوكية لدوافعهم من المذاكرة الدائمة معطيات هامّة نستخلص من دراستها وتأويلها، إن أثرها في نفوسهم دفهم دفعا باتّجاه تأريخها مما أوجد عندهم نوعا من الاهتمام بعلم التاريخ ولما كان لهذه السنين تأثيرها في مجرى حياتهم فذلك يولّد الحاجة الملحّة الأخرى لديهم وهي تطلعهم إلى المستقبل والاعتبار من هجمات الطبيعة المفاجئة ولا سيّما أنهم امتلكوا خبرات كبيرة في إدارة الأزمات والكوارث ، والصّراع مع الطبيعة وما هذه الشجون المتواترة والمتكررة سوى دروس للأجيال ونقل للتجارب والخبرات والأمثلة عبر الزمن. فقالوا مثلهم المشهور ( الما يونّي يغرق )(9) لتأكيد ثلاثية الزّمن بأبعاده الثلاثة الماضي والحاضر والمستقبل .

إن دراسة ظاهرة التاريخ الشفهي للسنين وتوثيقها التاريخي تعدّ ضرورة ثقافية وعلميّة ، وقد يستنبط منها الدّارس والباحث في شؤون علم خصائص الشعوب وتطوّرها معطيات معرفية مهمّة ومَدخلا لفتوحات في مجال الدراسات المستقبلية. وقد حرصنا في هذه الدّراسة على مقاربتها مع أ هم أحداث التاريخ المدوّن ،مما يتيح لنا اعتماد توثيقها على أنها من أحوال تلك السنين التي وقعت فيها تلك الأحداث المعروفة ،كأسباب المعيشة وأشكالها في الرّخاء أو القحط فنهيئ لدراسة تاريخية شاملة للتاريخ الشفهي لقطرنا توثّق تاريخ الشعب وتراثه غير المادي ، ولا تقتصر على ذكر خجول للمحطات التاريخية الرسميّة.
ويمكن أن ينهض بهذه الدراسة مركز للدراسات التراثية لو هُيئ لإحداثه .
والله من وراء القصد

المصادر والمراجع:

1 - د. أمنيــة عامر. مدرس الوثائق في جامعة القاهرة (التاريخ الشفهي: تاريخ يغفله التاريخ .- ع 5 (يونيو 2005) .- تاريح الاطلاع 10/7/2006 متاح في : http://www.cybrarians.info/journal/no5/history

2 - من كتاب المعارف لابن قتيبة عبد الله بن مسلم الدينوري وزارة الثقافة دمشق 2000

3 - التنبيه والاشراف لأبي الحسن علي بن الحسين المسعودي منشورات وزارة الثقافة دمشق 2000

4-البضع: من ثلاثة الى عشرة ، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأول وغلبت الرومُ فارسَ ( تفسير الجلالين )

5- المنجد في اللغة والأعلام دار المشرق بيروت/ 2000 / مادة (ذرا)

6 - المنجد في اللغة والإعلام – دار المشرق- بيروت 2000ط38

7-المصدر الشفهي : من شهود العيان وهم بعض العمرين في محافظة الحسكة والمشهود لهم بالدراية وقوة الذاكرة وهم السادة : صالح عليان الناصر من القامشلي ، ملا ابراهيم العلي رحمه الله قال : انه سيق في سفر برلك ويجيد التركية بطلاقة .- السيد أنيس حنا مديواية صاحب مكتبة دار اللواء ،وهي أول مكتبة ودار نشر في القامشلي1940

8- المرياع: خروف يدلله الراعي فلا يجز صوفه، ويجعل الجرس في عنقه ويسير خلف الراعي لهداية الغنم ، فيدأب على إطعامه ونظافته .

9 ( الما : الذي ، يونّي : الوني هو ساتر ترابي يجعلونة على أطراف الخيمة لمنع السيول . ومعتى المثل ا:لذي لا يحسب حسابه للمستقبل فإنه سيغرق .

الجزيرة السورية أنموذجا

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى