الأربعاء ١ آب (أغسطس) ٢٠٠٧
بقلم تركي بني خالد

حمى التعليم العالي

استجد الحديث قبل سنوات وتزايدت وتيرته مؤخراً حول ضرورة اتباع معايير محددة في ممارسة التعليم العالي في بلادنا. وهذا النوع من الخطاب وأعني الحديث الجديد المتجدد حول رفع سوية التعليم العالي من خلال العودة إلى أبجديات ومضامين أنظمة الجودة العالمية والإقليمية في هذا المجال الحيوي.

ومن الواضح أن الجامعات الرسمية والخاصة وغيرها من مؤسسات التعليم العالي باتت تتزايد بشكل ملموس لدرجة أن احد كبار المسؤولين وصف هذا التزايد "بالانتشار السرطاني" وهذا معناه أن التمدد والتوسع لمؤسسات التعليم العالي بالشكل الذي نراه لم يعد مرغوباً بل إنه أصبح مكروهاً وبغيضاً إلى الحد الذي بات وصفه بكلمات مرادفه في المعنى لا بغض الأمراض في هذا العصر!

في مجتمعاتنا النامية نشهد إقبالاً كبيراً وتزاحماً فريداً على أبواب الجامعات بحثاً عن مقعد جامعي قد يؤدي بعد ثلاث أو أربع سنوات إلى شهادة جامعية التي بدورها قد تقود صاحبها إلى وظيفة وربما إلى شهادات جامعية عليا تتوج عادة بحرف سحري هو حرف الدال, وما أدراك ما حرف الدال, الذي بات هو أيضا مرادفاً لعلامات البرستيج والوجاهة الاجتماعية.

جامعات في كل مكان على امتداد الطرق الخارجية والضواحي وبين الأزقة والحارات, وجامعيون يحملون كل أنواع الشهادات وحملة دكتوراه وماجستير بالآلاف وأكثر منهم بانتظار التخرج, إضافة إلى مئات الآلاف من القاعدين على أدراج الكليات في المرحلة الجامعية الأولى سيلحقون بطوابير الباحثين عن فرصة هنا أو هناك ولا حيلة لهم إلا (الكرتونة) التي يشهرونها في وجه من يقف أمامهم ظناً منهم أنها سلاح العصر ووسيلة الارتقاء إلى مراتب العلى والتقدم.

جامعات رسمية وأخرى أهلية, وطلاب صباحي وغيرهم مسائي, ومنهم العادي ومنهم الموازي والدولي, وجامعات وطنية وأخرى فروع لجامعات أجنبية, بعضها مرخص وبعضها الآخر لا يكترث للترخيص احتماء بالجامعات الأم.

وطلبة وخريجون يتباهون بـ(كرتونه) يلوحون بها في الهواء عند المرور أمام منصة التخرج, وطواقي وأرواب يتزينون بها ويوهمون بها ذويهم أنهم لا محالة قادمون لمواجهة الزمن الصعب.

ومكاتب قبول موحد وغير موحد جعلت من وظيفتها زج المتقدمين بالطلبات في أماكن قد تناسبهم وقد لا يكونون راغبين بها, وهذا لا يهم على ما يبدو, فالمهم هو تخطي عتبات بوابة الجامعة والحصول على مقعد, أي مقعد, وأي تخصص, في أي كلية, المهم عدم الانتظار في البيت, والخروج بشهادة قد تقيهم برد الشتاء, أو حر الصيف, وربما ترفع بهم درجة فوق خطر الفقر.

المهم شهادة تعلق على الحائط في مكان استراتيجي في صالة الضيوف والمهم شهادة ترفع من مكانة صاحبها ذكراً أو أنثى خاصة المقبلين على الزواج, فمن المهم للزوج أن يكون جامعياً, وللزوجة أن تكون جامعية ظناً من الجميع أن هذا معيار جيد عند التفاوض على المهر وبقية بنود الصفقة.

لا أحد يبدو مكترثاً للبطالة المقنعة أو المكشوفة ولا أحد يبدي اهتماماً بطوابير الباحثين عن رقم في ديوان الموظفين لعل وعسى, بعد عدة سنوات من البطالة أن تشغر وظيفة مكتبية في إحدى الدوائر الرسمية براتب حتى لو كان بخساً متواضعاً.

الضغط على الجامعات يتزايد والحصول على مقعد أصبح حلم الجميع على مقاعد الدراسة الثانوية. والقطاع الخاص من تجار ومقاولي بناء وطوبار ومستثمرين من شتى الخلفيات والاهتمامات دخلوا السوق تحت شعار نبيل هو الشراكة مع القطاع العام ومساعدة الدولة في تحمل أعباء الطلب على التعليم العالي. كلام حق بالطبع, أما المراد به فهو بطن الشاعر.

حالة من الذعر تصيب طلبة الصف الأخير من الثانوية العامة وحالة من الطوارئ والترقب تداهم ذوي هؤلاء, لا خوفاً من عدم الحصول على شهادة الدراسة الثانوية, وإنما قلقاً من عدم القدرة على الحصول على مقعد متقدم في الجامعة. لا رغبة في النجاح وتجاوز المرحلة وإنما في تسجيل أعلى النقاط في ماراثون الركض نحو القبول الجامعي. فلربما يتضايق ويكتئب أو حتى ينتحر صاحب معدل الثمانين أو التسعين لأنه غير راضي بأدائه, فهو في بحث عن 99 أو أكثر للدخول إلى كليات طبية أو هندسية.

هل يحب العرب الطب إلى هذا الحد؟ وهل يعشق أبناء الغساسنة والمناذرة الهندسة إلى هذه الدرجة؟ ترى, هل يريد هؤلاء إعادة أمجاد ابن سينا في الطب؟ وهل سيعلمون العالم الجديد شيئاً أفضل من إبداعات الأنباط في البترا أو عرب الأندلس في غرناطة؟ هل أكثر خريجي الثانوية على هذا المستوى من الحنان والإيثار والشهامة والمروءة لكي يدرسون الطب ممارسة لهذه المهنة الإنسانية النبيلة؟ وهل اللاهثون نحو مقاعد الهندسة عشاق للرياضيات والأشكال والأحجام والذرات والجزيئات فلا ينامون الليل من كثرة لهفهم نحو تطبيق علومهم في مجال الهندسة والتكنولوجيا؟ ترى هل يستمتع طلبة الطب والهندسة وغيرهم من طلبة الجامعات بعلومهم وتخصصاتهم؟

إننا أمام حالة فريدة تشبه الحمى تنتقل فيروساتها من مكان إلى آخر وبسرعة. إننا أمام حالة غريبة تصيب جسم التعليم العالي في مجتمعاتنا وواضح أنها حالة غير صحية.

لماذا كل هذا العدد من الجامعات؟ ولماذا كل هذه الطوابير من الخريجين؟ ولماذا بالمقابل فشلت جميع الجامعات العربية في إحراز مكان واحد بين أفضل خمسمائة جامعة في العالم؟

لا أحد ضد التعليم ولا أحد ينكر أن حب المعرفة هو الطريق الأوحد للنهوض بالمجتمعات, لكن المشكوك فيه إن كانت هذه الجامعات هي حقاً بيوت للمعرفة. ولو كان الأمر كذلك, لكنا سمعنا عن إبداعات علمية وأدبية وفنية هنا وهناك.
لو كان الأمر كذلك, لكنا شاهدنا مظاهر التقدم والثقافة والنظام تعم حياتنا, ولكنا وقفنا على الدور في الأماكن العامة, ولكنا توقفنا عن أو امتنعنا عن ممارسة كل التشوهات في حياتنا.

إنني أتسائل بسذاجة... هل فعلاً لدينا جامعات؟ أتمنى ذلك...! .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى