الخميس ١٠ آذار (مارس) ٢٠٢٢

أحزان الشاعر ونبض الشعر من خلال المجموعة الشعرية «إشراقات وجد»

عرجون محمد هادي

بين إشراقة الحب وإشراقة الوجد نهر من المعنى يوقظ فينا رغبة التحدي ويعطينا الوعد الصريح بأننا سنظفر بالجديد والمختلف في طيات المجموعة الشعرية (إشراقات وجد) للشاعر التهامي الجوادي الصادرة عن دائرة الثقافة – حكومة الشارقة-دولة الإمارات العربية المتحدة، وهو يحمل عبق القيروان وأنفاس الأصالة مدعوماً بوعي بواقع العالم ونظرة معينة للأشياء المحيطة بنا، لاكتشاف الواقع الملموس، فيها من التمرد على الواقع الشيء الكثير، مما جعله ينفث لنا سيلا من شظايا الحزن والوجع، عندما يجعل للشعر أجنحة تهرول نحو المعنى فالشعر عند الشاعر التهامي الجوادي هو مجازفة وإبحار.

فمن خلال تصفحنا لهذه المجموعة نلاحظ أن الشاعر متمسك بالقصيدة التقليدية، ربما لكونها تحمل عبق القيروان وأنفاس الأصالة أو ربما لأنها الأكثر قدرة على استنهاض الأحاسيس وتحريك الوجدان. كما أن هذا الأسلوب يشكل تحديا لشعراء هذا العصر فهو من أصعب النماذج والأنماط الشعرية لمن يرمي ركوبها والإجادة فيها، والدخول إلى أعماقه وجوهره، ليوقظ فينا رغبة التحدي ويعطينا الوعد الصريح بأننا سنظفر بالجديد والمختلف في طياتها. فالشاعر التهامي الجوادي لا يكتب نصه من فراغ ولا يبني نصه على مسلمات. فهو الذي يقود العبارة إلى حيث يريد، من خلال رحلة الشاعر في عالم الخليل، فهو لا يختلق معاني وهمية تتطلب منا البحث والتنقيب في خباياها، بل يوقظ فينا روح الشعر ولذته. وقد تفاعلت مع هذه المجموعة بكثير من القلق، قلق البحث عن المعنى والرّؤيا الشّعريّة التي تسكن صاحبها، الذي بدا مطّلع على مختلف التّجارب قديمها وحديثها، مع حرصه الجلي على إخراج نصه إخراجا تصويريا يقوم على شد القارئ. كما يبحث في المختزنات الذهنية والثقافية من خلال ذاكرته الطفولية التي تشكلت بمضامين ومعاني متعددة لينتقل من الواقع السلبي إلى الفعل الإيجابي، ليعيد صياغتها صياغة جديدة لإخراجها في ثوب جديد وهذا ما ذهب إليه الشاعر والنقاد الأمريكي شبيلد ماكليش Archibald MacLeish في حديثه عن اصطياد الكلمات وتسخيرها: " فالشعراء يدأبون دائما على الخوض والاصطياد على حافة نهر اللغة البطيء الجريان علهم يعثرون على ما يمكنهم اصطياده وتسخيره لاستعمالهم الخاص ".

فالخصائص الفنية للديوان بعد قراءتنا الأولى والثانية التي كانت قراءة المتمعن، تتجلّى في وحدة الموضوع وتنويعاته وتكامل بنائه العضوي والفنّي رغم وجود بعض القصائد المركبة التي تعكس الحالة الواقعية التي يعيشها الشاعر من قلق وجودي وحزن ليعيدنا الشاعر إلى التشكيلات الجمالية على طول المقاطع الشعرية في الديوان ليظهر التكرار المتعمّد في الديوان والإيقاع السريع للألفاظ والكلمات مع كثافة الصور، هذا التكرار يعتبر عند النقاد والباحثين في مختلف الأزمنة من أهم الظواهر الفنية والأسلوبية التي تبين لنا أبعادا دلالية وفنية تحفز المتلقي للنظر والبحث في دلالات القصيدة ومراميها.

فالتكرار يعد من الأسس الأسلوبية التي تعمل على التماثل في النص الشعري خاصة وأنه يساهم في تمتين وحدة النص وتماسكه بالإضافة إلى أنه مرتبط بالحالة النفسية للشاعر بشكل مباشر والذي يظهر من خلال تكرار جملة من المفردات والجمل في القصيدة الواحدة أكثر من مرة، و نذكر أمثلة على ذلك ( من لي سواك يعينني (ص46)، خذوا كل شيء (47)، الآن وحدك (51)، إني أنا القيرواني الذي (59)، هو العمر يجري (77)، إلى أين تمضي خطاي؟(ص91)،...).

فالتكرار يعمل على مزيد إيضاح المعنى قبل الإيقاع، كما أن له أهمية بالغة في ديوان (إشراقات وجد)، بما أن الشاعر اعتمده لاستكشاف المشاعر الدفينة وتبيين الدلالات النفسية والوجدانية لديه، ويظهر ذلك من خلال تكرار الكلمة في صور مختلفة، تتمثل الصورة الأولى في تكرار نفس اللفظ أو نفس السطر الشعري، وأحيانا يكون التكرار بشكل متتابع حيث يؤدي إلى دلالات معينة ليعبر عن همومه ولإثارة إحساس المتلقي كما في قوله (ص49 و50):

"خذوا كل شيء...
خذوا ثوتنا
وابحثوا في الحناجر عنا...
خذوا كل شيء
لتحيوا حياة سعيدة
خذوا كل شيء
ولكن ستبقى الحروف
وتزهر في كل حلق قصيدة"

ليبرز التأثير السحري والبصري وهو ما يكشف خطوط المعنى بين ذاكرة الكتابة وذاكرة الصورة، ليصبح الشعر أداة للتعبير عن المعاناة والتجربة الحقيقية. لتصبح القصيدة عند الشاعر هوية قولية يرتب تفاصيلها في أغلب نصوصه، حتى أننا نلاحظ تكرار ثيمة (القصيدة) بكل اشتقاقاتها اللفظية (قصيدة، قصيدة، قصائد...) أكثر من 24 مرة في كامل المجموعة حيث يقول في نص مهدى إلى روح الشاعر الكبير جعفر ماجد (ص 89 و90):

" إلى ساحر الكلمات الموقر
سلامي إليك قصيد معطر
لأنت سفير القصائد فخرا
بك القيروان تغني وتفخر
ومازال شعرك كرمة ضوء
قطفنا القصائد منها لنبصر
«علية »غنت بشدوك سحرا
أيا ساحرا بالكلام المعبر
ستبقى القصائد والأغنيات
ويبقى القصيد أمره جعفر "

بالإضافة إلى ثيمة (الشعر) بكل ما فيها من اشتقاقات (الشعر، الشعراء، الأشعار) التي تكررت بدورها وجاءت في أكثر من 26 موضع، حيث يقول في نص (إشراقات حب) ص21:

"إني المدجج بالأشعار تنسجني
جرحا عميقا عميقا ليس يندمل
ناديت يا «شعر» مالي صرت مغتربا
بين القوافي وحرفي بالأسى ثمل"

فجاء صوت الشعر كلمة تسري تضمد حالة الحزن التي طوّع الشاعر إيقاعها الداخلي بما يوافق حالته ونفسيته وما يحسّ به تجاه الموجودات وتجاه القيروان، ليخاطب إشراقات الوجد وإيقاع الوجع من خلال معجم الحزن والقلق في الكثير من النصوص سوى بالتلميح أو بالتصريح، فأهدى قصائده لروح والدته ولروح والده الشاعر ناجي الجوادي ولروح الشاعر جعفر ماجد والمقرئ محمد البراق وإلى صديقه وليد الفايدي، هذه القصائد التي تحرك في داخلنا تلك الاستجابات المختزلة والدلالات التي من شأنها أن تظللنا بسحابة سوداء قاتمة انعكست على صفحات الديوان فبدا معجم الحزن طاغيا مع وجود فرصة لاستعادة النبض والتقاط الأنفاس كلما أغرقنا الشاعر في السوداوية.

ولكن الشاعر التهامي الجوادي عندما يستعيد صوته وسيطرته على النصّ يعود إلى حزنه وآلامه، حيث نلاحظ تكرار لفظ (الحزن) حوالي 18 مرة يقول في نص إشراقة وجد: (ص12-13)

"وحدي أرمم هذا القلب من وجع
رممته بدموع الليل فانشطرا
حلمي تحجر في الجفنين مختنقا
أغمضت عيني فسال الحلم منكسرا
ماذا أقول يد الأحزان تقطفني
والأمنيات تهاوت تعلن السفرا"

كما أن استعمال ضمير الـ"أنا" (خبأت– أجلس – تجتاحني – أخيط – شكلت-نفخت-أنحت-أمرت-ألملم-أشق-أغوص-أحرقت-شيدت-رفعت-نسجت-أصرخ-أهطل-أرقص-أغني)، فهو ضمير متطرف يقوم بدور المرسل في عملية الاتصال، غالبا يصف الأعمال والإنجازات الفردية الإبداعية، تعلو فيه صفة «الأنا»، يتحدث به الشاعر عن مشاعره، وغيرها من الأفعال التي نسجت خيوط نصوصه وتماهيها من ضمير الغائب "هي" (تحتفي – ترقص – سجدت – تيبست – أينعت – ترتب-تنتشي-تقطف-تمضي-تلملم-تبحث) و"هو"(يؤثث- يعشش- يقتات-) مع تواترها في نسق تصاعدي كل يبحث عن مكان في نصوصه ليحصل التلاقي والتلاقح بينهما ويستعيد الشاعر صوته وخطابه من حين لآخر مع ضمير الأنا مرة أخرى. حيث يظهر ذلك من خلال قصيدة (جنون): ص69:

" لأن الجنون يؤثث عقلي
يعشش في الروح يقتات مني
فمنه ملأت جرار الخيال
ومنه سقيت نشيدي وفني
ومنه بنيت قصور المجاز
وشكلت وجه القصيد بإذني"

فضمير الغائب «هو» حوار مع الذات يكثر استخدامه في التوضيح والترجمة لاستيعاب ما بين السطور، موقعه «الهو» كما يوظف بين الذوات في الحوارات والاستبطان الداخلي «المونولوج الداخلي» يتبناه الشاعر للحديث برهبة أو برغبة وباهتمام عن مشاعره ومشاعر الأخرين.

وهذا ما يحيل على انفتاح الأنا الشعري التي لجأ إليها الشاعر التهامي الجوادي على الغير وعلى محيطه بما فيه من إيجابيات وسلبيات وهو ما يؤدي في الكثير من الأحيان إلى اتساع رقعة الضمائر في النص الشعري ليضفي على نصوصه الشعرية حركية ما، تجعلها في منأى عن الرتابة التي تسقط فيها بعض النصوص المتمحورة حول أحادية الضمير، مما يجعلها فاترة للغاية، كما أن الأصوات تتداخل في النص الشعري لتكشف عن إيقاعه العام.
فعندما نتعامل مع أنا الشاعر في هذا الديوان لا نتعامل معها كونها أنا مفردة مفرغة من كل معانيها ودلالاتها، بل تمثل الألم والحزن والوجع المسيطر على فؤاد الشاعر فالأنا لم تكن فردية ذاتية بقدر ما هي انعكاس لذات الشاعر، وتضخمها له ما يبرره، وما يدعو إليه، فالشاعر يحاول أن يضعنا أمام حقيقة إحساسه بمدينته (القيرون) – التي تكررت بدورها أكثر من 12 مرة في الديوان- وما يوليه الشاعر لهذه المدينة من حب انعكس على نفسيته، فالقيروان التي يتغنى بها الشاعر، كانت ولا تزال مثيرا شعريا يحرك قرائح الشعراء من أبنائها ومن غير أبنائها، فما بالك بشاعر تتبوأ فيه القيروان مكانا هاما في نصوصه لتكون المعشوقة والمحبوبة، فهو يعكس لنا حالة واقعية يجسدها تارة ويخفيها تارة أخرى في طيات النص.

حيث يقول في قصيدة (قيروان العشق...قيروان الحب): (ص35 و36):
" القيروان حبيبتي بل أكثر
عشقي لها في كل يوم يكبر
ما زلت مثل الطفل تطلب حضنها
منذ الطفولة حبها هل تذكر
القيروان أميرة صورتها
مثل العروس بحسنها تتبختر
وحفظتها أيقونة في مهجتي
وبها أرى كل الوجود وأبصر"

كما يميل الشاعر إلى الاختزال لذلك تبرز بنية قصائده الشكلية بصورة واضحة تتسع فيها مساحة الدلالات، ليكون الوضوح بوابة العبور نحو المعنى، فديوان (إشراقات وجد) صورة لانتصار الذات وانعتاقها والصراع الداخلي الذي تحمله النصوص، فالشاعر في نصوصه تتجلى لنا صلته بالقيروان الماضي والمستقبل ويتواصل وجدانيا مع الآخر ليسابقه فيسبقه أحيانا كلما سكر الأنا واغتاله الحزن لتكون الصورة أكثر مباشرة وأقدر على التعبير في حالته النفسية ووجدانه الخاص وهذا ما يتجلى في قصيدة "رقص على السراب"(ص87):

"هل تقطر الكلمات من أناتي؟
أم تقطر الأنات من كلماتي
هذا أنا وجعي يحاصر بسمتي
كم لاحت الأحزان من بسماتي"

ليشعل قلب المتقبل حزنا تجسد في عبارات وظفها الشاعر لخدمة نصه وتعبيرا واضحا عن حالات الحزن والقلق الذي يعيشه، ولكن هذا الحزن لا يخلو من الوفاء والذكرى لمن فقدهم، فالذكرى صارت ملاذا، ليسلك الشاعر التهامي الجوادي مسلكا مختلفا نسبيا عن الشعراء الوجدانيين كما عبر عن ذلك الدكتور عبد القادر القط بقوله:" أن الأدباء الوجدانيين - الرومانسيين – يختلفون فيما بينهم اختلافا كبيرا في الموقف والفن...، فليس علي محمود طه وإبراهيم ناجي والشابي وغيرهم من الوجدانيين صورة مكرر ة في موقف كل منهم من الحياة والطبيعة والمجتمع ، وفي التعبير الفني عن ذلك الموقف "(1)، فعندما يضيق الشاعر بهمومه وأحزانه، يكون البديل اتساع الكلمة وانفتاحها لتطلّ علينا بإشراقات الوجد وإن كانت تراتيل وجد.

وفي الختام يمكن القول إن الشاعر في هذا العمل يسكب حزنه وآلامه ليحافظ على الطابع الوجداني الذي وشح به قصائده التي بدت نتاج للمشاعر والأحاسيس فقد أفرز لنا شعره جملة من العواطف الكامنة في نصوصه بدت صريحة تارة وخفية تارة أخرى تقودنا إليها موسيقى الشجن وبذلك تكون هذه المجموعة قد أنجزت الغاية أو بعضا منها في تقريبها للقارئ ابتغاء الوصول بمحتوياتها الفنية وإخراجها في أحاسيس لها أجنحة.

 (1) كتاب: الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، د .عبدالقادر القط، ص 14، دار النهضة العربية الطبعة الثانية1981.

عرجون محمد هادي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى