الجمعة ٢٠ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم صلاح السروي

أبعاد الرؤية الفنية عند نجيب محفوظ

تتعدد أبعاد الرؤية الفنية فى أعمال الراحل العظيم نجيب محفوظ، من تاريخية – غنائية، تعبر عن مرحلته الرومانسية الأولى، كما تتمثل فى روايات (عبث الأقدار) 1939، (رادوبيس)، 1943(كفاح طيبة) 1944، إلى اجتماعية - سياسية تعبر عن مرحلته الواقعية، متمثلة فى روايات (القاهرة الجديدة) 1945، (زقاق المدق) 1947، (بداية ونهاية) 1949، (بين القصرين) 1956، (قصر الشوق) 1957، (السكرية) 1957. حيث يتواصل هذا الخط بعد ذلك بتركيز أقل، وقد غلب عليه خط آخر ألا وهو البعد الوجودى أو لنقل: المرحلة التأملية الفلسفية، غير المرتبطة بالضرورة بتحولات الواقع الاجتماعى أو التاريخى، وهو ما يتمثل فى روايات"أولاد حارتنا"1959، و(الطريق) 1964، و(الشحاذ) 1965. إلا أن هذه المرحلة تبدو أكثر تبكيرا وأكثر وضوحا فى القصص القصيرة وإن جاءت على درجات متفاوتة من مجموعة الى أخرى. بدءا من (همس الجنون) 1938، مرورا ب (دنيا الله) 1962، و(حكاية بلا بداية ولا نهاية) 1971، حتى (رأيت فيما يرى النائم) 1982، إلى أن تتحقق على نحو بالغ النصوع والوضوح فى مجموعتى (أصداء السيرة الذاتية) 1995، و(أحلام فترة النقاهة) 2005. وهاتان المجموعتان الأخيرتان تتأبيان حقا على التصنيف النوعى. فهما، بالطبع، لا تنتميان إلى جنس الرواية، كما أنهما لا تندرجان بسهولة تحت جنس القصة القصيرة، حيث تفتقران إلى بنية سردية قوية، وربما كان من الأفضل تنسيبهما الى نوع الإبيجرام، أو الخواطر الفنية.

ولعلنا نلاحظ التداخل النسبى بين هذه الأبعاد حيث لم تكن هناك مرحلة فنية خالصة ومقتصرة على بعد واحد، وإن كان من الممكن ملاحظة غلبة أحد الأبعاد على مرحلة زمنية بعينها. فلقد ارتبطت الرواية التاريخية بوضوح بأزمة الحركة الوطنية المصرية فى حقبة الثلاثينيات وبداية الأربعينيات، وكأن نجيب محفوظ كان يتحاور مع واقع الأزمة باستدعاء التاريخ واستنطاقه فى مراحله المتأزمة المناظرة فى تاريخ مصر القديمة، فى محاولة لرؤية مخارج كفاحية يمكن أن تفيد فى التعامل مع الواقع المعاصر، وهو الأمر الذى نلاحظه لدى كتاب المرحلة - فى معظمهم مثل محمد فريد أبو حديد وعادل كامل المحامى وعلى أحمد باكثير.

يقول نجيب محفوظ فى (كفاح طيبة):

"أما أحمس أبانا فقال بحماسه الذى لا يعرف اليأس:
حسبنا شعارنا الذى لقنتناه الأم المقدسة توتيشيرى: حياة أمنتحتب أو ميتة سيكننرع، وإن فرساننا لا يغلبون وإن مشاتنا ليتحرقون شوقا إلى القتال". (ص189)

فها هى المخارج الكفاحية تتمثل فى التأهب للقتال ورفض أية حياة تقوم على الذل والاحتلال، بل الموت أفضل فى هذه الحالة، كما فعل سيكننرع باستبساله حتى الموت واستشهاده فى مواجهة الهكسوس (الرعاة) كما تسميهم الرواية، أو حياة كريمة وعزيزة، كما فعل أمنمحتب بانتصاره على الحيثيين. حيث تبدو الأم المقدسة هنا بمثابة الرمز المجسد لروح الوطن وجوهر ارادته (ولنتذكر اقتران الوطن بالأم فى كل الأدبيات الانسانية)، انها الرحم الحانى مانح الوجود وواهب الحياة الذى يطالب أبناءه بالقيام والدفاع عنه. فإذا لاحظنا أن هذه الأم المقدسة هى قائلة:"حياة أمنمحت أوميتة سيكننرع"وهى العبارة التى تتوازى نصيا مع عبارة:"الاستقلال التام أو الموت الزؤام"، شعار ثورة 1919، لتبين لنا أن الأم المقدسة هنا هى مصر التى هتفت كلها بشعار الثورة المعاصرة، ومن ثم يستدعى الواقع المعاصر تاريخنا القديم ويبعث فيه الروح. إن هذا يعنى أن نجيب محفوظ كان يكتب بوعى سياسى وجمالى بالغ الحدة والرهافة.

أما المرحلة الاجتماعية السياسية فقد ازدهرت بوضوح إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها حتى عام 1957 (السكرية)، وهو ما يطرح توافقا واضحا مع فترة ازدهار الحركة الاشتراكية وانتصار الاتحاد السوفيتى فى الحرب العالمية الثانية مما أدى إلى انطلاق حركات التحرر الوطنى ذات الأبعاد الاجتماعية والاشتراكية الواضحة. والنموذج الأبرز لهذه الحركات هو ثورة يوليو 1952. وعلى الرغم من أن نجيب محفوظ لم يختص هذه الثورة بمعالجة روائية مباشرة، مثلما فعل يوسف السباعى مثلا فى رد قلبى 1954، إلا أن روح هذه الثورة تهيم على الدوام فى روايات تلك المرحلة التى تبدأ التأريخ الاجتماعى والسياسى بثورة 1919، ومن واقع الاحتلال حتى الإرهاص القوى للغاية والذى نكاد نلمسه بحواسنا المباشرة فى السكرية، فها هى الحركات السياسية تزدهر وتنتشر وتتعارك فكريا وتتحالف سياسيا، بل ويحتدم الاستقطاب بينها، حتى إن أخوين فى بيت واحد، هما أحمد إبراهيم شوكت وعبد المنعم إبراهيم شوكت، (وهما حفيدا السيد أحمد عبد الجواد من ابنته خديجة) ينتمى أولهما إلى الحركة الشيوعية بينما ينتمى الآخر إلى حركة الإخوان المسلمين، أضف إلى ذلك أن الضابط الذى حضر ليباشر عملية القبض عليهما كان واحدا من ثوار 1919، وصديقا لخالهما الذى استشهد فى هذه الثورة، كما شهدنا فى"بين القصرين"، فهمى أحمد عبد الجواد، إن هذا التناقض بين الأجيال هو ما يطرح مشكل الحركة الوطنية المصرية التى تكلست بفعل اخفاقات ثورة 1919، وقد آن أن تتجدد و تطرح إرهاصها الجديد..."قالت خديجة برجاء: أنا بنت السيد أحمد عبد الجواد وأخت فهمى الذى قتله الإنجليز أيام الثورة، ألا تذكره؟ فلاحت الدهشة فى عينى المأمور وتمتم بصوت مهذب لأول مرة، رحمه الله رحمة واسعة، فقالت برجاء أشد: أنا أخته فهل ترضى لبيتى هذه البهدلة". (السكرية ص373.(

ها هى المواقع تتضح والخنادق تتحدد، حيث أصبح الجيل المجاهد القديم هو الذى يحمى الواقع الفاسد ويدافع عنه، وإن لم يتخلص نهائيا من الروح الوطنية والتعاطف الخفى مع – ان لم يكن الاعجاب ب- الجيل الجديد. فلقد تخلقت قوى جديدة ترفع الراية وتواصل النضال. حتى إذا زج بهم جميعا الى السجن، وبينما كانت أمينة (الأم الكبرى) للعائلة مريضة ومشلولة وعلى شفا الاحتضار (لاحظ رمز الأم هنا أيضا مثلما هو فى كفاح طيبة)، إذا بكريمة زوجة أحمد إبراهيم شوكت، الشيوعى السجين، تشرف على ولادة طفلها البكر. هكذا تتعاصر ثلاثة أجيال متجادلة متحاورة بمستوى يصل إلى أبعد حدود البلاغة الفنية وأقصى درجات القوة الدلالية فى اتساق بالغ وضمن نسيج حدثى فى غاية الإحكام. وعلى الرغم من أن رواية السكرية تنتهى وسط أجواءالحزن الذى يلف الجميع بسبب السجن والمرض وجو الأزمة الخانق، الا أن ياسين يتذكر أثناء سيره مع كمال، ضرورة استبضاع لوازم المولود المنتنظر، إنه الفرج القادم الذى أضحى على الجميع أن يستعدوا له ويتحسبوا لقدومه الذى يكاد يشبه، فى بشاراته وتوقيته، قدوم المخلص. وتأتى هذه العبارة لتختم الرواية بأكملها:

"وكان المغيب يقطر سمرة هادئة، فمضيا ياسين وكمال جنبا إلى جنب نحو البيت" (ص356).
فالمغيب هنا - حسب المعطيات السابقة - لا يمكن إلا أن يكون مغيب عصر كامل ومرحلة تاريخية برمتها فى انتظار المولود الجديد الذى سيبدأ عصره الجديد ولكن أى عصر سيكون.

إنه عصر صابر سيد الرحيمى الباحث عن أبيه فى رواية"الطريق"وعمر الحمزاوى الذى اختل يقينه بذاته وبعالمه، صاحب الرؤي الكابوسية السوداوية، الخائف من ماضيه وغير القادر على الاتساق مع حاضره فى رواية"الشحاذ"، عصر سرحان البحيرى عضو الاتحاد الاشتراكى المنحرف فى"ميرامار"، وعصر أنيس زكى البائس الهارب المسطول الذى لا يستطيع إلا أن يندب الماضى والحاضر – معا - فى"ثرثرة فوق النيل"، إنه عصر القلق الوجودى والصراع بين الدين والعلم فى"أولاد حارتنا"ومحاولة استعادة التاريخ الروحى للبشرية ومحاكمة ما أفضى إليه تعاقب المصلحين وأصحاب الدعوات، ليكتشف الجميع موت الجبلاوى أو عدم وجوده بعين الحقيقة المادية. ولكن هل سيستطيع عرفة، الوارث لمجد المصلحين – الأنبياء - بعد أن استبدل بسطوتهم الروحية قوته المادية، مداواة جراح هذه البشرية النازفة ؟ أم إنه لن يلبث أن يستأنس مرة أخرى لتبقى الحارة غارقة فى الظلم والقهر والاستعباد، تارة بالقوة الروحية لرجال الدين وأخرى بالقوة المادية للعلم ؟ إنها مرحلة البحث المحموم عن الخلاص - الروحى والوجودى هذه المرة.

وهنا يجدر بنا أن نتساءل هل جاءت هذه المرحلة الجديدة مصادفة هكذا؟ أم أنها استندت كسابقاتها إلى الصيرورة السوسيوسياسية للواقع المصرى؟!.. إننى أرجح هذا الافتراض الأخيرة، فعلينا أن نلاحظ أن باكورة هذه المرحلة كانت رواية"أولاد حارتنا"1959.. وهو ذات العام الذى شهد القبض على أعداد هائلة من المثقفين المصريين بتهمة الانتماء إلى الشيوعية، وهو ما فجر ما عرف فى بداية الستينيات ب"أزمة المثقفين"، وقد أصدر محمد حسنين هيكل كتابا بذات العنوان عام 1961. وبصرف النظر عما قاله هيكل فى هذا الكتاب، فهو فى نهاية المطاف كان كاتب السلطة ومنظرها الأول، إلا أن ما يهمنا هنا هو التأكيد على سيطرة مفهوم"أزمة المثقفين"، الذى كان يشير بوضوح إلى أزمة علاقتهم بالسلطة التى كانت - رغم كل انتصاراتها ونجاحاتها الباهرة المتمثلة فى الجلاء والتصنيع والتأميم والوحدة مع سوريا.. إلخ - إلا أنها لم تقبل بأقل من الخضوع التام من قبل كل المختلفين معها، حتى وإن أيدوا خطواتها. وهنا كانت المفارقة بين كون النظام الذى ينادى بالاشتراكية هو ذاته الذى يسجن ويعذب ويشرد الاشتراكيين، وغيرالاشتراكيين، معا. هذه الأزمة – المفارقة - هى التى أنتجت"ثرثرة فوق النيل"، فكانت بمثابة صيحة التحذير المنذرة والمتضمنة فى مصير الفلاح البائس الذى صدمته عربة المثرثرين الطائشة. هذا الفلاح المجهول يكاد يمثل كل الجموع الصامتة المجهولة التى ضيعها زيغ وعدم وضوح الهدف والطيش الذى اقتيدت به السيارة، حيث..."فى البداية ندت ضحكات هيستيرية، وأصوات متهدجة، ثم ارتفعت احتجاجات واستغاثات، انهالت الأشجار متطايرة إلى الوراء واجتاح الأجساد إحساس أهوج بالتردى فى هاوية وتوقع مفزغ بالارتطام فى قرارها"(ثرثرة فوق النيل ص158.)

إنه ذات الإحساس الذى يمكن أن يستدعى العوامة - المكان الذى ترتاده (الشلة)، هذه العوامة المتحركة الزئبقية، المرتعشة دائما، تتحول هنا إلى سيارة طائشة يقودها مسطول بائس من عينة أنيس زكى، ولا أريد هنا أن أبسط الرموز لأقول إن العوامة أو السيارة هى الوطن وما إلى ذلك، ولكن أقول إن هناك انعدام رؤية ما، إحساس ما بعدم الاستقرار، وأن هناك كارثة ما قادمة فى الطريق، ليس باعتبارها نبوءة ولكن باعتبارها حصيلة الضياع وانعدام الشفافية والوضوح. وكان أن وقعت كارثة الخامس من يونيو 67 بعد نشر الرواية بأقل من عام.

إن هذه الرواية تحديدا وإن كانت تومئ إلى مغزى سياسى من نوع ما، إلا أنها حافلة، على نحو بالغ، بالتأملات والرؤى والتصورات حول طبيعة النوع البشرى ومصيره وبؤسه وفظاعته ومعنى وجوده.. إلخ وهذا ما يسلمنا مباشرة إلى قلب هذه المرحلة، مرحلة الرؤى والأحلام والتأملات فى أرجاء الماضى والحاضر واللدن المطلق المتعالى. ولابد أن أشير هنا إلى أن هذا النزوع مرتبط ولا شك بالواقع المحلى وتحولاته السياسية العاصفة. إلا أنه مرتبط كذلك، كشأن المرحلة السابقة، بالتحولات الفكرية والسياسية على الصعيد العالمى. وأعتقد أن موجة الوجودية، والعبث واللامعقول، التى سادت أوروبا فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، كان لها دور كبير فى ترجيح هذا المنحى والدفع نحوه بقوة، وإن كان الأمر عند نجيب محفوظ قد جاء على نحو بالغ الأصالة والعمق، خلافا لآخرين ركبوا الموجة دون وعى عميق بمخبرها. وأظن أن دراسة نجيب محفوظ للفلسفة وولعه بها كان لها دور كبير فى هذا الطرح النفاذ الذى انتظم معظم أعماله التالية، بخاصة القصة القصيرة.

فى هذه المرحلة تضيع معالم المكان، ليس على صعيد مكوناته وسماته المادية ولكن على صعيد دلالته الرمزية، فيصبح مكانا عموديا يمثل الحياة على النحو الأكثر تجريدا من حيث الدلالة، فيصبح حارة ذات سمات عمومية تماما أوفندقا أو بنسيونا أو شقة مفروشة أو عوامة فى النيل.. الخ وكلها أماكن قابلة لأن تؤول مدلولاتها على نحو مفتوح تماما. وجميعها – باستثناء الحارة، التى لاتتغير بتغير الأزمان فى"أولاد حارتنا"، (وهذا أيضا يفتح بابا واسعا للتأويل) أماكن محصورة وغير صالحة الا للاقامة المؤقتة، بما يجعلها محملة بدلالات نفسية وفلسفية، تتعدى الى مطلق الوجود الانسانى.

كما تضيع أيضا معالم الزمان، حتى وإن تحدد بأى تاريخ، ولكنه يصبح الزمان المجرد السيال اللامتناهى. نلاحظ ذلك بوضوح فى قصة"أهل الهوى"من مجموعة"رأيت فيما يرى النائم"، ولنلاحظ دلالة عنوان المجموعة، وهو- بالمناسبة- عنوان القصة الأخيرة بها، حيث جاءت على هيئة أحلام تمثل مقدمة وارهاصا باكرا بالأحلام الأخيرة –"أحلام فترة النقاهة". فى قصة"أهل الهوى"يظهر هذا الشخص الغريب عن الحارة – العالم، مضروبا ومسروقا وفاقدا للذاكرة، حيث تغويه (نعمة الله)، لاحظ دلالةالاسم، وهى امرأة هائلة القوة والسطوة والأنوثة، فى نفس الآن. وهى صاحبة المكان والمتحكمة فيه، والتى يرنو إليها الجميع طالبين الوصال والرضا، ولكنها هى التى تنتخب منهم من تريد حتى إذا استنفد فحولته وقدراته رمته بكل قسوة لتأتى بآخر. المكان قبيح، فهو مخزن خردة ونفاية. ويقع فى بداية الحارة قبو يشبه البرزخ فى غموضه وبشاعته فهو ممتلئ"بالذئاب"،هكذا، المتوحشة، ومنه يأتى القادمون الى عالم (نعمة الله)، أما فى نهاية الحارة فهناك الضباب المخيم، والذى لايكاد أحد أن يميز من خلاله شيئا. انه عالم بين عالمين، ذا طبيعة انتقالية، فلا يداوم البقاء فيه الا رجال (نعمة الله) وخدمها. أما الزمان هنا فغير واضح انتسابه الى أية مرحلة، انه زمان مطلق، مجرد، سرمدى، لا يتقدم ولا يتبدل، فليلاليه مثل كل الليالى ونهراته مثل كل النهارات، مما يفتح دلالته وامكاناته التأويلية على مصراعيها. أما البشر فهم من القبح والبؤس بمكان، حتى الأسماء هى (حلومة) (الجحش) و(رياض الدبش) و(مخلوف زينهم).. إلخ، أما الغريب (عبد الله) كما أسموه فقد جاء من حيث لا يعلم أحد..على فطرته الأولى، بلا دين ولا أخلاق ولا خير ولا شر، وهو فاقد للذاكرة، فلا اسم ولا هوية... إنه، أيضا الإنسان المجرد، المطلق، الذى يقع فى هوى نعيم هذه الحياة الدنيا، والتى لا تخلو من سحر رغم قبحها، ولا تخلو من غواية رغم عنفها. غير أن هذه ال (نعمة الله) لا أمان لها فهى لا تلبث أن تدير وجهها عن (عبد الله)!! نحو القادم الجديد، والذى جاء بذات الطريقة التى جاء بها سابقه. وكما جاء (عبد الله) من حيث لا يدرى أحد، يذهب أيضا إلى حيث لا يدرى أحد، موغلا فى جوف"الضباب"الذى يكتنف عالم مابعد الحارة، منصتا لقول (مخلوف) الممرض- ولنلاحظ دلالة المهنة:"الجميع مصممون على تكرار نفس الأخطاء، حتى ولو بداخلهم أدنى شك فى النهاية يستوى فى ذلك من فقد الذاكرة ومن لم يفقدها". (رأيت فيما يرى النائم ص35. ( وهو يقصد اليقين الواهم الذى يبديه كل واحد فى أنه سيبقى فارس نعمة الله الى الأبد وبلا منافس، غير أنه لايلبث أن يفاجأ بأن زمنه قد ولى، وأن عليه أن يذهب ليفسح المكان لغيره.

هل نحن إزاء مساءلة للمصير الإنسانى المجهول، فى رحلته العابرة تلك ؟ أم إنه ذلك القلق الوجودى الناتج عن التوتر المشدود بين الرغبة فى الحياة، وعدم القدرة على التواؤم مع الشروط التى يتطلبها استمرار العيش فيها فى نفس الوقت. تلك الحياة المتقلبة المتحولة الجميلة الناعمة والخشنة القاسية فى ذات الآن.

هنا يصبح"الحلم"و"الرؤيا"و"الأصداء"بمثابة مداخل مناسبة لرصد المفارقات وطرح الرؤى والتأملات. وهنا يصبح (الشيخ عبد ربه التائه) بطل"أصداء السيرة الذاتية"بطلا للمرحلة التاريخية العامة، وللمرحلة العمرية الخاصة بنجيب محفوظ نفسه كذلك. ولنتأمل استمرار الدلالة العمومية فى اسم (عبد ربه) هنا واسم (عبد الله) فى القصة الآنفة. ويبدو أن الأمر قد تطور عند نجيب محفوظ، فقد أضيفت الى صاحب هذا الاسم العمومى المجهل صفة جديدة، ألا وهى التيه والضياع. فأصبحت مأساته الوجودية مكتملة الأركان.

غير أن نجيب محفوظ لم تستهوه أبدا غواية النظرة الميلودرامية المفرطة فى التفجع، فلم يتوقف عند مجرد الرثاء لهذا (التائه)، كما لم يقع أبدا فى شرك ادانته، بل طرحه كائنا اشكاليا تجتمع بداخله الأضداد، وتصطرع النوازع، وتتجادل الممكنات والاحتمالات كافة. فجاءت الرؤية متوازنة وقائمة على النسبية والاحتمالية، وان كان الخوف والقلق يظللها بغلالة شفيفة.

انه عبد ربه التائه، هذا الشيخ الولوع بالدنيا والنساء والمتغزل فى الموت فى ذات الوقت، الذى يقول عنه نجيب محفوظ:

"ولم يكن الشيخ عبد ربه التائه يخفى ولعه بالنساء، وفى ذلك قال: الحب مفتاح أسرار الوجود". (ص139.( ثم يقول بعد ذلك مباشرة:"قال الشيخ عبد ربه التائه: رأيت الموت فى هيئة شيخ فان وهو يقول معاتبا لو كففت عن عملى عاما واحدا لانتزعت منكم الإقرار بفضلى". (ص.140 ) فالموت صاحب فضل وضرورى ورحيم والحياة كذلك بما فيها من حب ونعيم. انها تلك الوضعية الجدلية المصطرعة المتلاطمة التى تمنح الوجود صفة الخفاء ومعنى اللغز على بساطته البادية.."إن الحياة هنا تراقص الموت". (ص131 أصداء السيرة الذاتية).

وهنا يصح أن نسأل هل هذه الأحلام هى، فعلا، أحلام فترة النقاهة أم كوابيس الاقتراب من النهاية ؟!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى