الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠٢١
بقلم رامز محيي الدين علي

أيُّها اللَّيلُ

أيُّها اللَّيلُ..

هجعَ النَّاسُ، وسكنَتْ طيورُ الطَّبيعةِ، واستراحَتْ طُرقاتُ المدينةِ، ومالَ الكونُ إلى سكونٍ، ونامَ في البحرِ صوتُ السَّفينةِ.. وعيونُ النَّاسِ غارَت في رحمِ الأحلامِ، ونواظرُ العاشقينَ تراقبُ الكونَ وتسترجعُ ذكرياتِ الأيَّامِ، أمّا عُيوني فلا تدريْ كيفَ تنامُ؟! وفُؤادي خافِقٌ يؤجِّجُه لهيبُ العشقِ ويُضْنيهِ الغرامُ..

مدَّ جناحَيكَ وخُذْني إلى وطَني.. فأنا غريبٌ مسافرٌ مثلَكَ بلا سكنِ، وقدْ ضيَّعتُ طريقِي، ما عدْتُ أذكرُها، فلا أحدَ في الكونِ يُرشدُني.. إنّني أناجيكَ أيُّها اللَّيلُ وأهمِسُ إليكَ ولا أدريْ إن كنتَ تسمعُني!

ها هيَ نجومُكَ غارتْ في كبدِ السَّماءِ، والعصافيرُ انتفضَتْ ودغدغَها خيطُ الصَّباحِ، وتنفَّسَ الظَّلامُ تنفُّسَ الصُّعداءِ، وامتلأتْ أفواهُ النَّسيمِ بالأقاحِ.. هجرَ النُّعاسُ أجفَاني وودَّعَها ثمَّ راحَ.. وتغلغَلَت صورُ الحبيبِ في حنَايا القلبِ، فمَا لي مِن سكينةٍ أو مُستراحٍ.. وهاجتِ النَّفسَ أشواقٌ وذكرياتٌ! فهاجَ في كبِدي وهجُ الجراحِ!!

أيُّها اللَّيلُ..

إنّني أعشقُكَ وأهيمُ فيكَ، كما أعشقُ ظلُماتِ نفْسي وأحارُ فيها.. فيكَ وحْشةٌ، وفيكَ سكينةٌ، كمَا في ذاتي قلقٌ وطمأْنينةٌ.. فيكَ ظلامٌ لا يبدِّدُه إلّا نورُ القمرِ، وفي نفْسي ظلامٌ لا يهتِكُ أسرارَه غيرُ نورِ الفكْر.. فيكَ نجومٌ لا يُحْصيها عدٌّ تتلألأُ في غياهبِ ظلماتِكَ، وفي كيَاني بحارٌ من الألغازِ تعجزُ كلِماتي عن الغوصِ إلى أسرارِها.. في سوادِكَ سكونُ الأبديَّةِ، وفي سوادِ نفْسي زوالُ الأبديَّةِ.. حينَما أتأمَّلُك وحيداً في غسَقِكَ وسُدفتِكَ وهزيعِكَ وسحَرِك.. أرى في نفْسي أجزاءَكَ، وكأنَّكَ مرآةٌ تعكسُ مجاهلَ نفْسي لتتدفَّقَ شلَّالاتٍ منَ الصُّورِ والأفكارِ والألغازِ إلى ساحاتِ وعْيي رويْداً رُويداً..

أيُّها اللَّيلُ..

بالرَّغمِ من ظُلْمتِكَ ووحشَتِكَ.. أعشقُكَ؛ لأنّكَ أجملُ ما في الكونِ من ظلامٍ في نظَري، وأعظمُ ما في الوجودِ من سوادٍ!

لكلِّ إنسانٍ نظرتُه إليكَ.. المؤمنونَ يرونَ في أجملِ ساعاتِكَ هُنيهاتٍ منَ التَّبتُّلِ والتَّهجُّدِ والمناجاةِ.. واللُّصوصُ والمجرمُونَ وقُطَّاعُ الطُّرقِ يعشقُونَ عتمتَكَ؛ لأنَّها تسهِّلُ طرقَ تسلُّلِهم عن عيونِ البشرِ لتحقيقِ مآربِهم.. والعشَّاقُ يَهيمُونَ بلياليكَ المقْمِرةِ حينَ تتَناجى الأرواحُ العاشقةُ، وتذوبُ بإكسيرِ العشقِ الأبديِّ.. والأطفالُ تمتلئُ أفئِدتُهم غراماً بإحصاءِ نجومِكَ، وتغرقُ أبصارُهم بالآمالِ والأحلامِ، وهيَ تودِّعُها لتسْكرَ في نشوةِ الرُّقادِ.. وكلُّ ما في الكونِ يتغنَّى بهدوءِكَ وسكينَتِكَ وساعاتِ الرّاحةِ من شقاءِ السَّعيِ والعملِ نهاراً..

إنّني أقدِّرُ نظراتِ النَّاسِ إليكَ بشتّى تأمُّلاتِهم وفلسفةِ محبَّتِهم لكَ.. لكنَّني أعشقُكَ أيُّها اللَّيلُ عشْقاً فلسفيَّاً ربَّما تأمَّلَهُ غيري.. وربَّما كنتُ الأخيرَ .. وربَّما أحوزُ قصبَ السَّبقِ في تأمُّلاتي إليكَ من مجاهرِ فكْري ووجْداني وبوحِ ذاتي!

إنّني أعشقُكَ أيُّها اللَّيلُ وأهيمُ في ظلمتِكَ؛ لأنّكَ ظلامٌ حيٌّ تتجدَّدُ به الأيّامُ، وتتغيَّرُ به نواميسُ الحياةِ.. إنّك أجملُ من ظلماتِ القبورِ الّتي أرهبَنا بها أصحابُ القوقعاتِ المظلمةِ، حتّى صارَ الموتُ كارثةً إرهابيَّةً، معَ أنّ الموتَ نهايةٌ حتميَّةٌ لكلِّ كائنٍ حيٍّ، فلماذا نخشاهُ.. الموتُ رقدةٌ تعقبُها حياةٌ أبديَّةٌ سمَّاها الفراعنةُ (يارو) ونقيضُها الجحيمُ (سج)، وسمّاها السُّومريُّون العصرَ الذَّهبيَّ و (دلمون)، وسمَّاها بوذا (النّيرفَانا)، وجاءَت في الكتابِ المقدَّسِ باسمِ (الفِردوس)، وفي القرآنِ الكريمِ عُرفَت باسمِ الجنَّةِ أو النَّعيمِ ويقابلها الجحيمُ أوجهنَّمُ، ومهْما تعدَّدتْ التَّسمياتُ، لكنَّها تقودُك في النّهايةِ إلى رومَا السَّماءِ، أو رومَا العالمِ السُّفليّ حسبَ أساطيرِ الرّومانِ.. فالنّهايةُ خلودٌ أبديٌّ وسعادةٌ مٌطلقةٌ ولذّةٌ عارمةٌ، فكلُّ ما حُرمَ منهُ الإنسانُ في الحياةِ الدنيويَّةِ، سيسعدُ بهِ سعادةً روحيّةً أو جسديَّةً على مدارِ خلودِه الأبديِّ، وكلُّ ما عاناهُ المخلوقُ البشريُّ من فقرٍ وشقاءٍ وظلمٍ واضطهادٍ وقتلٍ وإبادةٍ بكلِّ أنواعِ أسلحةِ الدَّمارِ والبشاعةِ والجريمةِ البشريَّةِ الّتي تفوقُ عذابَ جهنَّمَ، سوفَ يَنْسى ما عاناهُ حينَما يخلدُ إلى نعيمِه، أمّا طغاةُ المالِ والسُّلطةِ والسِّلاحِ فمصيرُهُم إلى جهنَّمَ وبئسَ المصيرُ، وحينَما يذوقُون طعمَ السَّعيرِ سيتذكَّرونَ تفاهةَ أموالِهم وحقارةَ أسلحتِهم ووضاعةَ إجرامِهم!

أيُّها اللَّيلُ..

إنّني أعشقُك؛ لأنّ ظلمتَكَ تتبدَّدُ حينَما يشقُّ قمرُ العاشقينَ أسدالَكَ بأنوارِه، وحينَما تنبلجُ خيوطُ أشعَّةِ ذكاءَ لتملأَ الكونَ ضياءً.. فإنّكَ أجملُ من ظلماتِ نفوسِ البشرِ الّتي لا تُبدِّدُها كلُّ أنوارِ الحقيقةِ، ولا أنوارُ المعرفةِ، ولا تجاربُ الحياةِ.

إنّكَ أجملُ من كلِّ أفكارِ الظَّلاميّينَ والطُّوباويّينَ والسَّاسةِ الّذين لا يرونَ في العالمِ كلِّه غيرَ قوائمِ كراسِيهم وعروضِ قوَّةِ جيوشِهم الّتي تحجبُ عنهم رؤيةَ ضعفِهم وهزيمتِهم الدَّاخليّةِ!

إنّكَ أجملُ من كلِّ ما يرتديهِ البشرُ من أرديةٍ وعماماتٍ تُخفي بشاعةَ نفوسِهم وقبحَ أفكارِهم وانحطاطَ أخلاقِهم!

إنّ ظلامَكَ الدَّامسَ أجملُ من ظلماتِ نفوسٍ تقطنُها كلُّ شياطينِ الأرضِ ولا تَرى في الكونِ أيَّ جمالٍ ملائكيٍّ أو إنسانيٍّ، وإنّما ديدنُها القبحُ والشَّرُّ والفتنةُ والقتلُ والجريمةُ والنَّهبُ والاستبدادُ والطُّغيانُ!

إنَّ ظلامَكَ المحلَولِكَ أكثرُ نوراً من ظلامِ نفوسٍ وضيعةٍ رخيصةٍ باعَتْ ضمائرَها بحفنةٍ منَ الدَّنانيرِ الرَّخيصةِ، وآثرتْ مجافاةَ الحقيقةِ؛ لتتعبَّدَ في محرابِ الذُّلِّ والخنوعِ واستسلامِ القطيعِ!

إنَّ أسدالَ ظلامِك أشدُّ شفافيةً من ظلامِ نفوسٍ لا تعرفُ للكلمةِ ذوقاً ولا للموقفِ أثراً ولا لقيمِ المحبَّةِ الإنسانيَّةِ والمثلِ العُليا بيرقاً!

إنَّ تشابكَ خيوطِكَ السَّوداءِ في نسيجِكَ المنْتشي بالسَّوادِ أقلُّ تشابكاً من العُقدِ النَّفسيَّةِ السَّوداءِ في نفوسِ كثيرٍ منَ البشرِ الّتي تُعشِّشُ في حنايَاها عقَدُ اللّيبيدو والأنانيّةِ و عشقِ الذَّاتِ، فلا تَرى في الكونِ من جمالٍ غيرَ ما يحقِّقُ لها لذَّاتِها وطغيانَ ذاتِها، وشهوةَ استِحواذِها على كلِّ ما أنعمَ اللهُ في الحياةِ!

فتحيّةً لكَ أيُّها اللّيلُ كلّما أسدلْتَ ستائرَ ظلماتِكَ على وجوهِ البشرِ الّتي تشوِّهُ جمالَ الحياةِ بكلِّ ما تحملُهُ من جورٍ وأنانيّةٍ وشرِّ وأذىً وقبحٍ وظلامٍ!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى