الجمعة ٢٨ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم محمد أحمد العدوي

أخلاق الكون

«وأن اجعل لهذا البناء بابا مكتوما إلا عن حكماء الحق»

ما الذي يجعل أعمدة المعابد في أسوان بلا ظل في يوم الانقلاب الصيفي؟ وهل تختفي ظلال الأعمدة في الإسكندرية في نفس اليوم؟

كان هذا هو السؤال الذي طرحه إيراتوسثينيس واختبره ليجد أن ظلال الأعمدة لا تختفي في الإسكندرية في يوم الانقلاب الصيفي. وإذا كانت الشمس هي الشمس والأعمدة هي الأعمدة فما الذي غير سلوك الظلال بين هاتين المدينتين؟!

بهذا السؤال استطاع ايراتوسثينيس استنتاج أنه لابد وأن تكون الأرض كرة، وأن كلا العامودين لابد وأنهما يصنعان زاوية حين يلتقيان في مركز الأرض. استأجر ايراتوسثينيس رجلا قاس المسافة بين الإسكندرية وأسوان بعدد الخطوات وبقياس طول الظل في الإسكندرية انتهى إلى أن محيط الأرض أربعون ألف كيلو متر وهو الرقم الذي لا يخرج كثيرا عن الحساب الدقيق إلا بكسور قليلة.

يعلق كارل ساجان على هذه الحكاية ويقول: إن العالم أكثر إمتاعا للعلماء وللذين ينظرون بعمق إلى الأشياء، ولولا نظر ايراتوسثينيس وفضوله ما وصل لما وصل إليه.

عبارة أخرى أبدأ بها لرالف والدو إيمرسون في مقال له: إن رؤية الكواكب عبر تليسكوب تستحق هذا الاتجاه للتفكير في علم الفلك فالصدمة التي تحدثها شرارة كهربائية في الكون تفوق في قيمتها كل النظريات.

الكون حكاء لا تنضب حكاياته. بل هو أكبر حكاء يمكن الاستماع إليه دون ملل. فتتن البشر منذ القدم، نظروا إليه نظرات بين الرهبة والتقديس، جعلوا من مفرداته آلهة يقدمون لها القرابين. كان غموضه يساعدهم في نسج ما يريدون من حكايات. ومع تآلفهم معه واتساع مساحة المعرفة نمت صداقة بين الكون وبين البشر حتى وصلت لحد الهجاء حين نقرأ في المستطرف مثلا قول رجل في حق القمر: "يهدم العمر، و يوجب أجره المنزل، و يبهت الألوان، و يقرض الكتان ، ويضل الساري، ويفضح العاشق، ويعين السارق".

القمر أشهر الأجرام التي عرفها البشر بعد الشمس. تابع الأرض الذي يريها وجها واحدا من وجهيه منذ التقيا أول مرة. لا نعلم لم يخفي القمر وجهه الثاني عنا. كما أننا لا نعلم كيف كان لقاؤه الأول بالأرض. تقول حكاية إنه ابنها، انفصل عنها ثم أمسك بيدها لئلا يضيع في فراغ الكون الواسع، وتقول حكاية أخرى إنه ولدٌ ضالٌ تبنته الأرض. كان ينطلق بسرعة في الفضاء فخشيت الأرض أن يصدمها فتنهار، فاحتالت له حتى سكن إليها وهدأ ثم أصبح تابعا لها.

ولأن الناس يرونه كل يوم، وهو يولد ويكبر ثم يشيخ، يصحبون رحلته كلها. ولأنه يبدد الظلام، ولأن ضوءه بارد حنون أحبه البشر واتخذوه أنيسهم في الليل. ورسولهم بل ومضرب أمثلتهم في الوضاءة والجمال.

و القمر هو المرآة التي تطمئننا أن الشمس لازالت بالجانب الآخر لم تفارقنا، وأنها ستعود في الصباح.

سوبر نوفا .. قد كان هنا يوما نجم

النجوم كائنات تبدو هادئة وادعة وقورة، تظهر في السماء وتختفي. لا تبدو منها تلك القوى العنيفة التي تسكنها. قوة جذبها لأطرافها وقوة انفلاتها من نفسها، والاتزان بين هاتين القوتين هو ما يحافظ عليها وعلى الكواكب الدائرة حولها. وما استمر الاتزان؛ طال عمر النجم. لكن هذا لا يدوم إلى ما لا نهاية. فسريعا يثقل قلب النجم حين يكثر الحديد في قلبه وتصبح قوة جذبه لأطرافه أكبر من قوة انفلاتها. ولتحافظ النجمة على حياتها يصبح عليها أن تزيد من قوة التفاعلات فيها.

لا يمكن للهيدروجين – وهو الوقود الرئيس في النجوم - وحده المحافظة على حياة النجم في هذه المرحلة. فتتجه إلى الهيليوم. الهيليوم في العادة مسالم وادع يلزمه الكثير من الاستفزاز حتى يخرج عن وقاره. حرارة النجم العجوز تكون كافية لهذا.. لأن يقتحم العملية دفاعا عن النجم وحفاظا عليه من الانهيار.

تطيل هذه العميلة عمر النجم. لكنها لا تمنعه من النهاية المحتومة. يبدأ القلب مرة أخرى في الثقل وتزيد قوى جذبه. هنا تتوقف الكواكب الدائرة لحظة كأنها تعي ما يحدث .. وتنعكس حركتها اضطرابا ثم تبدأ في الابتعاد. تتحرر فجأة من القوة الجاذبة للنجم لئلا يبتلعها وهو ينهار.

النجوم التي عاشت كريمة لا تموت النجوم بانفجار يحطم ما حولها. إنها تموت في ذاتها، تنقلب على نفسها مخلفة ضوءا قويا يستمر بعدها أسابيع عديدة معلنا : أن قد كان هنا يوما .. نجم

رتب العالم .. فكشف أسراره

هل فكر مندليف وهو يرتب العناصر في جدوله بشيء كهذا، أظنه فعل. خصوصا أنه ترك أماكن خالية لعناصر لم تكن معروفة قد توقعها. كان توقعه مبني على إيمانه بأن الكون دائرة، لابد أن تتصل نقاطها ذات يوم لتكتمل.

لقد كشف الجدول الدوري حين ترتبت العناصر فيه عن أن العناصر في الكون كلها تسلك مسلكا يمكننا الاستدلال على سلوك بعضها من سلوك الآخرين. يكفي معرفة موقعه للتنبؤ بسلوكه.

كان مندليف الأخ الرابع عشر والأخير في أسرته، ولابد أن أدرك كيف يؤثر موقع الشخص في سلوكه. كيف يحظى الأخ الأكبر بدهشة الاكتشاف الأول وكيف يؤثر الأخ الأكبر في شخصية الذي يليه. وكيف يفوز الأخ الأصغر بحنان الشيخوخة حين يمثل هو أمل الحياة، أو بشقاء الحرمان حين لا يدرك هذه الشيخوخة الحانية.
جدول مندليف جعل تصور الانتقال بين العناصر سهلا. لقد كشف أن عناصر الكون كلها تتشابه في أصل تكوينها. وأن الفروق الصغيرة في التكوين تكفي لتصنع فروقا جوهرية في الخصائص والصفات. إن النيتروجين والأكسوجين والفلور عناصر متتالية، أحجامها متقاربة لكن واحدا منها فقط هو ما استحق أن يكون بوابة الحياة.

الكون دائرة .. والدائرة فاضلة:

في المدرسة، قضيت أول يوم اقتنيت فيه أدوات هندسة في رسم دوائر. دوائر كثيرة بكل الأحجام التي يتقنها فرجاري الصغير. ولما تعلمت كيف أرسم دائرة بمسمار صغير وخيط لم يعد شيء يحجب عني رسم دوائر بالأحجام التي أريدها.

كانت الحسابات التي تجري على الدائرة مصدر تساؤل لا ينقطع، لم هذا الرقم الذي نستعمله في كل العلاقات التي تتصل بالدائرة بسبب، في الكرة والاسطوانة والمخروط. أول من حدد هذه النسبة بشكل تقريبي كان أرشميدس واستعمل لذلك مضلعا من ست وتسعين ضلع داخل الدائرة. كانت الدائرة مهمة لهم بقدر اهتمامهم بالنجوم. فحسابات السماء كلها تقوم على هذه الدائرة.

هذا الثابت هو النسبة بين محيط الدائرة ونصف قطرها. والذي سماه العرب في كتاباتهم هذه النسبة "النسبة الفاضلة".

بعد ذلك تعلمنا ثوابت أخرى كثيرة نستخدمها في كل العمليات الرياضية التي نتعرض لها. ظهر لنا أن الكون كله يقوم على نسب فاضلة.

استخدم ابن مقلة النسبة الفاضلة كما سماها العرب أو النسبة الذهبية كما سماها اليونان قبل ذلك في بيان موازين الحروف في الخط العربي وبين إخوان الصفا في كتاباتهم النسب التي يقوم عليها الجسد البشري ولم يكن هذا النوع من التصوير شائعا في الثقافة العربي:

"فكان طول قامته ثمانية أشبار بشبره سواء (أي بشبر الطفا) فمن رأس ركبتيه الى أسفل قدميه شبران، ومن رأس ركبتيه الى حقويه شبران، ومن حقويه الى رأس فؤاده شبران، ومن رأس فؤاده الى مفرق رأسه شبران . فإذا فتح يديه ومدهما يمنة ويسرة كما يفتح الطائر جناحيه وُجِدَ ما بين رأس أصابع يده اليمنى الى رأس أصابع يده اليسرى ثمانية أشبار. وعلى هذا المثال والقياس يعمل الصناع والحذاق مصنوعاتهم، من الأشكال والتماثيل رالصور، مناسبات بعضها لبعغى في التركيب والتأليف والهندام، كل ذلك إقتداء بصنعة الباري"

أخلاق الكون:

العنوان الذي بدأت به. والذي كان لزاما أن أعود إليه لأضع تعريفا لما أردته به.

الأخلاق هي مجموع ما يحتويه الفرد أو المجتمع من الفضائل أو الرذائل أو هي العلم الذي يدرس السلوك، ما هو حسن وما هو سيء. ومادامت الأشياء تسلك في حياتها مسلكا فقد يجوز أن يدرس هذا المسلك بين الحسن والسوء وفق قانون الأخلاق. هذا حين يكون للأشياء الاختيار في مسالكها. والكون، كل الكون، إنما يسير وفق نظام رياضي مركب لا اختيار له فيه. لأجل ذلك يكون اختيار الكلمة هنا في غير موضعه.

لكننا بتأمل صغير نجد أنه ما من حركة صغيرة في الكون لا تكون منها مصالح مركبة بعضها فوق بعض.

الكون كله يسير إلى الاتساع وإلى أن يحافظ على حياته وحياة مفرداته.

إن نظرة واحدة في السماء تكفي لنعلم منها أن النجوم تحب النجوم. وإنها تحافظ على مسافاتها، لا تقترب فتنهار ولا تبتعد فتنهار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى