الخميس ١٠ شباط (فبراير) ٢٠٢٢

أربعون ليلة

ليزا زغلول

في الواقع بدأ الأمر كحلم بسيط يزورها على استحياء وسرعان ما كشر عن أنيابه وأفزعها فباتت تفر من النوم وتفتعل المستحيلات لتظل يقظة قدر الإمكان، ولكنها بالأخير مهما تناولت من المنبهات تسقط بالنوم دون أن تشعر وتستيقظ بعد فترة بوجه شاحب مخيف كأنها عادت للتو من حرب ضروس استنزفت قوتها وتركتها على قارعة الفراش تصارع شهقات صدرها المتخبطة وحبات العرق التي تغزو جبينها.

"ريما" قضت طفولتها في دار للأيتام وها هي على قرابة من ترك تلك الدار بعد بضعة أشهر، ستخرج لمواجهة العالم وحدها فهي لم تعد طفلة، آن الأوان لتشق طريقها وتجد وظيفة تُعِيل بها ذاتها.

بدأ المرض فجأة ينهش بجسدها منذ ما يقارب الشهر حيث أصاب وجهها الذبول وافترشت الهالات السوداء مساحة واسعة من ملامحها وبات وزنها يتناقص بسرعة ملحوظة، لم تدخر مديرة الدار جهدًا للعناية بها، وحرصت على اصطحابها إلى العديد من الاطباء خشية أن يصيب تلك الصبية البريئة صاحبة العينين السوداوين والشعر المجعد الطويل المنصبغ بلون الكاكاو مكروه فلا تغفر لنفسها ذلك الإثم؛ فهي تعامل جميع الفتيات بالدار كبناتها.

ولكن جميع الأطباء النفسين التي زارتهم ريما أكدوا على سلامتها العقلية وعكفوا فقط على إعطائها بعض العقاقير المهدئة التي لم تقدم لها شيئا جديدًا سوى أنها تجعل منها دمية يسهل تحريكها لقليل من الوقت وبعد فترة لا تتجاوز الأيام المعدودة يعتاد جسد ريما على الأدوية بسرعة رهيبة أدهشت الأطباء فتعود لاستيقاظها في منتصف الليل فزعة وتدخل في نوبات من الصراخ.

وذات ليلة ذهبت إحدى المشرفات إلى غرفة مديرة الدار لتطرح عليها حلًا لتلك الفتاة التي تصرخ أثناء النوم ويمتنع رفاقها عن النوم معها بنفس الحجرة من شدة الخوف، الأمر الذي جعلهم يتوجهوا للمشرفات طالبين منهم نقل ريما بعيدًا عنهم.

تعاطفت مديرة الدار مع ما يحدث لتلك الفتاة وانتقلت لحجرتهن وكانت تنوى في قرارة نفسها أن توبخهن بشدة على التنمر من أزمة تمر بها صديقتهن، ولكنها للمرة الأولى ترى ريما في ذلك الوضع ما كان يصلها كانت أحاديث ووصف لحالتها عن طريق المشرفات وشريكاتها بالغرفة.

كانت الغرفة تحوى ثمانية أسرة حديدية متراصة بجوار بعضها كل سرير تجاوره طاولة صغيرة تضع الفتيات عليها متعلقاتهن البسيطة دارت بعينها فوجدتها تحتضن ذاتها على سرير في أقصى الغرفة بجوار النافذة اقتربت منها إلى أن وقفت أمام سريرها، اعتصرت شهقاتها المتعالية قلب المديرة التي شعرت بالأسف على ما وصلت له ريما، مدت يدها ومسدت بأطراف أناملها على شعرها فانتفضت ريما ولكن نظرات مديرة الدار طمأنتها، رفعت ريما وجهها ببطئ مرة أخرى نحو السيدة والدموع تنحدر من عينها كشلال فجذبتها مديرة الدار من يدها برفق وعاونتها على النهوض، قامت ريما معها دون مناقشة لا تعرف وجهتها ولكنها تدرك أن المديرة ستلقي بها خارج الدار لا محالة، لم يتحملها أحد حتى رفاقها عجزوا عن فهم ما تمر به وسارعوا لطردها من الغرفة، خرجت المديرة من الغرفة برفقة ريما وبدلًا من أن تتجه إلى الممر المؤدي إلى بقية الغرف هبطت إلي الاسفل وهبط معها قلب ريما التي تيقنت أنها ستقوم بطردها ولكنها سلكت طريقًا آخر مبتعده بها عن بهو الدار تبين بعد بضعة خطوات أنها تقصد غرفتها التفتت المديرة إلى تلك المشرفة التي كانت تتبعهم وأمرتها بجمع أغراض ريما واللحاق بها.

ساعدت المديرة ريما بالتمدد على السرير ودثرتها جيدًا وطمئنتها بأنها ستظل بجوارها.

جلست تقرأ في تلك المجلة قليلا، تفقدتها بطرف عينها واطمئن قلبها عندما شعرت أنها قد غطت في النوم أخيرًا.

عادت لتكمل ذلك المقال ولكن فجأة شعرت بحركة عنيفة على السرير، كانت ريما تقوم بحركات غريبة تلتف حول نفسها وتلوح بيدها كأنها تقاوم أحدًا ما يحاول قتلها، بدأت في نوبة من الصراخ الذي عم أرجاء الغرفة وقفت السيدة في منتصف الغرفة غير مدركة لما يحدث حولها، فجأة بدأت حوائط الغرفة بالتشقق لتنسكب منها دماء تلوث أرضية الغرفة ثم تساقطت بعض أجزاء الجدران لتخرج منها بعض الديدان التي أخذت تتلوى ووتساقط ثم زحفت إلى حيث كانت تقف مديرة الدار والتفت حولها، بدأت المديرة تصرخ بصوت مرتفع هي الأخرى لعل أحدًا ينقذهما لكن تلك الفتاة كانت تصارع على السرير وهي لا تشعر بما يحدث بجوارها وفجأة سقطت تلك الديدان أرضًا واختفت فانطلقت مديرة الدار إلى السرير وحاولت أن تجعل ريما تستيقظ من ذلك الكابوس الذي تمر به.

كان جسد ريما باردًا جدًا بالرغم من حرارة الطقس، صرخت ريما في وجه السيدة وحاولت إلقائها من السرير، انتبهت السيدة بأن تلك الصغيرة لا تملك كل هذه القوة لابد أن هناك شيء آخر يتحكم بها فبدأت تستعيذ من الشيطان الرجيم إلى أن تهادى جسد ريما وارتخي، وهدأ اضطرابها ثم سكنت وانسالت دموعها وعلى نحيبها، هدأتها السيدة وطلبت منها أن تقص عليها ما حدث معها بدون أن تخفي عنها شيئا، ظنت مديرة الدار في البداية أن ريما يرافقها جن عاشق يحاول إغوائها ولكن ما قصته ريما عليها كان أبشع بكثير من ذلك، الأمر الذي دفع مديرة الدار لترك ريما في الصباح في أمانة إحدى المشرفات وذهبت لأمر هام ثم عادت بعد فترة من الزمن تصحب رجلًا غريبًا وأمرت المشرفة باصطحاب الفتيات والذهاب في نزهة إلى الحديقة المجاورة.

خلت الدار من الفتيات وظلت ريما ومديرة الدار والغريب الذى أحضرته السيدة جلس أمام ريما وسألها عما يحدث معه فكانت صدمته شديدة عندما أخبرته ريما أن صوته مألوف لها ولكنها لا تستطيع رؤية ملامح وجهه، انتفضت ريما حينها ونظرت إلى مديرة الدار فرأت ملامح وجهها التي اعتادت على رؤيتها ثم أعادت نظرها للغريب فلم تر ملامح لوجهه فصرخت وفزعت وباتت على مشارف نوبة أخرى من الهياج، لم يكن بيد الغريب حيلة في ذلك الوقت إلا أن بدأ في التمتمة ببعض الكلمات، التي ساعدت ريما على الهدوء والاستكانه لقليل من الوقت وعندما حدقت به مجددًا انخرطت في البكاء مرة أخرى وبدأت بأنامل مرتعشه تشير اليه وهي محدقة به تارة وتارة أخرى بمديرة الدار وما إن أنهى تلك الكلمات التي كان يقرأها حتى تلعثمت وهي تخبره بأنها ترى ملامح وجهه الآن جيدًا، ثم نظرت إلى مديرة الدار وأجهشت بالبكاء قائلة....

 نعم إنه هو من أراه في أحلامي.

جلست السيدة أمامه وقالت الآن يا سيدى أخبرني ما يحدث معها فقال لها.....

أخبرتيني بأنها ترى فتاة قبيحة تقف في طريق مقابل لها تريد قتلها وهناك صوتًا ينادي باسمها ويمنعها من الاقتراب واذيتها.

 بالطبع هذا ما روته لي بالأمس ذلك الكابوس يطاردها يوميًا.
 انها التابعة.
 وما هي التابعة يا سيدى؟
 هي الأنا أو إن شئتي يمكنك القول بأنها القرين، هي لا تنوى أذيتها هي فقط تخبرها بأن الوقت قد شارف...
 لا أفهم شيء، أي وقت تقصد؟.
 التابعة لا تتحرر من الجسد إلا قبل أربعون ليلة من وفاة الشخص، كم يوم انقضى على رؤيتها لها؟.
 لا أعلم بالظبط ولكن تجاوزت الثلاثون يوم.
 اذا فقد تبقى القليل.
 ساعدني لانقاذها أرجوك.
 أعلم أنكِ بموقف صعب ولكن لا حل ريما تتمتع بشفافية عالية سهلت عليها رؤية تابعتها.
حدق بريما وقال لها لا بأس جميعنا سوف نرحل، استسلمي لقدرك ولا تقاومي ثم تركهم واستدار ليغادر وعندما هم بالخروج من الغرفة إلتفت وألقى نظرة أخيرة على ريما ثم قال لها....
 لا تخافي من شيء سأظل بجوارك وسآتي لكِ يوميًا لن أترككِ إن كان لي دور في قصتكِ لن أتخاذل عن تأديته على أكمل وجه.

رحل الغريب وظلت ريما تبكي في صمت، استسلمت للنهاية وودعت رفاقها كما أمرها الغريب، حاولت احصاء تلك المدة التي قضتها وهي محاطة بتلك التابعة في كوابيسها ولكنها لم تنجح في العد لذا سلمت أمرها للخالق وتوقفت عن احصاء الأيام، كانت السيدة تراقب ريما عن كسب قلبها مليء بالخوف تخشى تلك الساعة التي سيخبرونها بها بوفاة ريما.

دخلت المشرفة في ظهيرة إحدى الأيام لتبلغها بإختفاء ريما ذهبت السيدة لغرفتها لتتفقدها ولكنها وجدت ريما اختفت حرفيًا كمن انشقت الأرض وابتلعته بعد أن تركت ملابسه ملقاة في ألارض.

أسرعت السيدة لتستعين بالرجل الغريب الذي قابلته بالقرب من المسجد فيما مضى لتبلغة بما حدث فقد خشت أن تكون تابعة ريما هي سبب اختفائها ولكنها لم تجده أيضًا أوقفت أحد العاملين بذلك المسجد وسألته عن الامام فأشار لها عليه ولكنها أخبرته بأنه ليس المقصود بل شخص آخر وشرعت في وصف ملامح ذلك الغريب التي ما زالت محفورة بذاكرتها فقد رأته لسبع ليالٍ حضر خلالها وجلس يتلوا على ريما لتهدأتها، شعرت بأن الأرض تدور من تحتها، وأخذت تتساءل بينها وبين نفسها عن حقيقة من أحضرته بيدها إلى الدار؟

ترى من أحضرته وتركته بأمانة الصغيرة يومًا بعد يوم بحجة أنه يؤهلها لتقبل وفاتها هل تمعنت سابقًا في ما كان يتلوه في أذنها بصوت هامس كان يتمتم بكلمات خفيضه لم تصل إلى مسامعها اختلط عليها الأمر وظنت أنه ربما يقرأ لها بعض الأدعية أو شيء من ذاك القبيل ضربت على مقدمة رأسها وقررت إغلاق الدار وتوزيع الفتيات على الدور القريبة فقد إقترفت إثمًا لن تغفره لنفسها.

حاولت جاهدة تقصي حقيقة ذلك الغريب واختفاء ريما ولكنها لم تجد إجابات على أسئلتها يا عزيزي القارئ حتى يومنا هذا.

ولكني أنا أعلم جيدًا ما حدث لريما ومن الغريب وأين هي؟.

فقط عدنى بأن لا تسمح لعينك بأن تخدعك ولا تأمن كل من تراه على هيئة البشر فنحن نستطيع التجسد بهيئة البشر والطير والحيوان أيضًا إن أردنا، لابد أنك تتسائل من أنا أليس كذلك؟.

"رفاف" أنا ابنة "ريما" التي حاولت الانتحار عندما علمت بأمر وجودي في أحشائها، كانت تخشى أن تجلب العار لنفسها وينبذها المجتمع كونها وافقت على الزواج من جنس آخر مختلف كليًا عن جنسها، لم تكن تعلم بأن التزاوج الآن بين الانس والجن حلم يتوق له الكثير ولا يناله الإ المصطفون.

اضطر الجني الذي أغواها بالتنكر علي هيئة بشري ليمنعها من قتلي في أحشائها، أربعون ليلة تراودها كوابيس ترى فيها فتاة قبيحة تقف في طريق مقابل لها وتحاول قتلها وهي لا تدرك بأنني أنا ابنتها التي تحملها في أحشائها، لم تنتبه للأمر إلا حينما مرت الأعوام وتسارعت والتقينا صدفة وقفت أمامي وهي تنتفض خوفًا من أن أقتلها كما في الكابوس الذي كان يراودها ولكنها لا تعلم شيء عني فقد نبذتني أنا وأبي واكتفت.
باعتكافها في إحدى الغرف بالأرض السفلي، أنا أتأقلم مع طبيعتي فأنا أنتمي للعالم السفلي أما والدتي ريما تتوق للصعود مرة أخرى إلى عالمها ولكن جميعنا مدركين أن هذا لن يحدث وحدها من تحلم بهذا.

ليزا زغلول

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى