السبت ٢٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

إتيان

وعلى الوسادة نفسها التي كنت أتوسّدها كانت تغطّ في نومٍ عميق، تأمّلْتُ وجهَها المكسوّ بعرق الدفء، كملاكٍ مستحمّ بقطر الندى الصباحيّ، تلتصق على جبينه خصيلات شعرها المتناثرة كالإكليل الفوضويّ، وكأنّ تلك الخُصيلات ضرَباتٌ مُستعجَلة من ريشة فنّان غير مهتمّ لتصفيف شعرها بعد أن بذل كلّ الجهد في رسم تقاسيمها المتقَنة.

والأجفان في نصف إطباقة، لتُبقي جزءاً من بياض العين مرئياً، إنها العيون الحذرة، تلك التي توحي لك بأنها تراك بالرغم من استغراقها في النوم. فلا تؤتها بما يزعج من صوت، وإلا فستتقلقل الأجفان، وترتكس، وتخفق الرموش المهدودبة الكحيلة، وكحل المساء الذوّاب ذاب بعضه كذيولٍ منسابة في أخاديد المآق.

أقاتلها قبل النوم إذ أنها تريد أن تغفو على ضوء، والنور الوضّاء يجعلني أدفن رأسي، لكني أفقت الآن، واكتشفت روعتها تحت الضوء.

ابتسامة الرضى مرتسمة على وجهها النائم، وكأنها ترى الآن حلماً جميلاً. دعها مسترسلة، ولا تؤتها بما يقطع حلمَها الرضيّ، وإلا فسيتأتّى عليك ما يتأتّى من عتب، وسيصعب عليك الإتيان بما يُغني عن جوع.
ويلي من وجهكِ إن أفقتِ، وكيف أبرّر ما آتيتك به!

وما آتيتكِ إلا بما نضحَتْ به روحي في لحظات اندفاع الوجدان وانفقاء الكتمان وتشظّي العاطفة رذاذاً، سأعتذر من شطآنكِ الرملية التي اكتسحَتْها أمواجي المزبدة. ما أنا الذي فاضت سواقيه على ضفّتيك، بل الذنب على الريح التي عصَفَتْ بأعطافي، وجرَفت صفحة مياهي الراكدة، وأثارت بأمواهي زوابع الهدير، حتى ارتجّ من تحتنا السرير، كزلزالٍ تفيق من ارتجاجاته على نشوة الطنين.

ويلي من وجهكِ الصّبوح إن أصبح علينا الصباح معاً، لم لا أغادر هرباً من وجهك الذي لن أقوى على مواجهته؟ لم لا أنسحب من سريرك متسللاً الآن؟ وعلى رؤوس أصابعي أشدّ رحالي بعيداً عن وجهك الذي أخجل من براءته الملائكية.

كيف ركّبوا وجهك الطفوليّ على جسدكِ الناضج؟ كأنّي أواجه امرأة ذات زمنين، فالوجه محتفظٌ ببراءة الأطفال ووداعتهم وطهرهم، والجسد قنبلةٌ موقوتة من الإثارة، فإمّا أن تهرب منها أو تترك نفسك بين يديها لتنفجر فيك أو تنفجر فيها!

أيتها الدُّمْية الجميلة، كنتِ ليلة البارحة ألعوبةً بيد طفلٍ شقيّ، مطواعة بلا رفض لكلّ ميوله ونزعاته وشيطنته، وكم من الأطفال أتلفوا ألعابهم وشدّوا منها الشعور ونزعوا عنها الثياب الرقيقة المَخيطة من قماشاتٍ مخمليّة، لماذا يخرّب الأطفال ألعابهم ودُماهم ثم يبكون لفقدها؟

أنا الشقيّ لعبتُ معكِ لعبة الكبار، لأني كنت أرى جسدكِ الناضج فقط، ونسيتُ وجهك الطفولي في زحمة انفعالاتي؟

أعدكِ منذ الآن بأني لن آتيكِ ـ إن أتيتكِ ثانية ـ إلا كفنّان عاشق للوحته فاعتبرها إيقونته المقدّسة، أو كنحاتٍ نحَتَ جسد فينوس، وعندما اكتملت بين يديه سجد لها كإلهة للحب والجمال.

وتململَتْ من رقدتها، ثم استفاقت، وتثاءبت، وتمطمطت وتأوّهت، فبدت لي كبيرة وعظيمة كالمارد يخرج من قمقمه، فوضعتُ وجهي في الأرض، ولو قدِرْت لدفنته تحت أغطية الفراش هرباً من وجهها، لكنّها انتشلتني كمن ينقذ غريقاً من سحيق يمّه، وسحبَتْ وجهيَ الغائر من بين كتفيّ.

وا للعجب ! كانت سعيدة كما يبدو، وراضية، بل وكأنها ممتنّة لحبّي الجارف العشوائيّ المجنون، وغير مكترثة لإتياني لها أنّى شئت، وأنّى شاء ليَ الطّواف ببيتها الحرام.

ودارت ساعة الصباح كأيّ صباح، وكأنّ ما جرى ليلة أمس كان من منسيّاتها، وكنت صغيراً وصاغراً كالتلميذ المذنب أمام معلّمته التي غفرت أخطاءه كما يبدو، بل واستحسَنَتْها!

وشارَكتْني قهوتي العجولة، وعيونها المفتوحة أقوى من عيوني الذليلة التي تتّقي الالتقاء بعيونها.

وبعد أيام ليست بالكثيرة، دبّ فيّ الحنين إليها ثانية، ولم أكن لأجرؤ على الاتصال بها، وكم كنت سعيداً عندما فاجأتني بلا موعد، كاللص يأتيك، وأتتني كالأتيّة، وأتيتها وآتيتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى