الثلاثاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٢٣
بقلم هاتف بشبوش

إبراهيم عبدالرزاق، يضعُ الكلامَ، على النخيلِ واليَمام ..جزءٌ ثانٍ

ممتليء بالوجود
لكنهُ ليس خالدا
ممتليء بالحلم
لكنه ليس نائماً
ممتليء بالضحك
لكنه ليس هانئا
ممتليء بالحب
لكنه ليس مجنونا
ممتليء بالعراق
لكنه ليس مرتاحا

أننا نخجل أن ننتمي الى هذا العصر المخزي ، ندفن رؤوسنا كي نتخلّص من خجلٍ عميقٍ يلاحقننا متمثلاً بانتمائنا لأعرق حضارة قد احتلَّها ومزّقَ أوصالَها جمعُ حثالات. ولذلك الشاعر ابراهيم يحب أن يبقى هو هو، لايمكنه أن ينشطر، لكثرة مافي هذا الكون من أهوال تجبرنا على البقاء ولا نضطر لسلخ جلودنا مثل الأفاعي لكي نضع الذات الإنسانية أمام محكمة العقل لتنال جزاءها خيراً أو شراً وهذه هي ذروة الحداثة لدى إبراهيم تلك التي تحدث عنها لآول مرة الإنكليزي (برنارد لويس) والتي تعني في أحد جوانبها الأساسية هي خصخصة الدين. هنا الشاعر يحلم في مجتمع أرقى وإنسان أعلى مثلما حلم به الفيلسوف الألماني (نيتشه) وأطلق عليه (الإنسان الأعلى أو السوبرمان) وهذه مثلت في أكثر من فيلم بذات العنوان (السوبرمان ) مع إضافات أخرى من خيال السيناريست وأحد هذه الأفلام من تمثيل (ديفيد كلر) وإخراج (ريتشارد دونر). لذلك في النص أعلاه يبقى الشاعر إبراهيم غير مبتهجٍ ولا مسرورٍ حتى تحقيق الحلم المرجو، بل يبقى بقلب صادٍ لكل شيء كما نراه في (ضمأ الأفئدة):

أن يحدودب النخل
يعني انّ الضيم
قد دقّ عظامَ البشر
أن تلتوي أعناق النخيل
يعني انّ الصدع
قد أخذ باعناق الناس

الشاعر في نفس الوقت يؤمن بحركة الحياة وطبيعتها التي تبدأ من الطفولة حتى الشيخوخة التي لامفر منها، إنها ألأمر الذي لايستثني أحدا، كلنا نشيخ، نتغضن، نحدودب، نفقد طاقاتنا التي كانت أيام صبانا بتلك الحيوية الفياضة التي تتحول الى الخمول والكسل القسري ثم الموت الحتمي وهذه هي فلسفة الحياة فلامفر منها.

لكن هناك من الفلاسفة أعطونا دروسا بخصوص عدم الخوف من الموت ومنهم الشهير (أبيقور) الذي كان يقول: وأنا في الحياة فهذا يعني لاوجود للموت وأنا في الموت لاوجود للموت أيضا لآنّ الميّت لايشعر ولايحس فعليه أن لانخاف من الموت أبدا، هي فلسفة عصيّة على الفهم لكنها تمدّنا بالقوة كي نستمر ونعيش باللذة والإمتاع على طراز المدرسة الرواقية وزعيمها اليوناني (زينون). ومع هذا الإصرار والتحدي يستمر الشاعر في وصفه لألام البشرية والتي على طول عمرها القادم من الأزل وهي تتحمل شتى أنواع القهر وسط هذا العالم وهذه الحياة التي تصل بنا في نهاية ثمارها الى تويجة الموت لاغيره. ولذلك نرى في الأنطولوجيات الأدبية يقولون على الإنسان بالمعذب، وفي الأنطولوجيات الدينية يُطلق عليه بالمبتلى. هذ يعني هو الشقاء بعينه كما في نص (شقاء):

شعوب لابليلها ليل
ولا بنهارها نهار
تموت ضامئة عند اودية الانهار
تموت في القر
عند تخوم البيادر
تموت من الزمهرير
تارة بداء الخنازير
وتارة بداء الطيور
قبل عهد الغزاة كانت جدائلا
بعد عهد الغزاة صارت قبائلا
أيها الضامئون
إدفنوا دلاءكم واطمروا آباركم
وافتحوا افواهكم للغمام

شعوب يولد بها المرء كالماء النقي وبعدها يضاف اليه شوائب المجتمع الكثيرة فينقلب رأسا على عقب الشر والمتاهات والضياع الذي يأتيه من الفقر والإستبداد الذي يخنق عنق حريته فحتما يؤدي به الى ماهو عليه الآن. أما بعد الغزاة فتحولت الشعوب الى العشائرية والأخذ بالثأر وضاعت القوانين المدنية والوضعية وبدأنا نلجأ الى قوانين البداوة وقطاع الطرق وتأبط شرا، والجهل الذي ينخر بها وكل هذا جاء بعد الغزو المدمر للثقافة العراقية بشتى أشكالها. لايمكن للشعوب أن تجني شيئا جميلا من الغزاة، ولذلك قال نيقولا بوسان (سكير عاشق خير من غازٍ). إبن خلدون في مقدمته قال: الطغاة هم من يجلبون الغزاة. الروائي البرتغالي الشهير (جوزيه ساراماغوا) سألته إحدى الصحفيات عن أمريكا فسقط كوب الماء من يده فجأة وقال: حمدا لله أنه كوب الماء وليس كوب القهوة، لانه كان يكره أمريكا كرها عميقا. هكذا هم العمالقة وأساليبهم في التهكم الشديد فالغزو مهما يكن هو رمز الدمار على كافة المستويات ومنها الموت الذي يصبح إحصائيات لاتراجيديا مألوفة، ومن ثم كثرة الأكفان والبياض الذي يلفّع أجساد الإنسانية الذي تطرق له الشاعر إبراهيم في (منتهى البياض):

هنّ يعشقن البياض
حين ينداح في مناديل الزفاف
فهنّ عذارى
ويعشقن البياض
حين ينداح في المشافي والصدور

مفارقة البيت الابيض
بياض الحجر الاسود
دشاديش الخليجين
دشاديش المختونبن
والكل سيلقى ربه ملفعا بالبياض

لقد تحدث الشاعر المصري الشيوعي الراحل (أمل دنقل) عن البياض حين كان مريضا بداء عضال وكتب نصا عن بياض المشفى وكيف كان ذا وقع كئيب على روحه وهنا أذكر جزءا منه: في غُرفِ العمليات/ كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ/ لون المعاطفِ أبيض/ تاج الحكيماتِ أبيض/ أرديةُ الراهبات، الملاءات، لون الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن، كوب اللَّبن، كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكفن!. حتى يقول في آخر النص لماذا يأتي المعزون باللون الأسود فهل أن اللون الأسود هو بمثابة التميمة ضد الزمن. تعني التميمة هو كل مايعلق في الأعناق ضد عيون الحاسدين للحفاظ على المرء من الشر. ومن كل هذا الشقاء يعترف الشاعر إبراهيم من أننا لابد أن نستمر بالحب حتى نجعله ينتصر على بياض الموت والقيم القميئة والرذيلة فليس لنا بدّ غير ذلك الحب الذي يعطينا الدفق والقوة والعزيمة بعد كل موت أو فشل ذريع أو بسيط وها نحن نقرؤه في (عاشق):

إدفع قدميك في جزمتك
إرفع ياقتك
دفء راحتيك بلحيتك
تأبط مظلتك
متاعك في رحلتك
آخر الكلام وباقة ورد

الحب ليس شغفا بل هو مرضٌ.. مارسيل بانويل

النص أعلاه إستطاع ان يجعلنا نعيش في المدينة (الحداثة) لاالصحراء حين قال أحدهم قبل ألف عام (أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري) فاليوم هو عصر القاطرات والطائرات فلايمكن أن يكون الجمل وسيلة للنقل. فتحية للشاعر إبراهيم الذي جعل منا نقطف ثمار المعاني بما تشتهيها النفوس، سواء ان كان حب إمرأة أو حب الأوطان وأشياء أخرى. اذا اردت ان تنسى احزانك ادفنها مع الكحول أومع من تحبها، أحيانا الواقع مثل الأفلام حالما تدخل في علاقة حب تتذكر لماذا تورطت به، فهناك مشاهد سينميّة في حياتك مرحة مصنوعة من أعذب السموم، الحب ليس كلمة قوية بما يكفي، لآنه أحيانا يخيفك أن تحب شخصا بكل كيانك ولايبادلك المشاعر، لو فهمنا الحب لفقدنا أعمالنا وهومختلف من شخص الى آخر فهو مثل بصمة الأصبع، فبعض الناس خلقوا من أجل الحب وبعض الناس يبحثون عن شخص يحبهم بالطريقة التي يريدونها وهذه من النرجسية.

وهناك مثل افريقي يقول (أينما نحب لايحل المساء). هناك من يبكي في الحب وهناك من يمتعض حين لاتقرأ رسائله حبيبته وهناك قانون الإنجذاب الذي ليس لدينا به من معرفة الا عند الدخول الحقيقي في تخوم الحب الذي يخلق لنا جوا عالياً من الحداثة. فالحب هو جانب من الإستنارة التي ندخلها ونحن مرحون سعداء. أضف الى ذلك وأذكر مرة أخرى في هذا المقال الفيلسوف الألماني (نيتشة) الذي كره النساء لكنه من جانب آخر يعترف ويقول (انا لا ألهث وراء النساء، ولا للسعادة، لكن السعادة انثى).

سطور أخيرة بحق الشاعر:

الشاعر إبراهيم عمل مدرّسا في البصرة، له من المجموعات الشعرية العديدة ومنها (قناديل الأسمر بن عتمة) و( تفاصيل الرؤيا)، عضو في إتحاد الأدباء العراقي. إستطاع إبراهيم من خلال إبداعه المبهر أن يحيط بالفضاءات والمديات الرحبة التي تتسارع فيها الحيوات والشعوب وتعمل وتنمو وتتصاعد أو تتضاءل تبعا لمعطيات الواقع الإجتماعي والموضوعي وذاتية الفرد وسعيه نحو الرقي الثقافي من عدمه. الشعر بالنسبة لإبراهيم هو كفّ يعبّر عن إرادة الحياة وإيقاعها. كما أنه تطرّق الى الكثير من المتناقضات المتلازمة في في هذا الكون المترامي، والتي تحدّث عنها الفيلسوف الشهير هيراقليطس، على سبيل المثال لا الحصر: إذا لم تصب بمرض لم تعرف الصحة، إذا لم تعرف الجوع لاتعرف الشبع، العلم والجهل، الحب والكره، الموت والحياة، الحرب والسلام، العقاب والثواب. بدون هذه اللعبة الإلزامية لانستطيع أنْ نرى للعالم أيّ وجود حركي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى