الثلاثاء ٢٩ حزيران (يونيو) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

أجملُ كفَّينِ في حياتي

في حياةِ كلِّ مخلوقٍ بشريٍّ أشياءٌ جميلةٌ، ونظراتُ الخلقِ إلى الجمالِ تختلفُ اختلافَ طبيعتِهم وثقافتِهم ورؤيتِهم إلى الأشياءِ في محيطِهم.

بعضُ النَّاسِ يرى أنَّ أجملَ وأسعدَ شيءٍ في حياتِه هو لحظةٌ تاريخيَّةٌ قد وُلدَت بعدَ عناءٍ ومشقَّةٍ وتضحيةٍ وجهدٍ دؤوبٍ.. وبعضُ البشرِ ينظرُ إلى كلِّ لحظةٍ ليس فيها بؤسٌ أو مشقَّةٌ على أنَّها مقدِّمةٌ على مشارفِ الفردوسِ الأعلى.. وبعضُ الآدميّينَ يرى في لحظةِ تحرُّرهِ من قيودِ الجهلِ والعبوديَّةِ والألوهيَّةِ المستبدَّةِ ساعةَ ولادةٍ حقيقيَّةٍ لا تُعادلُها ولادةٌ ولو في عرشِ بلقيسَ.. وبعضُ الخليقةِ لم يُميِّزْ بينَ السَّعادةِ والشَّقاءِ فتساوَتْ عندهُم بهائمُ الأنعامِ لا شرقيّةً ولا غربيَّةً (إنّ البقرَ تشابهَ عليهم).. وبعضُ شياطينِ الإنسِ الّذينَ مَدَّت لهم عفاريتُ الزَّمانِ أكُفَّها، فرفعَتْهم من مجاهلِ التَّاريخِ إلى عروشِ فرعونِ، لا يرونَ السَّعادةَ وأجملَ اللَّحظاتِ إلّا حينَ يَحتَسُون كؤوسَ نشوتِهم على هديرِ أسلحةِ التَّدميرِ وهي تدكُّ مدنَهم وقراهُم!!

لكلِّ آدميٍّ ما يراهُ سعادةً.. ولكلِّ بشريٍّ ما يظنُّهُ ولادةً.. ولكلِّ فرعونَ ما يراهُ نشوةً.. وتبْقى أجملُ فكرةٍ منَ السَّعادةِ في ذاتِ الإنسانِ هي تلكَ الذّكْرى الّتي تستيقِظُ فجاءةً وتعيدُكَ إلى الماضي البعيدِ؛ لتستَشِفَّ فيها أجملَ وأنبلَ لحظةٍ في تاريخِك حتّى ولو كانتْ صفعةً من كفِّ مَن نبَّهكَ إلى خطرٍ أو ضررٍ،أو وجَّهكَ إلى منفعةٍ أوخيرٍ!!
إنّ أجملَ وأسعدَ لحظةٍ في حياتي كفَّانِ قويَّتانِ انهالَتا على خدِّي، كانتِ الأولى من جدِّي -رحمهُ الله- على خدّي الأيمنِ حينَما كنتُ طفلاً أتابعُ أعمالَ دِراسةِ البيدرِ، فسوَّلتْ لي نفْسي اللَّعبَ بقِشاطِ الدَّرَّاسةِ المصنوعِ من الكتّانِ يدورُ كالأيّامِ بينَ بكَرةِ الجرّارِ منَ الخلفِ وبكَرةِ الدّراسةِ، ورحْتُ ألمسُهُ بحنانٍ؛ لأستشِفَّ معاني حبِّ الحركةِ وهوَ يترجْرجُ مع هبَّاتِ الهواءِ بينَ الجرّارِ والدَّراسةِ كما تترشْرشُ أذيالُ الرَّاقصةِ مع أنغامِ الموسيقا الصَّاخبةِ، لكنّني لم أهْنأْ باكتشافِ أيِّ معنىً من تلكَ المعَاني؛ لأنَّ كفَّ جدّي منَ الخلفِ على خدّي علّمَتْني درساً آخرَ في معاني الحبِّ في شتَّى معانيهِ وصُورِه معَ عبارةِ توبيخٍ لمْ ترِدْ في مقدِّمةِ ابنِ خلدونَ (عُودي) وهي تَعني الخِزيَ والعارَ لكَ، مع كلمةٍ رائعةٍ كانتْ تُرافقُها باللُّغةِ التُّركيَّةِ لم أعُدْ أذكرُها جيِّداً، لكنّني أدركْتُ معْناها كبِيراً!
أمّا الكفُّ الثَّانيةُ فكانتْ من أبي -رحمهُ اللهُ- حينَما كنتُ أحملُ إبريقَ الشَّايِ ساخِناً وأجولُ بهِ أركانَ البيتِ وأقولُ لأخواتي كلُّ ما في الإبريقِ لي.. لأستنْبِطَ منَ التَّمسُّكِ بالإبريقِ حبَّ التَّسلُّطِ والعنجهيَّةِ، لكنَّ كفَّ أبي منَ الأمامِ على خدّي الأيسرِ قدْ حرمَتْني منْ فنونِ ذلكَ الحُبِّ، لتُعلِّمني درساً آخرَ لن أنساهُ ما حيِيْتُ عن حبِّ الآخرينَ وعدمِ التَّسلُّطِ على مخلوقٍ مهْما كانَ ضعِيفاً!

وأنتظرُ الكفَّ الثَّالثةَ لعلَّها تُعلِّمني درساً آخرَفي معاني الحياةِ بكلِّ ما فيها منْ بؤسٍ وتعاسةٍ وفقرٍ وظلمٍ، فربَّما أقتنعُ بأنَّ الخلاصَ جميلٌ، وأنَّ النّهايةَ عالمٌ أفلاطونيٌّ أجملُ.. وأرجو أنْ تكونَ هذهِ الكفُّ من أمّي وليسَ من أحدٍ سِواها، كما يعتقدُ الكثيرونَ، لما يرونَهُ من انقلابِ الصُّورةِ؛ فآدمُ ضحيَّةُ حوَّاءَ لخروجِهما منَ الجنَّةِ!!

ولولا ثمرةُ الخطيئةِ الّتي أغوَتْ بها أمُّنا حوّاءُ أبانا آدمَ، فرفعَها لقطْفِها، فاكتشفَ سرَّها، ووقعَ في خطيئةِ السِّرِّ، ما أدّى إلى طردِهِما منَ الجنّةِ، ولولا تلكَ الخطيئةُ لظلَّتِ البشريَّةُ بأكملِها كينونةً أبديَّةً في النَّعيمِ، ولما قذفَها اللهُ إلى هذهِ الحياةِ؛ لتشْقَى وتموتَ كالبهائمِ، ولولا تلكَ الخطيئةُ لم يعِشْ في هذهِ الكرةِ الأرضيَّةِ البائسةِ غيرُ القرودِ الّذينَ طوَّرتْهم نظريَّةُ داروين إلى بشرٍ!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى