الأحد ٢٩ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم ناصر الحجيلان

ثقافة القيلولة

تعد الفترة التي تفصل الظهر عن العصر هي الفترة الأشد حرارة في الجزيرة العربية لأن الشمس تكون عمودية وكأنها أقرب إلى هامة الرأس أو فروته من أي وقت. وتسمى هذه الفترة في موروثنا الشعبي بـ«القايلة». والبعض يقصرها على الفترة التي تعقب الظهر وتسبق العصر، ومدتها مابين الساعتين إلى الثلاث. ويفضّل أغلب الناس النوم هذه الفترة وخاصة في فصل الصيف، ويُعد النوم في هذه الفترة «قيلولة» تجلب الراحة والاسترخاء. ويُسمى الشخص وهو في حالة النوم بـ«المقيّل»، أي النائم بعد الظهر؛ وكأن ذلك تعبير عن نوع من النوم الذي يتصف بالخفة من حيث سرعة الاستيقاظ أو قصر المدة.

والحقيقة أن للقيلولة أهمية في الموروث الثقافي تبرز من خلال بعض النصوص والتفسيرات الدينية، فقد جاء في تفسير قوله تعالى: ‏أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً‏، أن‏ الذين آمنوا بالله وعملوا صالحًا واتقوا ربهم ‏هم ‏خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا‏‏ من أهل النار ‏‏وَأَحْسَنُ مَقِيلا‏‏ منهم. أي أن‏ مستقرهم في الجنة وراحتهم التي هي القيلولة، تمثل المستقر النافع والراحة التامة في الجنة. أما عن قيلولة الدنيا فروي في حديث مجاهد أنه قال: «بلغ عمران أن عاملا له لا يقيل، فكتب إليه: أما بعد، فقِلْ فإن الشيطان لا يَقيل». وعن أبي فروة أنه قال: «القائلة من عمل أهل الخير، وهي مجمّة للفؤاد، مِقْواة على قيام الليل». وهذا يؤكد أن القيلولة تمثل وقت الراحة والاستقرار الجسدي بالنسبة للإنس؛ وكأنها تعادل مرحلة السكون التي تنعدم فيها (كليًا أو جزئيًا) الحركة البشرية في مكان معين على الكون.

واللطيف في الأمر أن بعض الدراسات العلمية قد كشفت عن أهمية النوم وقت الظهر؛ فذكرت دراسة أجريت في اليونان ونشرت في عدد أكتوبر 2003 من مجلة «نيتشر نيوروساينس» البريطانية أن أخذ القيلولة ثلاث مرات في الأسبوع مفيد للقلب ويحد بشكل كبير من الوفيات الناجمة عن الأمراض القلبية لأنها تخفف من التوتر والقلق. وعليه فإن القيلولة بمثابة العلاج المفيد للإنسان الذي يحتاجه من يعمل، وهذا ربما يفسر لنا حديث مجاهد الآنف الذكر.

وتحظى القيلولة في الموروث الشعبي بمكانة خاصة، فهي تمثل زمن السكون التام، ولهذا يضرب المثل بمن لاينام بعد الظهر بأنه «عبد القوايل»، أي أن الشمس الحارقة قد استعبدته أو أن هذا الوقت قد استهواه فألفه وصارت علاقته به علاقة عبودية. ويطلقون المثل على الشخص العبيط الذي لا يمل من تكرار العمل ولا يحسن اختيار الوقت بأنه «مثل حمار القايلة»؛ ذلك أن الحمير في القرى تنشط في هذا الوقت وتتطارد ولا يهدأ لها بال؛ وكأنها تتجاوب مع غير الإنس في هذه الفترة.

والواقع أن هناك تصورات شعبية تربط بين زمن «القايلة» وبين زمن حضور الجن؛ فترى أن الجن وحدهم هم الذين لا يقيّلون، ولهذا كان حري بالبشر أن يقيّلوا لكي لا يشتركوا مع الجن في العمل أو الحضور في وقت واحد. وتقول بعض التصورات الخرافية أن القيلولة تمثل وقت الأفراح بالنسبة للجن، لأنهم يقيمون حفلات الزفاف والأفراح في هذا الوقت. وهذه الحفلات تظهر على شكل أعاصير تلتف على نفسها وتمشي في الصحراء وقت القيلولة وتكوّن عمودًا يدور على نفسه بحدود دائرة صغيرة لا يتجاوز قطرها الأمتار، وتجمع تلك الريح الأوراق والقراطيس والأكياس مع الغبار وتذهب بها معها، فيمتد ذلك الإعصار نحو الأفق ويرتفع تدريجيًا نحو السماء حتى لا تكاد العين تدرك ارتفاعه. ويتوقع أن هذا الغبار إنما هو غطاء يخفي الجن الذين يصعدون نحو السماء حتى إذا وصلوها أرسل الله عليهم شهابًا يقتلهم نراه يسقط في الليل. وكان الأطفال الصغار يرمون السكاكين على الأعاصير هذه؛ حتى إذا زالت تراكضوا ينظرون إليها ليتأكدوا هل عليها دم أم لا، فإن وجد الدم صدّقوا أنها حفلة فيها خصومة؛ وإن لم يوجد الدم عرفوا أنها حفلة زفاف وفرح. وبعض الأطفال يرمون الملح في هذه الأعصاير اعتقادًا منهم أن الملح سوف يذيب الأعاصير ومن فيها.

وهذه الخرافات الشعبية تنطلق من فكرة أن الحياة في فترة القيلولة ليست للإنس؛ ولهذا فإن الخيال الشعبي يجنح دائمًا إلى التفكير بالأشياء المضادة، ويتوقع أنها فترة للعالم الآخر لكي يتحرك. ووفقًا لهذا التصوّر تُبنى القصص والخرافات التي تتحدث عن اختفاء طفل أو فتاة أو عجوز خرجت من البيت وقت القيلولة فاختطفتها الجن، وعن سماع الأطفال أصوات الأقدام التي تجري خلف بيتهم وحينما يبحثون عنها تختفي، وعن سماع الحفلات والرقص فوق السطوح وعند النظر إليها لايجدون شيئًا.

هذه التصورات الشعبية التي تبرزها الحكايات والقصص الشعبية إنما تعبر عن محاولة الثقافة دعم أفكارها لممارسة عمل معين تريد من الجميع المشاركة فيه، ولكي تفعل ذلك فإنها تربط العمل بقيم أخلاقية لها رصيد عملي معتمدة في ذلك على المعطيات الخيالية التي يؤمن بها الناس.

وفي العصر الحاضر، يلاحظ أن أغلب الناس ظلوا متمسكين بالقيلولة حتى مع تغير ظروف الحياة ووجود وظائف ودوام رسمي يمتد إلى مابعد الثانية أو الثالثة ظهرًا. وقد طرأت -تبعًا لذلك- تغيرات على «المقيال» عند الناس في المدن. وأهم هذه التغيرات أن وقته تأخر قليلا عن الظهر، فصار بعض الموظفين ينامون بعد العصر، وأصبح البعض يسميه بـ«الراحة»، ويطلقون على الشخص النائم في غير وقت النوم بالليل بأنه «مريّح». وإذا كانت هذه التسمية الجديدة قد تسهم في إخفاء معالم القيلولة في الحياة العصرية إلا أنها تتضمن على الأقل التصورات الأصلية لفكرة القيلولة باعتبارها جالبة للراحة، وقد يختفي من القيلولة بعض العناصر كالزمن والكائنات الخرافية المرتبطة به.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى