السبت ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

أهمّيّةُ السَّيفِ والقلمِ بين ابنِ خلدونَ وميخائيلَ نعيمةَ

مقدّمة

أتناولُ في هذهِ المقالةِ أهمّيّةَ القلمِ عند كلٍّ من المفكّرينِ الكبيرينِ، عالمِ الاجتماعِ والتّاريخِ ابنِ خلدونَ، والمفكّرِ والأديبِ العربيِّ ميخائيلَ نعيمة. فقدْ أعطَى ابنُ خلدون القلمَ أهمّيّةً إلى جانبِ الدّورِ الأكبرِ للسّيفِ في مراحلِ بناءِ الأممِ والدّولِ، إلّا أنّ نعيمةَ انفردَ بنظرتِه الفلسفيَّةِ إلى القلمِ الّذي أعطاهُ الأهمّيّةَ القُصوى في تعاظمِ الأممِ واستمرارِها؛ لأنّ ما يصنعُه السّيفُ قريبُ الأثرِ في الميدانِ، وما يصنعُه القلمُ بعيدُ المآثرِ في التّاريخِ والإنسانِ، فكلُّ ما بُنيَ بالقوّةِ أتَى عليه الزّمانُ وصارَ أثراً بعدَ عينٍ، وكلُّ ما خلّدتْه القصبةُ ما زالَ أناشيدَ عزٍّ وفخارٍ على ألسنةِ الكبارِ والصّغارِ.

أ- السّيفُ والقلمُ عندَ ابنِ خلدون

ابنُ خلدونَ عالمٌ ومؤرّخٌ سياسيّ واجتماعيٌّ وفيلسوفٌ وفقيهٌ غنيّ عن التّعريف، عُرفَ فضلُه في مشارقِ الأرض ومغاربِها، فتحدّثَ عنه أرنولد توينبي قائلاً: (ابتكرَ ابنُ خلدون وصاغَ فلسفةً للتّاريخِ هي بدونِ شكٍّ أعظمُ ما توصَّلَ إليه الفكرُ البشريُّ في مختلفِ العصور والأمم).

وسنرَى أنّ ما قالَه المفكّرُ ابنُ خلدون عن السّيفِ والقلم مبنيٌّ على الخبرةِ والحنكةِ ومعرفةٍ بأحوالِ الدّولِ والأمم، إضافةً إلى فقهِه الدّينيّ، ففي القرآنِ العظيمِ نجدُ آياتٍ عديدةً تؤكّدُ أهمّيّةَ السّيفِ في مراحلَ وأهمّيّةَ القلمِ في مراحلَ أُخرى، من ذلك قولُه تعالى: (ٱلَّذِينَ إِن مَّكَّنَّٰهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ). الآية 41 من سورة الحج.

فجاءَ تصنيفُ ابنُ خلدون لأهميّةِ السّيفِ والقلم حسبَ النّشوءِ والارتقاء والزّوالِ مطابقاً لما وردَ في القرآنِ الكريم، فكلاهُما آلةٌ لصاحبِ الدّولة يستعينُ بها على أمرٍ، لكنّ هذا الدّورَ مرهونٌ بمراحلِ نشوءِ الدّول وتطوّرِها، ومن ثمّ ضعفِها.

أهميّةُ السّيفِ:

يرى ابنُ خلدون أنّ السّيفَ والقلم سلاحانِ يُكمّلُ كلٌّ منهما الآخرَ ولا يستَغْني عنه، لكنّ الأهمّيّةَ تختلفُ باختلافِ الأزمنة، فيرى أنّ السّيفَ هو الأهمَّ في مرحلتينِ من مراحل تاريخِ الدّول، ففي مرحلةِ النّشوءِ والتّكوين وكذلكَ في مرحلةِ الشّيخوخةِ لا بدّ من القوّةِ لإثباتِ هيبتِها وتثبيتِ أركانِها، خشيةَ التّصدُّعِ والانهيارِ، يقولُ ابنُ خلدون: "إلّا أنّ الحاجةَ في أوّلِ الدّولة إلى السّيفِ ما دام أهلُها في تمهيدِ أمرِهم أشدَّ من الحاجةِ إلى القلم.. وكذلك في آخرِ الدّولة حيثُ تضعفُ عصبيّتُها كما ذكرْناه.. فيكونُ للسّيفِ مزيّةٌ على القلمِ في الحالتينِ ويكونُ أربابُ السّيف حينئذٍ أوسعَ جاهاً و أكثرَ نعمةً.."

أهمّيّةُ القلمِ:

وبعدَ أن توطّدتْ أركانُ الدّولةِ وأمسكَ الحالكمُ بزمامِ أمورِها، تخفُّ الحاجةُ إلى السّيف، ويتعاظمُ دورُ القلمِ في تعزيزِ وتجميلِ هيبةِ الدّولة وبيانِ خصالِها والمباهاةِ بها أمام العالمِ، مع بقاءِ السّيفِ في حالةِ الأهبة والاستعدادِ للنّوائبِ والمخاطرِ المفاجئة: "وأمّا في وسطِ الدّولة فيستَغني صاحبُها بعضَ الشّيء عن السّيفِ؛ لأنّه قد تمهّدَ أمرُه ولم يبقَ همُّه إلّا في تحصیلِ ثمراتِ المُلْك من الجبايةِ والضَّبطِ ومباهاةِ الدّول وتنفيذِ الأحكامِ والقلمُ هو المعينُ له في ذلك..". مقدمة ابن خلدون الفصل 35 ص 204

لقد أدركَ ابنُ خلدون الدّورَ الكبير للسّيفِ والقلم، فكلاهُما مهمّان، وإن اختلفتِ الأولويّةُ في الأدوارِ، ولكنّ تربّعَ أحدِهما مركزَ السّيادةِ لا يُلغي دورَ الآخر، وكلُّ أمّةٍ تُلغي دورَ السّيفِ أو تمحُو نورَ القلم، مصيرُها إلى الهلاكِ والانقراض، فالويلُ لأمّةٍ تحطّمُ أقلامَ أبنائِها بسيوفِها!

مناظرةٌ بين السّيفِ والقلم

ولكي أؤكّدَ حقيقةَ ما أقولُ، فإنّي أستعينُ بأجملِ ما جاء في المناظرةِ الرّائعة الّتي أجْراها زينُ الدّين عمرُ بنُ الورديّ - المتوفّى سنة 749هـ - بين السّيفِ والقلم معبّراً فيها عن دورِ كلٍّ منهما (بتصرّف):

قال القلمُ: "أنا المخصوصُ بالرّأيِ وأنت المخصوصُ بالصَّدَى، أنا آلةُ الحياةِ وأنت آلةُ الرّدى، ما لِنْتَ إلّا بعدَ دخولِ السّعير، وما حُدّدْتَ إلّا عن ذنبٍ كبير، أنتَ تنفعُ في العمرِ ساعةً، وأنا أُفني العُمْرَ في الطّاعةِ، أنت للرَّهَبِ، وأنا للرَّغَبِ.. ؟".

فقال السّيفُ:

من اعتمدَ على غيرِي في قهرِ الأعداءِ تعِبَ، وكيف لا وفي حَدِّي الحدُّ بين الجِدِّ واللّعبِ؟! فإن كان القلمُ شاهداً، فأنا قاضٍ.. لا يعبثُ بي الحاملُ، ولا يتناولُني كالقلمِ بأطرافِ الأناَملِ، لا أُشتَرى كالقلمِ بثمنٍ بخسٍ، ولا أبلَى كما يبلَى القلمُ بسوادٍ وطمْسٍ..".

بين السّيفِ والقلمِ في الشّعر

واختلفَت أهمّيّةُ السّيفِ والقلمِ عندَ الشُّعراءِ، فمنْهم مَن يرى المجدَ والعزّةَ والشُّموخَ للسّيفِ، ومنهم مَن يرى الشُّهرةَ وعظمةَ الشّأنِ والمكانةِ الرّاقيةِ للقلمِ، فمِن ذلكَ ما نراهُ في قصيدةِ (فتح عموريّة)، إذ يقولُ أبو تمّامٍ في مدحِ الخليفةِ المعتصمِ بالله مبيّناً أهمّيّةَ السّيفِ في تحقيقِ النّصرِ والتّمييزِ بينَ الحقِّ والباطلِ والجدِّ واللّهوِ، مفنِّداً مزاعمَ المنجّمينَ الّتي لم تشجِّعْ على الفتحِ:

السّيفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ في حدّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللّعبِ

ومن ذلكَ ما نراهُ في شعرِ المتنبّي الّذي يُقدّمُ السّيفَ على القلمِ في أهمّيّتِه ورفعةِ مجدِه، فقد أبدعَ المتنبّي في تعظيمِ دورِ السّيفِ إذ أنطقَ الأقلامَ بمجدِه، وهو أقوَى دليلٍ جاء به المتنبّي، ولم يتركْ للخصمِ شاهداً يستدلُّ به في تقدُّمِ القلمِ على السّيفِ:

حَتّى رَجَعتُ وَأَقلامي قَوائِلُ لي
المَجدُ لِلسَيفِ لَيسَ المَجدُ لِلقَلَمِ
اِكتُب بِنا أَبَـــداً بَعــدَ الكِتابِ بِهِ
فَإِنَّما نَحـــنُ لِلأَسيافِ كَالخَدَمِ

إلّا أنّنا نجدُ فريقاً آخرَ من الشّعراءِ يمجّدُ القلمَ ويُعلي من مكانتِه ويقدّمُه على السّيفِ، من ذلكَ ما نراهُ في شعرِ أبي الفتحِ البُستيّ إذ يأتي بدليلٍ قرآنيٍّ يقسمُ فيه اللهُ بالقلمِ في قولِه تعالَى "ن والقلمِ وما يَسطُرون"، فهو يدحضُ جميعَ دلائلِ أصحابِ السّيفِ حينَما يقول:

إذا أقسمَ الأبطالُ يوماً بسيفِهم
وعدُّوهُ ممّا يُكسبُ المجدَ والكرمْ
کفَی قلمَ الكتّابِ مجداً وسؤدداً
مدَى الدّهرِ أنّ اللهَ أقســمَ بالقــلمْ
ب- السّيفُ والقصبةُ عندَ نُعيمة

أمّا مفكّرُنا الكبيرُ ميخائيلُ نعيمةَ، فلهُ رأيٌ آخر في السّيفِ والقلمِ، استطاعَ نعيمةُ بفكرِه الثّاقبِ أن يبرهِنَ على أهمّيّةِ القلمِ وتفوّقِه على السّيفِ من خلال توظيفِ حلُمٍ رآهُ الملكُ العادلُ في نومِه بعد منتصفِ اللّيلِ فأقلقَه، ولمّا أعياهُ الأمرُ نادى بحارسِه اللّيليّ وأمرَه أن يأتيَه في الحالِ بمفسّرِ أحلامِه. وكان اسمُه بهرامَ، وهوشیخٌ طاعنٌ في السّنّ حوَى من الحكمةِ والفضيلةِ ما لم يحْوِه أحدٌ من أبناءِ زمانه.

ولكي أصلَ إلى غايتِي في إثباتِ فلسفةِ ورؤيةِ نعيمةَ في بزوغِ فجرِ القلمِ وتقهقُرِ دُجى السّيفِ، فإنّني أقدّمُ عصارةَ مقولتِه (السّيفُ والقصبةُ) بتصرُّف وحبكةٍ مختصرةٍ تُوصلَ الفكرَ بأقلِّ الكلمات، وهذا ملخّصُ الحلمِ: (رأَى الملكُ جيشاً عدوّاً جرّاراً جاء يغزُو مملكتَه، وقد خرج بجيشِه لملاقاتِه، فاعترضَ طريقَهم رجلٌ رثُّ الثّيابِ، حافي القدمينِ، هزيلُ البِنيةِ، يحملُ قصبةً طويلةً كُتبَ على رقعةٍ في أعْلاها: نريدُ خبزاً لا دماً.. نريدُ عدلاً لا قانوناً.. نريدُ سِلماً لا هدْنةً. وحينَما هاجمَه قادةُ جيشِ الملك تكسّرَت سيوفُهم جميعاً وسلِمَت قصبةُ المعتوهِ، حتّى احتقر الملكُ قادتَه وأرادَ أن ينقضّ على المعتوهِ، إلّا أنّه مُني بالهزيمةِ، فطارَ سيفُه من مقبضِه، ونشبَت القصبةُ في بطنِ جوادِه ومنهُ في صدرِ الملك، فخرَّ الجوادُ صريعاً وهوَى الملكُ من فوقِه وبه رمقٌ أخيرٌ يصيحُ: أينَ الرّجالُ؟!

فتراءَى له في لمحةِ الطّرفِ، وهو يُعالجُ سكرةَ الرَّدى، أن جيشَه قد انتشرَ في سهلٍ لا يُدرَك له أوّلٌ ولا آخرُ، وأنّ رجالَه قد اصطَفَّوا في ذلك السّهلِ كتِفاً إلى كتفٍ، وفي يدِ كلِّ واحدٍ منهم قصبةٌ طويلةٌ كالّتي في يدِ المعتوهِ وتحت قدميهِ سيفٌ مكسورٌ، وفي أعلى كلِّ قصبةٍ رقعةٌ كُتِبَ عليها: ليس بالخبزِ وحدَهُ، ولا بالعدلِ وحدَه، ولا بالسّلمِ وحدَه، يَحْيا الإنسانُ. وعندَها استفاقَ الملكُ من نومِه وفي فكرِه وقلبِه وأحشائِه من الاضطرابِ ما لا يُوصفُ).

ذلك هو الحلمُ الّذي أقلقَ الملكَ فطلبَ تفسيرَه من بهرامَ وقد أعطاهُ الأمانَ، فأجابَه الشّيخُ المفسّرُ بأنَّ حلمَه ما هو إلّا نبوءةٌ بنهايةِ مُلكِ السَّيفِ وبدايةِ ملْكِ القلم، فالقصبةُ الّتي رآها في يدِ المعتوهِ هي رمزٌ للقلمِ وأمّا المعتوهُ فشاعرٌ أو كاتبٌ أو فيلسوفٌ، وما الكتابةُ الّتي على رأسِ القصبة سِوى مطالبِ الشّعبِ في سرِّه، فلا يستطيعُ أن يُعلنَها غيرُ شاعرٍ أو كاتبٍ أو فيلسوفٍ يُحسنُ استعمالَ القلمِ ويحسنُ قراءةَ ما في ضميرِ الشّعبِ. ويقعُ الملكُ في حيرةٍ من أمرِه إزاءَ هذه المطالبِ.

ففي المطلبِ الأوّلِ (الخبز) يرَى الملكُ أنّ مملكتَه تفيضُ بالخيراتِ وعلى رأسِها الخبزُ، فكيف للنّاسِ بالجوعِ، فتأتي إجابةُ الحكيمِ بهرام: "الخبزُ موفورٌ یا مولايَ. ولكنّه معجونٌ بالدّمِ. وما دامَ السّيفُ مصلتاً فوقَ رؤوسِ العبادِ کان خبزُهم معجوناً بالدّم. والإنسانُ مُطالبٌ بأن يأكلَ خبزَه بعرقِ جبينِه لا بدمِ قلبِه. تلك حقيقةٌ يجهلُها السّيفُ ولا تجهلُها القصبةُ. لذلك كُتِبَ على القصبةِ: نريدُ خبزاً لا دماً".

ويتساءلُ الملكُ عن المطلبِ الثّاني (العدل) مستَغرباً: "أمَا لقّبَني شعبِي بالملكِ العادلِ؟ أليس القانونُ يُطبَّقُ في مملكتِي على الكلِّ بالسّواءِ؟

فيُجيبُه بهرامُ: "لقّبُوكَ بالملكِ العادلِ لعلَّهم يخفّفُون ظلمَك. فعدلُكَ عدلُ السّيفِ. لأنّكَ تحكُمُ بالقانونِ الّذي لا يقومُ بغيرِ حدِّ السّيفِ ".

فيتساءلَ الملك: وكيفَ أحكمُ إن لم يكنْ بالقانونِ؟

فيجيبُه بهرامُ: "بالعطفِ واللُّطفِ والرّأفةِ والمحبّةِ يا مولايَ. فعدلُ هذهِ غيرُ عدلِ القانونِ. والسّيفُ لا يَفهمُ لها معنَىً ولا يقيمُ لها وزناً. أمّا القصبةُ فتفهمُ المعنى وتقيمُ الوزنَ. ولذلكَ كُتبَ على القصبةِ: نريدُ عدلاً لا قانوناً".
ثمّ يتساءلُ الملكُ عن تفسيرِ المطلبِ الثّالثِ (السّلم)، مندهشاً: ما أظنُّ أنّ في الأرضِ مملكةً ترفلُ في بُحبوحةٍ من السّلمِ كمملكَتي.

فيجيبُه بهرامُ: "وسلمُكَ يا مولايَ هو سلمُ السّيفِ كذلك. وأنت قد انتزعتَه من جيرانِكَ انتزاعاً. ولا تدْري متى ينتزعُه جيرانُك منكَ. إنّ سلماً يقومُ بالسّيفِ ينهارُ بالسّيفِ. فهو هدنةٌ لا سلمٌ. أمّا السّلمُ الذي يُشادُ على التّفاهمِ والتّعاونِ والتّآخي فلا يتصدَّعُ ولا ينهارُ. ذلك السّلمُ لا يفهمُه السّيفُ وتفهمُه القصبةُ. ولذلك كُتبَ في أعلاها: نريدُ سلماً لا هدنةً".

وتبلغُ الحيرةُ والدّهشةُ مبلغَها في نفسِ الملكِ: وما تفسيرُك للسّيوفِ تتكسّرُ على القصبةِ وتبقَى القصبةُ سليمةً؟

فيجيبُه بهرامُ: معنى ذلكَ يا مولايَ أنّ السّيفَ سيَمْضي وتبقَى القصبةُ.

الملكُ: ومتى كانتِ القصبةُ أقوى من السّيفِ؟

بهرامُ: ما كانتْ، ولكنَّها ستكونُ.

الملك: أتدولُ دولةُ السّيفِ وتقومُ دولةُ القصبة؟ إنّك لتَهذي أيُّها الشّيخُ".

وبعد هذهِ التّفسيراتِ الصّريحةِ من بهرامَ لحلمِ الملكِ حتّى آخرِه، يأمرُ الملكُ بحَجرِه في مقصورةٍ من مقصوراتِ قصرِه يُطلُّ منها على فِناءِ القصرِ الواسعِ ليُبصرَ بعينيهِ ما سيفعلُه السّيفُ بالقصبةِ.

ففي الصّباحِ أمرَ الملكُ بجمعِ كلّ ما في مملكتِه من أقلامٍ وأمْلى بحرقِها في السّاحةِ الواسعةِ أمامَ القصرِ على مرأَىً من الجماهير، كما أمرَ بالزجّ بكلِّ الشّعراءِ والكتّابِ والفلاسفةِ في السّجونِ، فغصّتِ السّجونُ بالشّعراءِ والكتّابِ والفلاسفةِ وامتلأتِ السّاحةُ الواسعةُ بالأقلامِ. وأُضرِمَت النّيرانُ في الأقلامِ وارتفعَ دخانُها ولهيبُها في السّماء، فهلّلَ النّاسُ وكبّرُوا وتعالَت هتافاتُهم: (عاشَ الملكُ!)، إلّا معتوهاً كان يدفعُ القومَ بمَنكِبَيه محاولاً الوصولَ إلى رابيةِ الأقلامِ المشتعِلة. حتّى إذا بلغَها من بعدِ أن خمدَت نيرانُها، تناولَ منها فحمةً وتسلّلَ من بينِ الجماهير إلى حيثُ كان علَمٌ يَخفقُ فوق ساريةٍ عاليةٍ. فأنزلَهُ ورفعَ مكانَه رقعةً، وقد كتَبَ عليها بالفحمةِ الّتي كانتْ في يدِه: "نريدُ خبزاً لا دماً! نريدُ عدلاً لا قانوناً! نريدُ سلماً لا هدنةً!"

وما هي إلّا طرفةُ عينٍ وانتباهتُها حتّى ثارتِ الجماهيرُ وهاجَت كأنّها بحرٌ متلاطمُ الأمواجِ، وإذا بصُراخِهم يشقُّ عنانَ السّماءِ: (ليَسقطِ الملكُ!).

وكان بهرامُ يشاهدُ من نافذتِه بعينينِ دامعتينِ ما يحدثُ. وحينَما سُئلَ: أحزناً على الملكِ كانَ بكاؤكُ أمْ فرحاً بانتصارِ الشّعبِ؟ أجابَ: "لا ذاكَ ولا هذا. ولكنَّها العجيبةُ الّتي اجترحَتْها فحمةُ القصبةِ!". (اجترحتْها: أجرتْها وأحدثتْها)

وفي مقالةٍ أخْرى بعنوانِ (الأدبُ والدّولة) يتحدّث نعيمةُ عن أهمّيّةِ الأدبِ في تكوينِ الأممِ؛ ليؤكّدَ من جديدٍ دورَ القلمِ وتأثيرَه من النّاحيةِ الأدبيّة في صياغةِ التّاريخ.. فدورُ الأدبِ في الحياةِ لا يُمكن أن يُحصرَ في زاويةٍ أو يُحشرَ في مضمارٍ: "فهو في العقلِ وفي القلبِ، في الرّوحِ والجسدِ، في الحقلِ والمعملِ، في السّجنِ والمدرسة، في دواوينِ الحكمِ وفي المعابدِ، في المناجمِ والمصانع، في المساكنِ والمتاجر، في المتاحفِ والمكاتب، في ساحاتِ الوغی ودُورِ الملاهي، وفي كلِّ ما يتّصلُ بالإنسانِ من قريبٍ أو من بعيد".

ولكنّ نعيمةَ الّذي عهدْناه فيلسوفاً وأديباً ومفكّراً حكيماً لا يُلقي بالأحكامِ وكأنّها مسلَّماتٌ، وإنّما يأتي بالأدلّةِ والبراهينِ والحججِ من تاريخِ الأدبِ وتاريخ الممالكِ والملوك؛ ليُبرهنَ على أنّ أقلامَ الأدباءِ أقوى وأمْضى على صفحاتِ التّاريخ وذاكرةِ الأممِ من سطوةِ السّيفِ، فها همُ الكتَّابُ والنُّقّاد والمؤرّخُون ما ينفكُّون يبحثُون عن تأثيرِ هذا الكاتبِ أو ذاكَ في حياةِ هذهِ الأمّةِ أو تلكَ، بل في حياةِ الإنسانيّةِ بأسرِها، ولا سيّما في الانقلاباتِ الكُبرى الّتي شهدتْها البشريّةُ على مرّ العصورِ، كالثّورةِ الفرنسيّةِ والأميركيّةِ والرّوسيّة، فيقولُ نعيمةُ: "فهل مَن يجهلُ أنّ موليير وفولتير وروسّو وهيغو وبلزاك كانوا ملوكاً بغيرِ عروشٍ وكانوا أبعدَ أثراً في تاريخِ بلادِهم وتاريخِ العالمِ من الجالسينَ على العروشِ في أيّامِهم؟ وأنّ بوشكين وتولستوي وتورغينيف ودوستويفسكي وغوركي كانوا أباطرةً غيرَ مُتوَّجينَ من أباطرةِ الرّوسِ الّذين عاصرُوهم؟ وأنّ غوتّه و شیلّر ونيتشه و مارکس، كانت - وما تزالُ - لهم مملكةٌ أين منْها مملكةُ فريدريك الكبيرِ وغليومِ الثّاني؟"

خاتمة

ممّا تقدّمَ ندركُ أهمّيّةَ السّيفِ والقلم في التّاريخِ مع تبادلِ الأدوارِ حسبَ تاريخِ الدّول والأممِ، كما وقفْنا على ذلكَ بحثاً وتفصيلاً، ولكنّ نعيمةَ بفكرِه الثّاقبِ أبرزَ دورَ القلم وأهمّيّتَه وتأثيرَه في التّاريخِ والوجدانِ والضّميرِ أكثرَ ممّا يفعلُه السّيفُ، وقد وقفنْا جليّاً على ذلك من مقالتَيهِ (السّيفُ والقصبة) و(الأدبُ والدّولة)، وقد اكتفيتُ بما قدَّمتُه من أفكارٍ، مع حرصِي الشّديدِ على الإيجازِ حينَ الضّرورةِ، فأرجُو أن يوفّقَني اللهُ لما يُحبُّ ويرْضى!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى