الأحد ٩ آب (أغسطس) ٢٠٢٠

ألوان

إبتسام إسماعيل شاكوش

هذه القصة تحكي كيف تتزوج البنات غصبا.. وكيف تمنع بعضهن عن الزواج غصبا أيضا.. في الحالتين الأهل يغصبون على الزواج.. أو يمنعون الزواج

الأرض تزهر بالأرجوان

شيء كالورد، كشقائق النعمان، يكسو الأرض الواسعة، المزنرة بسور منيع، يرسل ركاب الحافلة المسافرة غربا أبصارهم عبر الفجوات الفاصلة بين سيارات الشحن الكبيرة، يستكشفون المكان، أشعة الشمس الصفراء الواهية المتسربة من بين الغيوم تؤكد أن لا ورد ينبت الآن في هذا الرمل ولا شقائق، يمسحون بأكفهم البخار المتكاثف على زجاج النوافذ، يجلون الرؤية، يتبينون سوقا واسعة للغنم، وما هذه الحمرة المنتشرة على اتساع الأرض سوى لون الكوفيات، التي يتلفع بها تجار الغنم اتقاء للبرد، الحافلة تبطئ السير بين زحمة الشاحنات المخصصة لنقل الغنم، حتى ليظن من يراها أن عجلاتها لا تدور، تسأل سعاد نفسها: لماذا يختارون للعطلة الانتصافية أشد الأيام بردا؟ تلصق جبينها بالزجاج، تمسح الكوفيات الحمراء بنظرة عجلى وتروح تبحث بعينيها عن كل شيء هنا، علها تتخلص من الملل المخيم على تفاصيل رحلتها، تركز النظر على باب إحدى الشاحنات حيث يقف رجلان، يحملان الأغنام واحدة فواحدة، يمسكان بها من فروتها ويرفعانها ليلقيا بها في جوف الشاحنة الفاغر، تساءلت بحزن: هل تعرف هذه الغنمات إلى أين يراد السفر بها؟

الأرض تزهر بالبياض، كان ذلك يوم سفرها الى القرية في بداية العام الدراسي، تزهو فوق البياض الثياب الملونة وتنطلق الأغنيات من الحناجر الطافحة بالفرح، تتبارى حمدة وزينة وعمشة، أيتهن تغني بصوت أجمل؟ أيتهن تمد موالها ليصل مع النسيم الى مشارف القرية؟
لا.. ليس عيدا ما نراه، ولا ثلجا هذا البياض المتغلغل بين الخضرة، والمكوم تلالا متقاربة وراء موكب البنات، انه موسم قطاف القطن، موسم الأفراح والأعراس، ترتفع الأغنيات هنا في الحقول، وتنتشي القلوب بالآمال، من لم تتزوج في هذا الموسم ستتزوج في الموسم التالي، ومن كانت متزوجة قبضت أجرها وذهبت كالعرائس الى السوق، لتشتري ما يروقها من الثياب كسوة للعام القادم، لها ولأولادها، ولشتري بفضل أجرها – ان بقي هنالك فضل - حلية ذهبية.

الكون يتشح بالغبار، الغبار يغطي بلونه الشاحب كل مقاعد الدرس والكراسي والجدران، حتى اللوح المتصدر غرفة الصف لم يسلم من تراكم طبقات كثيفة حجبت لونه الداكن، السراب يخفق على امتداد البصر في السهل ذي الأطراف الملتصقة بحواشي السماء، ينهض غراب من بين أكوام الحطب، ينعب بكسل ويبسط جناحيه طائرا ليقف على سلك الكهرباء، بكسل مشابه يدخل عوض، آذن المدرسة، الى غرفة الآنسات، حاملا إبريق الشاي، يضعه أمامهن وينصرف الى عمله، يمشي خطوتين ثقيلتين ويتوقف كمن تذكر شيئا، يرمي المكنسة من يده، ترتطم بالأرض في البهو الفارغ، يتناثر صدى ضجتها في كل الحجرات، تلمع عيناه ببريق جديد، يبتسم بفرح واضح، يلتفت الى الخلف، ينهض كتفه استخفافا، ثم يشد حزامه على وسطه ويمضي هرولة.

تجلس الآنسات في غرفة الصف بين المقاعد الخالية، في اليوم الأول من العام الدراسي، معظم التلاميذ ذهبوا مع أهلهم الى المزارع البعيدة لجني القطن ولم يعودوا بعد، والقلة التي حضرت، راحت تساعد عوض في الإعداد لبداية العام الدراسي الجديد،أحاديث كثيرة دارت بين هؤلاء الفتيات القادمات من مدنهن، ليعملن في هذه المدرسة، الملل يفرش ظله الثقيل على حركاتهن و أحاديثهن التي تكررت عشرات المرات، على امتداد الأعوام الماضية وما من جديد، كل شيء في حياتهن مكرر معاد، حتى ثيابهن ما تزال تذهب معهن في نهاية العام الدراسي،لتعود كما هي في بداية العام التالي، الملل يستحضر الصمت في مجلسهن، والصمت يدعو التثاؤب، للمشاركة في هذا المهرجان.

يركض عوض، آذن المدرسة، يصل الى حقل القطن لاهثا متعبا، يقعد على الأرض، تتوقف البنات عن القطاف ويجتمعن حوله، ما وراءك يا عوض، يقول: إحداكن تزوجت في سهرة الأمس، ولن أقول من هي حتى تعدنني بالحلاوة، تقفز البنات فرحا وتعلو الزغاريد، يتابع عوض:

ليست واحد بل اثنتين، يعلو الهرج أكثر، يضيف عوض: بل ثلاثة، يساومهن عوض، تعلو الضحكات، تتدخل النساء الكبيرات للفصل في المساومة فيلقي بتقريره:

حمدة تزوجها عطوان، تنهال القبلات والمباركات على حمدة وتعلو الزغاريد عمشة تزوجها هلال، تنقلب الزغاريد صراخا من شدة الفرح زينة تزوجها أحمد، تعلو الصرخات والزغاريد، يصرخ رب العمل بأعلى صوته، تتجاهل النساء صراخه ويرقصن وسط مزرعة القطن في عرس مصغر، يقف منهن على مبعدة، متأرجحا بين الفرح والغضب، ثم ينضم إليهن ساحبا عوض من يده للمشاركة في هذه الدبكة، بينما تنتظر الآنسات عودة التلاميذ الى المدرسة، ليبدأن بإعطاء الدروس.

ترى ماذا حل بأمونة؟ طرحت السؤال إحدى الآنسات باهتمام من تذكر كابوسا ملحا، فانبرت رفيقتاها للرد وقد اتقدت نار الغضب في الصدور قالت وداد سنعلم خبرها قريبا لم الاستعجال؟ قالت مها: ليتها ذبحت غسلا للعار، رفعت سعاد رأسها بعد فاصل من الصمت لتسأل رفيقتيها: هل حقا تستحق أمونة الذبح غسلا للعار؟ أم نحن من يستحق؟ إننا بسلبيتنا واستسلامنا لظروفنا قدمنا للمجتمع أسوأ مثال عن المرأة المتعلمة، أمونة خير منا نحن الثلاثة، عرفت دربها في وقت مبكر وحاولت السير حسب قناعتها، لم تجد واحدة منهن جوابا على سؤال سعاد، وعاد الصمت ليفرش عباءته عليهن من جديد.

أمونة، التلميذة الكسلى، أطول بنات الصف الخامس وأكثرهن دمامة، دخلت غرفة الإدارة في نهاية العام الدراسي المنصرم، بوجهها المنقوش بحب الشباب وصدرها الذي راح برعماه يتفتقان على استحياء تطلب حديثا خاصا مع الآنسات، بل تستنجد بهن من مصيبة حلت بها، أبوها يريد تزويجها من ابن أخيه، والعرس سيقام بعد أيام قليلة، بعد الانتهاء من جني موسم القمح، أبوها قبض مهرها وسدده كدفعة أولى من ثمن سيارة لأخيها،أمونة لا تريد ابن عمها، بل تريد خالد ابن الجيران، خالد سيدفع مهرا أكبر، لكنها مخطوبة لابن عمها منذ ولادتها، وخالد أقسم أن يذبحها لو رضيت بالزواج من سواه، خالد يريد أن يهرب بها الى بلد بعيد يتزوجان فيه، أمونة تخاف سكين والدها التي ما صنعت الا للذبح، كانت تأمل أمونة أن تتدخل الآنسات – بما لهن من حظوة عند رجال القرية – لمنع هذه المصيبة، تبادلت الآنسات حينها نظرات غضبى وصرفن الصبية، واعدات بالخير.

وأي خير؟ راحت كل واحدة منهن تلطم وجهها يومذاك وتشد شعرها، الغيرة نار اشتعل لهيبها في بيادر صمتهن الطويل، أحرقت أقنعة الكبرياء، ونثرت رماد الصبر، أمونة؟؟ رحن يتساءلن باستنكار، أمونة يسيل في سبيل زواجها الدم، ونحن هنا تماثيل من الرخام البارد لا تصلح للحياة؟

الجو يصطبغ بلون اليأس، والمرارة تزكم الحلوق، اللعنة.. قالت وداد، أمونة يقتتل من أجلها الخطاب وتتفجر الدماء، امونة تعرف ما تريد، وأنا؟ الآنسة التي يستمع لرأيها رجال القرية لم أستطع طوال عمري تحديد ما أريد، أمي لا تريد تزويجي إلا بمهر كبير تقبضه بيدها،كانت تتكلم عن جمالي وأناقتي، وتتحدث مطولا عن محاسن أخلاقي، أستمع إليها باهتمام فأصدق وصفها ويتورم غروري، ما كنت أدرك أنها تريد مهري لترفو به فقرها وعوزها، ما كنت أدرك أنها وضعت ذلك الرقم الكبير لتصرف عني الخطاب، فرحت بحرص أمي على إعلاء شأني وقدري بين بنات حارتنا وأسرتنا، وما كنت عالمة بما ترمي إليه على المدى البعيد، ما من خاطب يرضى بما يرضيها، وما تطوع أحد بالوقوف في وجهها لمنعها من التصرف بحياتي، وكأني نعجة من هذه النعاج التي نراها ترعى حول مدرستنا، الآن صحوت، الآن فهمت، حين وجدت شبابي يتسرب كالرمل من بين أصابعي، وما من خالد يعرض علي الهرب، آه لو أني أجد رجلا مثل خالد هذا الذي يريد أمونة.. لكن هيهات

أما أنا – قالت مها – فأمري مختلف تماما، أمي لا تطلب مهرا كبيرا ولا صغيرا، أمي تقول ساقية ضعيفة جارية خير من نهر متقطع، مرتبي الصغير هذا يكفيها، ولو تزوجت لانقطعت عنها هذه الساقية، ولرمتها الحاجة الى أعتاب كناتها، وما كان بينها وبين واحدة منهن شيء من المودة، بل كانت الحماة الصارمة، الناقمة دوما على نساء غريبات سرقن منها أبناءها، المعلنة دوما بأنها لن تسلم ابنتها لمثل ذلك المصير، إخوتي يعجبهم هذا الوضع، كما كان يعجب أبي من قبل، عاش أبي ومات، وما من هم يثقل كاهله إلا رضاها، وما وجدها يوما راضية، تركها تتصرف بحياتي كما تريد، ما نصرني يوما بكلمة، وما وقف الى جانبي موقفا أحتسبه له، وضعي هذا يوفر على إخوتي الاصطدام بأمهم، يريحهم وزوجاتهم من عناء الاهتمام بها ورعاية شؤونها، يوفر عليهم معارك يومية ودعوات قاسيات ترفعها أمي الى السماء غضبا عليهم وعلى زوجاتهم، وما من خاطب منحني القوة لتحدي هذا الوضع المقيت.

وصمتت سعاد، ما تزال سعاد تظهر التمسك بموقفها، ما زالت تردد أن الرجال كلهم خائنون غادرون، وأن العزوبية هي الحرية، هي الراحة من كل الهموم والمسؤوليات، وتعجب كيف تسعى النساء بأيديهن وأرجلهن الى عبودية القيد والانصياع لحكم رجل يصبح السيد وولي الأمر، والحاكم الطاغية، يتدخل في كل شؤون الحياة، تعلن هذا الكلام وتلعن نفسها آلاف المرات في نفسها، تلعن جبنها عن قول الحقيقة، تلعن هذا الكذب الذي يجري على لسانها ولا تسعى لإيقاف سيله أبدا.

كان هذا في العام الدراسي المنصرم، سهرت الآنسات يومها في منزل أمونة، لكنهن خيبن أملها، لم تقل إحداهن كلمة واحدة، إلا المباركة والتهنئة بزواج أمونة وابن عمها، أكلن الثريد والحلوى، شربن الشاي، ورجعن الى غرفتهن في المدرسة، لتسهر كل واحدة منهن وحدها، باكية محطمة الجنان حتى الفجر، وسافرن في الصباح الى مدنهن.

البيت يشرق بلون البنفسج، هذا اللون هو آخر صرعات الموضة لفصل الصيف يتوزع على ثياب أمها وأخواتها، وزائراتهن في الحفل الذي أقيم لاستقبال سعاد، العائدة إلى منزل أهلها في بداية الإجازة الصيفية، ما اكترثت سعاد للبنفسج والموضة، بل حضرت الحفل بثيابها الرمادية الكالحة، شأنها كل عام، متجاهلة غيظ أمها وأخواتها، عادت لتواجه المشاكل القديمة التي تواجهها كل صيف، خلاف أعمامها وعماتها على الميراث، صراخ وشجار لا تهدأ نيرانه، يخوضون معاركهم الخاسرة دوما، ثم ينثنون، تاركين الحقول التي ما اتفقوا على تقسيمها بينهم نهبا للبوار، تاركين عشرات الدكاكين في أيدي مستأجريها، يدفعون إيجارها عبر بطاقات البريد، مبالغ لا تغطي نفقات طفل صغير، ويكسبون من إيرادها ثروات جمعوها لأبنائهم، يسكبون هزائمهم فوق رأسها، يصرخون في وجهها: اتركي العمل واقعدي في البيت، وما الذي سوف تراه في البيت؟ ولائم وسهرات، ما فيها سوى المباهاة بأثواب وحلي وأشياء أخرى من السخافات التي لا تروقها، اجتماعات يسودها النفاق والمجاملات المجانية، وسعاد لا تقدر على النفاق، يقولون خذي كل شهر ضعفي مرتبك واقعدي في البيت، يقولون: أنت أخزيتنا و جلبت لنا العار، نحن نخجل من أصدقائنا حين يعلمون أن ابنتنا تعمل معلمة في قرية بعيدة، ونخفي عنهم أنك تسكنين مع رفيقاتك في غرفة من المدرسة، يتصدق أهل القرية عليكن بطعامكن، يقولون: لو جمعنا مرتبك مدى الحياة، وأضفنا اليه معاشك التقاعدي، لن يساوي هذا المبلغ ثمن واحد من المتاجر التي نملكها.

أجل.. كلامهم في الأرقام صحيح، حساباتهم دقيقة، لكنها لا ترى أي معنى لحياة تعيشها لعرض الثياب على الضيوف، وكأنها دمية بلاستيكية في إحدى الواجهات، لا ترى معنى للمفاخرة بأنواع الطعام والضيافة، تضن بنفسها عن سجن ما فيه أمل بالخروج الى رحاب الإنسانية، فالزواج سوف يأتيهم بصهر، والصهر سوف يحاصصهم على الميراث... ولو فكرت برجل مثل خالد، هذا الذي يعشق أمونة فلن تجد، لأن أي رجل ممن حولها لن يراها مجردة من إطارها الاجتماعي، ولن يقبل التضحية بميراثها...ولو هربت مع أحدهم كما يعرض خالد فلن ترحمها سكاكين الشرف...ولا ترضى لنفسها بالحياة التافهة الفارغة التي ارتضتها أخواتها العوانس الكبيرات.

كانت كل واحدة من الآنسات تحسد أمونة، وتفكر في نفسها، تفكر في حياتها بعد ذلك السؤال الصاعق الذي أطلقته احداهن وتلبسته الأخريات: من منا الأحق بالذبح؟ نحن أم أمونة؟ جلست كل واحدة منهن معتزلة رفيقاتها في غرفة تطل نوافذها على السراب، كل منهن قررت يوما أن تكون عنصرا منتجا في المجتمع من خلال عملها في التعليم، وماذا أنتجت؟ أعطت العلم لتلاميذ لا يرغبون في العلم، بل دفعهم قانون التعليم الإلزامي إلى عتبات المدارس، تنبهن لطرقات خفيفة على الباب، استفقن من شرودهن، رفعن رؤوسهن، فدخل عامر، تلميذ يعرفنه جيدا، جاء يدعوهن للغداء في بيت أبيه، ناقلا إليهن تحيات زوجة أخيه أمونة، التي لم ترافق النساء لجني القطن هذا الموسم، واعتذارها عن القدوم بنفسها لدعوتهن فقد أمرضها الوحم!

الغبراء تزهر بالأرجوان

مازالت الحافلة عالقة بين سيارات الشحن الكبيرة تحت نظر سعاد أمام سور بازار الغنم، رجل آخر خرج من باب السوق، يقود نعجة من النعاج خارجا بها من البوابة الموحلة، أمسك بصوفها الطويل، رفعها به عن الأرض اللزجة، مشى بها خطوات ثم طرحها أرضا مد يده إلى جيبه، قدمه مثبتة فوق عنق النعجة، النعجة ترفس بأرجلها محاولة القيام، أخرج من جيبه شيئا ما، سعاد تتابع حركاته بانتباه متوتر، انحنى على النعجة لحظة ثم استقام فانبجس الدم، صرخت سعاد بخوف و تراجعت بوجهها عن الزجاج.

نظر المسافر الجالس الى جانبها مستطلعا سبب خوفها، شاهد منظر الذبح أمام دكان الشواء، هز رأسه استخفافا ولم يعقب، انفرج الطريق أمام الحافلة، مشت تتهادى بين الشاحنات، بينما غطت سعاد وجهها بيديها تخفي عن الركاب عينيها الغارقتين بالدموع، وتخفي عن عينيها دم النعجة الذي امتزج بوحل الطريق.

إبتسام إسماعيل شاكوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى