الأربعاء ١٦ أيار (مايو) ٢٠٠٧
قراءة في كتاب: النزعة الإنسانية والنقد الديمقراطي لإدوارد سعيد
بقلم عبد القادر الجموسي

إدوارد سعيد ناقد إنساني، مفرط في إنسانيته:

تمهيـد:

كتب إدوارد سعيد المحاضرات التي تؤلف منجزه النقدي الموسوم "النزعة الإنسية و النقد الديمقراطي"* في فترة عصيبة من حياته الغنية بالعطاء الفكري ، حيث كان يجري خلالها فحوصات طبية دقيقة لعلاج كيميائي ضد المرض العضال الذي ألم به و حرمه من رؤية ثمرة جهده الأخيرة.

لكن إدوارد سعيد كان يعي جيدا كيف يناور ضد الموت حتى النزع الأخير من حياته و على طريقته الخاصة التي تميزت بتفاؤل العقل و قوة الإرادة و رحابة الرؤية ومشاكسة المصير، هو الذي قضى حياة حافلة بالجدل العالي على مختلف الجبهات والنضال اليومي ضد كل أشكال الإقصاء و النفي و التهميش و الكهنوت و التطرف الديني و الدنيوي سواء.

فجاء كتابه المذكور بمثابة صيغة أخيرة لإعادة التأمل في مساره الإبداعي على أرضية فلسفية تسعى إلى موضعة منجزه الفكري و النقدي في إطار موقف فلسفي إنساني يؤمن بالظاهرة الإنسانية و فعلها التاريخي و من ثمة قدرة الإنسان على فهم ما صنعته يداه في شكل تاريخ متواصل و معقد، لكنه يظل، مع ذلك، قابلا لكل قراءة وتأويل. و من جهة ثانية، يعمد ادوارد سعيد إلى استنفار و شحذ عتاده المعرفي والمنهاجي لإجراء فحص دقيق لمفهوم الإنسية عبر نقد بعض استخداماتها المعاصرة التي تحرف المسعى الحقيقي للفكر الإنساني و تشوه، في الكثير من الحالات، غاياته الأصيلة المتمثلة في استنهاض قدرات الإنسان لخدمة الخير العام للبشرية دون مفاضلة شوفينية لشعب على آخر أو عرق على أخر أو ثقافة على أخرى.

يقوم ادوارد سعيد في هذا المؤلف بعملية "تهيئة المجال" في صيغة مراجعة شاملة لتيارات الفكر الإنساني التي تتفاعل في سياق النسيج المجتمعي و الأكاديمي عموما، و الأمريكي على وجه الخصوص. و من ثمة يستحضر الناقد أهم المدارس والاتجاهات المؤثرة التي تنتسب إلى التاريخ الأرحب للفكر الإنساني الأوروبي والأمريكي. لذا نجده نحن كقراء يستثمر كل رصيده المعرفي و الإجرائي بدقة وحصافة ليجهز، بلا مواربة، على مقولات تدعي الانتساب إلى الممارسة النقدية والجمالية الإنسانية، و ذلك بالكشف عن زيف ادعاءاتها التي من شأنها أن تضيق الأفق الإنساني الرحب و تجعل منه، ضدا على طبيعته الجوهرية، نوعا من الكهنوت الحصري على طائفة معينة أو عرق معين، بدلا من أن تجعل منه فضاء حاضنا للتنوع الثقافي والاختلاف الديمقراطي.

فمنذ الصفحات الأولى، يجاهر سعيد بانحيازه الواضح للفكر الإنساني و للاتجاه النقدي الديمقراطي الذي ينطلق من نقد الذات و فتح آفاقها على كل ما هو مختلف ومغاير في شتى مظاهر تنوعه و نديته و ثرائه الثقافي على أساس أن " كل ثقافة، أينما كانت، تمر عبر مسار طويل من تعريف الذات و تحليل الذات بالنسبة إلى الحاضر و إلى الماضي معا". (ص 46).

و هذا بالتحديد هو ما يحاول سعيد إجراءه على الفكر الإنساني الذي ينتمي إليه: التعريف و التحليل و الامتحان، بوصفها إواليات منهجية تعي جيدا واقع موضوعها الإنسي و مأزقه التاريخي الذي يحتاج إلى مراجعة شاملة تعيد إليه زخمه الحيوي اللازم و تمده بأسباب النجاعة الإجرائية و التاريخية التي تجعله يكتسب جدواه و راهنيته. إذ من دون هذا النقد الصريح و الدقيق سيظل المجال الإنساني، بمعزل عن أي فعالية نقدية مستنيرة، أشبه ما يكون "بالنفخ الذاتي" أو "ضرب من الغرور" أكثر منه فكرا إنسانيا صميميا.

إننا إذن أمام عمل يزاوج بين التعريف بالممارسة الإنسية و رسم حدودها ووظائفها من جهة أولى، و عملية النقد التي تهدف إلى مساءلة البديهيات الراسخة والأحكام المسبقة و التخلي عن المعادلات السهلة، التعميمية و التجزيئية و الاختزالية، التي تفقر الموضوع و تستنزف الشحنة الحيوية للفعالية النقدية الواعية من جهة أخرى.

و بهذه المزاوجة يستهدف ادوارد سعيد النخبة المثقفة باعتبارها طليعة المجتمع المعنية بكل مشروع إنساني تنويري و هي المنوط بها استثمار جهدها و اجتهادها الفكري لبناء حقول تعايش بدلا من ميادين احتراب و تنابذ، و ذلك في سياق عالم متحول و مضطرب عاج بالنزعات العدوانية و الحروب الفعلية و الإرهاب على أنواعه.

يتحرك الخطاب في كتاب " النزعة الإنسية و النقد الديمقراطي" في شكل دوائر متصلة بعضها ببعض تعكس رؤية للعالم و تصميما محكما على استكشاف روح النص، سواء كان نصا أدبيا أو أكاديميا أو مجتمعيا، و ربط أجزائه بأجزاء أخرى تنتمي لدوائر معرفية مجاورة، و ذلك بطريقة ابتكارية تكاملية تبتدىء مما هو خاص لتصله بما هو عام، وتمتحن العام على ضوء الجزئي و الهامشي و الصامت إذ يعاد استكشافه واستنطاقه ووضعه من جديد في دائرة الاهتمام المحورية.

و في ذات السياق، ينطلق عمل المفكر الإنساني من إيمان راسخ بفعالية الذات المفردة/المبدعة و إسهامها في حركة المجتمع و التاريخ عموما، ضمن ديناميات موازية و معقدة أكثر تنظيما و نفوذا تتمثل في ذاتيات جماعية كالمؤسسة الأكاديمية و تشكيلات المجتمع المدني و دوائر النخب المثقفة، و ذلك على أساس أن دور النزعة الإنسية هو "توسيع دائرة الانتباه كي تضم دوائر متسعة و وثيقة الصلة بالموضوع" (ص 103).

و قبل عرض أطروحات الكتاب بنوع من التفصيل، يلزم التنويه إلى أن كتاب "النزعة الإنسية و النقد الديمقراطي"، لا يقدم نفسه كعمل يدعي الإحاطة الشاملة بتاريخ الحركة الإنسانية أو تفحص علاقتها الميتافيزيقية بكائن بدئي على طريقـة هيدغـر*، وإنما هو يتغيا معالجة الحركة الإنسية " كممارسة يستخدمها مثقفون وأكاديميون يريدون معرفة ما هم فاعلون و ما الذي يلتزمون به كباحثين يرغبون أيضا في ربط تلك المبادئ بالعالم الذي يعيشون فيه كمواطنين". انه كتاب يعي شرطه الذاتي و التاريخي، ينطلق من التجربة الشخصية لمؤلفه و رهانات العمل الأكاديمي و الجدل المجتمعي الأمريكي لينفتح على أفق أوسع لا يخلو من نزوع مثالي كوني محرض على تجاوز بؤر التوتر و التصادم التي تروج لها أطروحات قومية ضيقة كأطروحة "نهاية التاريخ" و "صراع الحضارات".

إن جوهر النزعة الإنسية، لدى سعيد، يتمثل في وعي الذات بشرطها التاريخي ودورها الحضاري مما يجعل منها فاعلا مجاورا لفعاليات تاريخية و ثقافية مغايرة تتمتع بنفس الاستحقاق و الاعتبار. أو قل بعبارة ادوارد سعيد نفسه: إدراك التاريخ البشري بما هو مسار متواصل من معرفة الذات و تحقيق الذات ليس بالنسبة إلينا وحدنا، الأوروبيين والأمريكيين البيض الذكور، و إنما بالنسبة لجميع الناس.

التجربة الشخصية:

يقدم إدوارد سعيد في ثنايا كتابه التأملي هذا صورة مركزة و منقحة بعناية عن تجربته الشخصية من حيث هي رافد مهم من روافد فكره الإنساني التي كان لها الأثر البالغ في تشكيل رؤيته النقدية للواقع و للثقافة، لا سيما و أن فترة كتابة المحاضرات المؤلفة للكتاب الحالي جاءت متوازية و متزامنة مع مرحلة تأليف مذكراته التي ابتدأ العمل عليها عام 1994 لتتخذ شكلها النهائي في نوفمبر 1998 تحت عنوان بالغ الكشف و الدلالة: "خارج المكان".*

إن إدوارد سعيد من المثقفين الذين لا يضعون حدا فاصلا بين تجربتهم الحياتية ورؤيتهم الفكرية للعالم. بل هو ينظر إلى "الكائن المشخص"، حتى في أكثر حالاته هشاشة، كحصيلة مركبة من التجارب اليومية المباشرة و العلاقات المتوترة، واعية كانت أم غير واعية، مع مجمل العوامل الواقعية/الدنيوية المستحكمة في الذات والعالم من "سلطة" و "موقع" و "مصالح" بما هي ذلك "الإطار العام التاريخي الذي يستحيل على أي منا التفلت و لو نظريا من شروطه". (ص70).

و على هذا الأساس، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال عزل الموقف الفلسفي الإنساني لادوارد سعيد عن وضعه الوجودي القلق ككائن عاش حالة منفى مستديمة وارتحال متراوح بين ثقافتين (عربية/غربية) و لغتين لم يدر أيا منها هي يقينا لغته الأولى**، و هو ما جعله يصف نفسه ب"الكائن البرمائي ثنائي الثقافة". (ص18)

بل و أكثر من ذلك، يصبح وضع المنفى لدى الناقد الإنساني، رغم ضراوته وقساوته، هو بمثابة جدل حيوي يؤطر و يذكي فعاليته الثقافية، فيصوغه المثقف بدوره ويحوله من طاقة تدمير و تشاؤم إلى مادة إبداع خلاقة جاعلا منه موقفا نقديا واعيا يواجه فيه "السلطة" بالحقيقة. وفي هذا المعنى يقول الباحث فيصل دراج في مقال هام له عن "صور المثقف عند ادوارد سعيد": " و منفى المثقف الطوعي مزهر لا مأساة فيه، يكشف عن الفرق بين ما كان و ما هو كائن، يزود المثقف برؤية أشمل، يضيء حركة الأشياء و تحولاتها مقلقا الإجابات ومستثيرا الأسئلة، و يأمر المثقف بمنازعة شروط عيشه و هو يرتحل من مكان إلى آخر، مكتفيا بالحدود. تجربة وجودية و معرفية وأخلاقية في آن، قوامها القلق و رفض النهائي و التأقلم مع الوعي الشكوك، غايتها توليد الحقيقة و نشر الحقيقة المتوالدة". (ص 43 الكرمل، العدد 78 شتاء 2004)

نبتغي من وراء هذا القول التأكيد على أن عرض "التجربة الشخصية" للناقد الإنساني من خلال فصول كتابه هو جزء من استراتيجية الكتابة في هذا المؤلف. و لا أدل على ذلك من أن إدوارد سعيد يعتبر أن من صميم القراءة الإنسانية البدء "بالفرد المخصوص" (ص 103) و أن "الوسيلة الأكثر مباشرة و عيانية للبدء في تناول المجال الإنساني هي من طريق التجربة الشخصية". (ص24)

يتحدث سعيد عن المدرسة الإنسية الأمريكية، التي تربطه بها وشائج قربى متعددة، هي بالتحديد مسوغات اختياره المنهجي لموضوعه المعلن. يقول في هذا الصدد: "لقد عشت في الولايات المتحدة الأمريكية خلال القسط الأوفر من حياتي البالغة، و كنت خلال العقود الأربعة الأخيرة، مدرسا و ناقدا و باحثا ملتزما بالفكر الإنساني. ذلك هو العالم الذي أعرفه أكثر من سواه". (ص17).

في هذا المقطع يعلن الناقد عن علاقته بالحقل الأكاديمي الأمريكي كدائرة انتماء أساسية كرس فيها و لها معظم فترات حياته. و هي علاقة ابتدأها شابا فلسطينيا مهاجرا من المشرق العربي في مرحلة البحث عن الذات. فكان أن وجد في دراسة الأدب و النقد و مادة الانسانيات ما يغذي شغف البدايات* التي ستظل ذخيرة ملازمة له طوال حياته. وقد مكنته هذه التربية الإنسانية، رغم تحفظه على بعض مظاهرها السلبية، من اكتساب مهارات متعددة و ارتياد آفاق معرفية شاسعة لم يجد سعيد بدا إزاءها، بنزاهته العلمية والأدبية المعهودة، من التعبير عن عرفانه بالجميل لما مثلته بالنسبة إليه من دور حيوي في تكوينه اللاحق(ص59).

و بعد مرحلة التعلم، يمر ادوارد سعيد إلى ممارسة التدريس لمادتي الأدب والإنسانيات في جامعة كولومبيا منذ العام 1963، و هي الجامعة التي وفرت له "مكانا مميزا" أشرف من خلاله على الحركة الإنسية الأمريكية و هو ما أتاج له الاشتغال إلى جانب زمرة من الأكاديميين الإنسانيين المرموقين الذين لم يكونوا، حسب رأيه، " فقط مفكرين إنسانيين بكل ما للكلمة من معاني، و إنما كانوا مبرزين أيضا بما هم نماذج راقية للفكر الإنسي في أكمل تجلياته". ( ص20-21). و هذه الميزة لم تكتسبها جامعة كولومبيا جزافا، و إنما هي خصيصة لها مرجعيتها التاريخية حيث عرفت فيما قبل شخصيات متنوعة من أمثال جون ديوي و راندولف بورن و جويل سبرنغارن الذين "كان لأعمالهم في الفلسفة و الفكر السياسي و الأدب التأثير الكبير على التزام كولومبيا بفضائل الإنسية اللبرالية، و الإنسية الراديكالية أحيانا، بما هما من مكونات الروح الديمقراطية و السعي المستمر نحو الحرية". (ص 21).

فانطلاقا من خلفية هذا الوسط الأكاديمي الغني تتبين الملامح العامة لشخصية ادوارد سعيد و التي ستشكل السمات الغالبة في ممارسته النقدية. فهو المفكر الرصين والمحاور العنيد و المجتهد الذي لا يركن إلى الترسيمات الجاهزة و لا يستكين للقناعات الراسخة والمعادلات السهلة. و هو ما سيدفعه إلى ممارسة موقفه الإنساني بشكل جريء، إن لم نقل جذري، حيث سيعمل على نقد النزعة الإنسية من الداخل بغرض توسيع آفاقها و تخليصها من آفة التجاوزات التي لحقت بها من جراء أخطاء بعض ممارسيها الأدعياء.

على هذا الأساس، بادر ادوارد سعيد، كناقد إنساني، بمعية مفكرين و باحثين آخرين، إلى العمل على تسديد الممارسة الإنسية من أجل تحريرها من نزوعاتها الذكورية و العرقية و المركزية، و من ثمة فتحها على مجالات أرحب و أكثر انسجاما مع روحها الكونية. و لم تكن الغاية من إعمال النقد رفض الإنسية جملة و تفصيلا، وإنما تقويض تجلياتها المنحرفة التي تضر بالفكرة في حد ذاتها. في هذا الصدد يقول سعيد: "يجدر الإصرار في هذه القضية و في سواها على أن التهجم على تجاوزات شيء ما، لا يعادل التخلص من ذلك الشيء أو تدميره كليا. من هنا كنت أرى أن تجاوزات الفكرة الإنسية قد أساءت إلى سمعة ممارسيها دون أن تنال من سمعة الإنسية ذاتها". (ص29).

يتضمن هذا القول المنهجي اعترافا بجدوى النزعة الإنسية الراهنة مع التأكيد على ضرورة الدخول بها طورا جديدا تراعي فيه المتغيرات المستجدة في الواقع المحلي والعالمي، و هو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالتعلم من التجاوزات المرتكبة و التحلل من رواسب التجارب المركزية الأوروبية و الإمبراطورية و نقدها بنحو يؤدي إلى "صياغة نمط أخر من الإنسية يكون كوزموبوليتيا و عميق التجذر في اللغة و الأدب غير الأوروبيين بطرائق تستوعب دروب الماضي الكبيرة". (ص27).

هكذا، لم يقتصر أداء سعيد على الممارسة الأكاديمية في شقها التخصصي المحايد الذي رسخ، في تقديره، "فهما سياسيا جامدا إلى أبعد حد للتاريخ الأدبي"، و إنما تجاوز ذلك إلى محاولة تثويرها من الداخل و الارتقاء بفكرها الإنساني إلى فضاء أرحب. و ذلك ما سيتحقق نسبيا، حيث ستعرف الجامعة تحولا ملحوظا سواء في تركيبة طلبتها أو نوعية برامجها التي أصبحت أكثر استجابة لحجم التغيرات الديمغرافية والإثنية و الجنسانية الطارئة على المجتمع الأمريكي.

و إلى جانب امتعاضه من إيديولوجيا التخصص، سدد سعيد سهام النقد إلى مادة التدريس التي تعتمد على نصوص مترجمة بطريقة غامضة و مبتسرة، كما دعا إلى إجراء فحص جذري للمنهج اللاتاريخي الذي تدرس به المواد المقررة الذي ينحصر في تمجيد أمهات الأعمال الأدبية و الفلسفية في الثقافات الغربية، و يقصي من مجال اهتمامه كل الثقافات الأخرى التي تشكل إنسانيات مغايرة تستحق أن تؤخذ بالاعتبار.

و من الإسهامات الرائدة التي تحسب له في الحقل الأكاديمي، كونه من أوائل الباحثين الذين تناولوا النظرية الفرنسية و ناقشوها في الجامعات الأمريكية. فكان من نتائجها تأليفه لمجموعة من الكتب التي مثلت فتحا جديدا في الدراسات الأدبية و النقدية والفكرية، ككتاب "البدايات: القصد و المنهج"* الذي مزج فيه بطريقة مبتكرة ما بين الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجية) و التحليل البنيوي، ثم كتاب "الاستشراق"* الذي أفاد فيه بشكل خلاق من منجزات الفيلسوف ميشيل فوكو و نظريته في تحليل الخطاب وآليات عمله، رغم ممانعته له و تحفظه من " النظرة الكلية المناهضة للنزعة الإنسانية التي تغوص عميقا في عمل ميشيل فوكو". (ادوارد سعيد الناقد الإنساني، فخري صالح، الكرمل العدد 85 خريف 2005، ص 213).

و إلى جانب صورة الأكاديمي الرصين التي عرف بها إدوارد سعيد طوال مساره الفكري الحافل، استطاع الناقد الفلسطيني أن يرسخ لدى الضمير العام صورة موازية لا تقل توهجا ألا و هي صورة المثقف الملتزم بقيم العدالة و التحرر و قضايا حقوق الإنسان و الجماعات المهمشة و ذلك ضدا على نموذج المثقف المحترف اللاسياسي.

لقد استهجن سعيد إيديولوجية الاحتراف و التخصص التي تشكل، في تقديره، معيار الإنتاج الفكري في الولايات المتحدة، حيث الفصل بين المجالين الأكاديمي والعمومي أكبر منه في أي مكان آخر. و دعا إلى مثقف جمعي يقرن بين الفضاء العام والمجال الخاص، كما يقرن بين المعرفة و مساءلة السلطة، و ذلك وعيا منه بالنقلة النوعية في المنظور التي نجمت عن الثورة المعرفية الحديثة و وسائط الاتصال الالكترونية التي قوضت الحدود بين الذاتي و المجتمعي في شكل " حركة سير جديدة صاخبة تجري بين الحيز الخاص و الحيز العام، يتداخل الواحد منهما في الآخر ويعدل في تكوينه، حركة قلبت الأمور رأسا على عقب كليا تقريبا". (ص26).

و بناء على هذه القناعات، وجد ادوارد سعيد في حقوق الإنسان الفلسطيني المضطهد قضيته الأولى التي انخرط في خطها التحرري و دأب على مدها بكل ما أوتي من جهد فكري و زخم نضالي إنساني رفيع المستوى جعلته يحمل بجدارة لقب الرمز الحي للشتات الفلسطيني. و هو خيار واع و جريء عرض حياته، في أكثر من مناسبة، للخطر و سمعته للتجريح من مختلف الدوائر المعارضة لفكره و نشاطه السياسي على حد سواء.

تلك هي بعض عناصر التجربة الشخصية التي بثها إدوارد سعيد في مؤلفه الأخير، عملنا على استخراجها من ثنايا مختلف فصوله و إبرازها اعتبارا للأهمية التي تكتسيها في رسم معالم سيرة ذاتية كاشفة تعكس الروافد الفكرية للمثقف كما تبين دوائر الانتماء التي مر منها و انخرط فيها مما جعل منه شخصية متعددة الأبعاد تكشف عن روح مثقف إنساني، بل و مفرط في إنسانيته.

سؤال أمريكا:

من خلال هذا الرصد لأبعاد الحضور الأكاديمي و الاجتماعي لادوارد سعيد، نمر للنظر إلى تجربته كمثقف إنساني أمريكي. أو بعبارة أخرى، مقاربة تجربته من خلال علاقته مع أمريكا كدائرة انتماء طالما أعلن انتسابه إليها في مواقع مختلفة من منجزه الفكري.

و الانتماء الذي نشير إليه ليس باعتباره حاملا لجنسية الوطن الأمريكي فقط، وإنما هو التزام فكري واضح و مميز و على درجة عالية من الوعي بموضوعه. فأمريكا هي البلد الذي احتضنه طالبا فمدرسا و ناشطا سياسيا فلسطينيا. و الجامعة الأمريكية التي قضى في رحابها العقود الأربعة الأخيرة من حياته، مدرسا و ناقدا وباحثا ملتزما بالفكر الإنساني، هي التي مكنته من تبوء مكانته العالمية و أمدته بزاوية نظر مميزة لمقاربة موضوعاته بكل حرية و جسارة رغم ما اعتور ذلك من فترات توتر وتضييق وعداء من طرف خصومه السياسيين على الأخص. و بنزاهة العالم الموضوعي، لم يتردد سعيد في أن يجاهر بعرفانه لعطاءات المؤسسة الأكاديمية قائلا: "إن الجامعة الأمريكية لا تزال الحيز العمومي الأوحد المتوافر لإطلاق الممارسات الفكرية البديلة حقا. فلا مثيل لهذه المؤسسة في أي مكان آخر في عالمنا المعاصر. و فيما يخصني، فأنا فخور لانتمائي إليها خلال القسط الأوفر و الأطول من حياتي". (ص93)

فبنفس القدر الذي يتلقى فيه سعيد بحفاوة العناصر الايجابية للحداثة الأمريكية، بقدر ما يتصدى بروح مقاومة لكل أعراض و رواسب سياسات الهوية العدوانية القائمة على "النخبوية الثقافية" و "الطهرانية الدينية" و "المركزية العرقية". من هنا تبدو أن النزعة الإنسانية التي ينتصر إليها ادوارد سعيد ليست خطابا صوفيا إشراقيا، برطانة رومانسية، و إنما هي موقف دنيوي جريء، "تقنية شغب" لا تقدم أجوبة جاهزة مسكنة لقضايا ملتهبة، بل هي أداة مساءلة متواصلة و مراجعة نقدية ملازمة. يقول إدوارد سعيد في هذا الصدد: "لو كنت مجبرا على أن أختار لنفسي دورا، بما أنا مثقف إنساني، بين أن أدلي ب"شهادة توكيد" لصالح بلدي بعصبية وطنية...أو أن أضع بلدي موضع تساؤل على نحو ناف لأية عصبية وطنية، لاخترت دور المسائل بلا أدنى تردد". (ص100)

يتناول الناقد بالتحليل أدبيات و مدارس و خطابات الإنسية الأمريكية، دون أن ينفي احتمال أن تنطبق خلاصات قراءته، في هذه الحالة المخصوصة بالذات، على تجارب إنسانية لبلدان أخرى. فقراءة النص الإنساني الأمريكي، في تقديره، تخضع لنفس منهج القراءة الطباقية التي تعتمد ثنائية الاستقبال/المقاومة كإوالية نقدية لمقاربة النصوص و تحليل الخطاب.

الاستقبال، في رأي سعيد، هو " إخضاع الذات عن معرفة، لنصوص و معالجة تلك النصوص معالجة مؤقتة أول الأمر بما هي أشياء متمايزة (ما دمنا نلقاها هكذا أصلا) و من ثمة التحرك، بفضل توسيع و توضيح الأطر التي توجد فيها تلك النصوص و التي غالبا ما تكون غامضة أو محتجبة، وصولا إلى أوضاعها التاريخية و إلى الطريقة التي بها تتشابك بعض بنى المواقف و المشاعر و اللغات مع بعض التيارات وبعض الصياغات التاريخية و الاجتماعية لسياقها".(ص83)

بعبارة أخرى، يمثل النص ملتقى علامات معقدة تتصادى في نسيج شبكته عوامل خارجية و داخلية تلعب مجتمعة دورا حاسما في تكوين المعنى فيه. و تكون مهمة القارئ الإنساني، على هذا الأساس، هي الانفتاح على النص و من ثمة استدراجه إلى حوار تفاعلي مع مختلف مكونات مجاله التداولي، الاجتماعية و التاريخية و السياسية، التي تؤثر فيه.

و في حالتنا هاته، فإن أمريكا هي ما يشكل الإطار و السياق العام الذي يندرج فيه البحث عن طبيعة و رهانات الخطاب الإنساني الأمريكي. فأي صورة يقدمها لأمريكا؟، و ما هي التحديات التي تمثلها أمريكا أمام المفكر الإنساني؟

منذ السطور الأولى يرسم إدوارد سعيد حدود مجال اشتغاله الذي يتمثل في "المدرسة الإنسية الأمريكية" دون أن ينفي بأن الخلاصات التي يستنتجها من قراءته للحالة الأمريكية كذلك على سائر البلدان ما يمنحها قدرة إجرائية نظرية. فأمريكا، في نظره، ليست مجرد جغرافيا، و إنما هي بوتقة انصهار لتجارب إنسانية متشعبة تستحق عناية قصوى و مقاربة مستجدة لما تطرحه على المفكر الإنساني من "تحديات ومطالب خاصة مختلفة عن تلك التي تطرحها أية أمة أخرى".(ص17).

فخصوصية التجربة الأمريكية تفترض فعالية إنسانية مغايرة لما هو متعارف عليه في مناطق أخرى من العالم، مما يجنب الممارسة النقدية آفة التجريد و يجعلها بمثابة ممارسة زمنية مرتبطة بالعامل التاريخي و الحيز الجغرافي بما هما سياقان متصلان محددان للمجال التداولي للإنسان و لرؤيته للعالم الملموس. لذلك يصر سعيد على استجلاء خصوصية المهمة المنوطة بالناقد الإنساني الأمريكي، و هي خصوصية يمليها عليه انتماؤه لأكبر قوة في عالم اليوم: " فأن تكون إنسانيا هنا الآن مختلف عما هو عليه في البرازيل و الهند أو جنوب إفريقيا. بل انه لا يشابه أن تكون إنسانيا في بلد أوروبي رئيسي". (ص102)

و كأننا بالكاتب ها هنا يومئ إلى ضرورة بلورة إشكالية جديدة من رحم الموضوع الأمريكي تكون متحررة من رواسب الإشكاليات التي صاغتها تجارب تاريخية إنسانية سابقة عليها كالتجربة الأوروبية التي نشأت في فرنسا و بريطانيا وألمانيا وايطاليا، و التجربة الإسلامية التي " بدأت- حسب رأيه- في المدارس و الكليات و الجامعات الإسلامية في صقلية و تونس و بغداد و اشبيلية قبل ذلك بمئتي سنة على الأقل". (ص76)

و إذا كان هذا القول يدل على اختيار منهجي صارم لموضوع الدراسة يخرج به عن نطاق العمل التأريخي الصرف للظاهرة الإنسانية في عموميتها، فانه لا يذهب إلى حد عزل التجربة الأمريكية عن سياقاتها التاريخية و السياسية العامة. لذلك يؤكد الناقد اهتمامه بالإنسية الأوروبية باعتبارها سلفا مباشرا، أو علة قريبة، لوريثتها الأمريكية.

و لاستكناه طبيعة هذه العلاقة، لا يجد سعيد ضيرا في استثمار الجهد النقدي لعالم الاجتماع المعروف، إيمانويل فالرستين* و الانضمام إلى نقده الجذري المتواصل للنزعة المركزية الأوروبية، معتبرا أن العلوم الاجتماعية و بالتالي الانسانيات الحديثة ولدت "ردا على مشكلات أوروبية في لحظة تاريخية كانت فيها أوروبا تسيطر على النظام العالمي". (ص74). بل إن سعيد يجعل من هذا الاقتران الصارخ بين المدرستين الإنسيتين الأوروبية و الأمريكية ذريعة ملائمة موجبة للمساءلة و إعادة النظر في المكانة التي تحتلها النزعة الإنسانية الأمريكية عشية الألفية الجديدة.

منذ الفقرة الافتتاحية للكتاب، يقدم ادوارد سعيد توصيفا دقيقا لأمريكا باعتبارها "القوة العظمى الوحيدة المتبقية في العالم" (ص17). و هو تعريف بالغ الدلالة يشير إلى مرحلة التحول الحاسمة التي شكلتها سنوات الحرب الباردة التي خلفت في أمريكا "بنية فكرية مانوية"* من جهة، كما كرست لديها شعورا متفاقما بانفرادها بالقوة و التفوق على صعيد عالمي، من جهة أخرى. و هذا ناتج، في تقديره عن أزمة عميقة و متواصلة عرفها الفكر الإنساني الأمريكي الذي خضع إلى حد كبير لهيمنة انشغالات و أهداف الحرب الباردة حيث جعلت دراسة العلوم الأنثروبولوجية و التاريخ و السياسة و علم اللغات في خدمة ترسيخ مفهوم معين للشعور القومي الذي دأبت مؤسسات الإدارة الأمريكية على حقنه و الترويج له لتحقيق توافق عام حول المعرفة (ص58-59). و هو الأمر الذي ظهر جليا في مجال الإنسانيات الأكاديمية، على سبيل المثال، و خصوصا في فكرة "التحليل الجمالي غير السياسي" التي كان المقصود منها أن تكون " سدا في وجه التسييس السافر للفن، الذي قيل أنه مظهر من مظاهر الواقعية الاشتراكية". (ص59)

بمعنى آخر، بات مجال المعرفة و القيم حلبة للصراع السياسي، و بدلا من أن تكون الإنسانيات وسيلة لإشاعة روح المساءلة و النقد الجريء، صارت آلية من آليات صناعة "التوافق" ، و من ثمة ضيعت استقلاليتها و مسافتها النقدية فأصبحت في موقع التبعية لمصالح القوى النافذة في الإدارة الأمريكية مما جعلها عديمة الجدوى و التأثير و الفعالية في المجتمع.

و من السمات البارزة التي عرفها المجتمع الأمريكي، إبان نفس المرحلة، و التي ساهمت، بلا أدنى شك، في صياغة الوعي العام و تحويل اهتمامه عن الشواغل الإنسانية الكبرى، هناك هيمنة "منطق السوق" الذي دفع باتجاه تهميش الإنسانيات و تفريغ البرامج التربوية و الأكاديمية من محتوياتها الإنسانية و إلحاق الجامعة بمصالح الشركات التجارية التي تعنى بقضايا "الدفاع و الطب و التقنيات البيولوجية و المصالح الأكثر اهتماما بتمويل مشاريع في العلوم الطبيعية مما هي مهتمة بتمويل مشاريع في الإنسانيات" (31).

و إلى جانب منطق السوق و هيمنة السياسة، هناك عنصر ثالث مؤثر لا يقل عنهما خطورة و هو الذي يتمثل في آلة الإعلام التي تسيطر بشكل شمولي على أنماط التفكير في أمريكا و تسعى إلى تسييد منطق الإخضاع و الامتثال بدل تحفيز الفكر وإذكاء الوعي، و ذلك عبر تشغيل إواليات إقناع و دعاية تفرض سياجا دغمائيا يحجب رؤية الناس للعالم و يشوه تمثيلهم لمجريات الأحداث و الوقائع و التواريخ.

و لا يتردد سعيد في توجيه أصابع الاتهام مباشرة إلى مؤسسات معينة مثل السي.إن.إن و نيويورك تايمز التي توظف خطابا إعلاميا يعتمد على أشكال عرض معلومات بطريقة مبتسرة و خاطفة، على شكل مانشيتات أو لسعات صوتية توهم المتلقي بنقل الواقع و تغطية الموضوع* بينما هي في حقيقة الأمر تحجبه و تغيب أهم جوانبه و أبعاده. و هنا يلفت إدوارد سعيد الانتباه إلى خطورة ما يصطلح عليه ب"الوهم التجريبي" الذي يشكل معيار التغطية الإعلامية المعاصرة، و يدعو إلى "مقاومة إنسانية" تكسر السياج الدغمائي الإعلامي و "تنقب في صنوف الصمت المختلفة، و في عوالم الذاكرة" التي تسعى الآلة الدعائية إلى تغييبها و نفيها. لذا يؤكد الناقد على أنه يجب على التأمل الإنساني أن " يقطع بالمعنى الحرفي للكلمة، مع قوالب الأنباء الموجزة و المانشيتات و اللسعات الصوتية، و أن يحث على اعتماد-بدلا منها- مسارات تأمل وبحث و محاججة تساؤلية أطول مهلا تمعن النظر فعلا في القضايا المطروحة". (96)

إن آليات الهيمنة المذكورة التي تخترق الوعي الأمريكي تم توظيفها بعناية ممنهجة لصياغة شعور قومي يؤمن بهوية استثنائية/استعلائية تمايز بين الأنا و الآخر، فتمجد الذات و تجعل من الغير مصدر كل خطر و موطن كل شر. و هذا المفهوم الطهراني المنغلق للهوية الوطنية القائم على نبذ الآخر و إقصائه و حرمانه من التمثيل الملائم هو الذي قدم السند اللامشروط و التبرير الأخلاقي لحرب أمريكا المفتوحة على "محور الشر" المزعوم و ممارسة سياسة استباقية تدخلية منفلتة وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر الدرامية.

في تقدير ادوارد سعيد، إن هذا الانكفاء الخطير و النبذ العدواني الذي يسم الشعور القومي الأمريكي هو اليوم أكثر مدعاة لإجراء مراجعة شاملة لمفهوم الهوية الوطنية على ضوء المتغيرات الحاصلة على صعيد كوني و ذلك في أفق بلورة و نشر هوية أمريكية بديلة تعترف بالاختلاف و المغايرة كسمة من سمات الواقع الراهن: " إن أمريكا مجتمع من المهاجرين يتكون الآن من عدد أقل من الأوروبيين الشماليين و عدد أكثر من الأمريكيين اللاتينيين و الأفريقيين و الآسيويين، فلماذا لا ينعكس هذا الواقع في قيم"نا" وفي تراث "نا". التقليديين؟" (ص39)

بهذا النوع من النقد الجريء يشخص ادوارد سعيد مكمن الخلل و العطب في النفسية الأمريكية، و يتوسل بالممارسة الإنسية كطريقة علاجية ترمي إلى إخراج أمريكا من حالة الانكفاء و الإقصاء إلى طور ممارسة المواطنة التشاركية: " فما دامت أمريكا تمثل لجميع الوافدين إليها الجديد، وعدا و أملا، يوجد، على ما يبدو، سبب وجيه جدا لربط الإنسية الأمريكية ربطا محكما بطاقات و نخعات و مفاجآت و تعرجات ما هو دائم الوجود و بالجديد و المختلف الذي يصلنا على تعدد أشكاله". (ص44)

فالانتساب إلى أمريكا مشروط بممارسة نقدية تخول له توظيف جدليات الانتماء والانفصال، و الاستقبال و المقاومة؛ بما هي تقنيات تمكنه من الحفاظ على تلك المسافة الجمالية اللازمة للمثقف بين شعوره الوطني و رهانه النقدي على التحرر و التنوير. إذ من دون هذه المراوحة بين الانتماء و اللاانتماء لا يستطيع المثقف الإنساني ممارسة نقد الأمر الواقع و استشراف مستقبل أفضل. و في هذا الصدد، يقول إدوارد سعيد: " أي شيء أنسب للمثقف الإنساني في الولايات المتحدة من أن يرتضي مسؤولية المحافظة على التوتر بين الجمالي و الوطني بدلا من أن يحله، فيستخدم الأول لتحدي الثاني ولإعادة النظر فيه و مقاومته بواسطة أنماط الاستقبال و الإدراك المميزة للمنهج الإنساني". (ص100).

نستخلص مما سبق أن هذا الاختيار الواعي، لدى إدوارد سعيد، للانتماء إلى الحاضرة الأمريكية ناجم عن تحيز صريح لفكرة أمريكا بما هي فضاء حاضن للتعدد والاختلاف الذي يغذي هوية مستقبلية، و ليس كيانا منغلقا و منكفئا على ذاته في بوتقة هوية منجزة سلفا مؤسسة على أيديولوجبا "رواية قومية مسكوبة بعناية". فأمريكا لا معنى لها، في تقدير المفكر الإنساني، إلا بما توفره له من مجالات و فرص تعزز انتماءه إلى عوالم متعددة و متفاعلة.

النزعة الإنسانية الأمريكية:

بحس منهجي مرهف يستهل إدوارد سعيد كتابه النقدي بتحديد أهدافه و مجال اشتغاله و دواعي اهتمامه بموضوع الإنسية الأمريكية.

اصطلاحيا، يميز الناقد بين "الإنسانيات" و "الإنسية" على اعتبار أن الأولى هي مادة تدرس في الجامعات لتعريف الطلاب بأمهات الأعمال الأدبية و الفلسفية والتاريخية، فيما يعرف الإنسية بوصفها حركة و ممارسة نقدية توجه عمل المثقف والمدرس لمادة الإنسانيات في العالم المعاصر. بمعنى أنه لا يتحدث عن "النزعة الإنسانية" من منظور فلسفي مجرد أو تأريخي وقائعي، رغم ما تستلزمه القراءة من قدر معين من التأريخ الذي يضع الموضوع في سياقه الاجتماعي و السياسي، و إنما باعتبارها ممارسة يومية "يستخدمها مثقفون و أكاديميون يريدون معرفة ما هم فاعلون و ما الذي يلتزمون به كباحثين يرغبون أيضا في ربط تلك المبادئ بالعالم الذي يعيشون به كمواطنين". (ص23)

بهذا الإقصاء المنهجي يضعنا ادوارد سعيد أمام مفهوم عملي يختبر نجاعة الممارسة في سياق مجالها التداولي وفق منهجية صارمة و تأمل عميق في أهمية الإنسية و مستقبلها في الحياة المعاصرة. و بعبارة أخرى، فهو ينظر إلى موضوعه من زاوية فعاليته في الواقع كخطاب يومي يكتسح بشكل متواصل الحيز العمومي و يؤثر في رؤية الإنسان المعاصر في مرحلة التغيرات الجذرية المتلاحقة التي يعرفها العالم اليوم إن على صعيد الاقتصاد الكوني أو المشهد الثقافي العام. و هذا الوعي الدقيق بالتحول النوعي في الفكر و التاريخ على حد سواء، هو أحد الدواعي الرئيسية التي دفعت به إلى إجراء مراجعة تأملية لإرثه الثقافي و دوره الفعلي كناقد إنساني. يقول في هذا الصدد: "إن الوقت قد حان، بالنسبة لي على الأقل، لكي أعيد النظر بالمكانة التي تحتلها النزعة الإنسية، و إخضاعها للتمحيص و إعادة الصياغة، فيما نحن متجهون إلى الألفية الجديدة حيث ظروف عديدة جدا يطرأ عليها من التغيرات الدرامية ما يحول المشهد كله تحولا كليا". (ص22)

و من دواعي مقاربة الموضوع كذلك ما لحق باستعمالات كلمة "انساني" في الخطاب اليومي السائد من ابتذال و مرونة مخلة مما جعلها توظف في مواضع مختلفة، عسكرية و سياسية، غالبا ما تفرغ المفهوم الإنساني من دلالته الحقيقية و تزج به في سياقات و استعمالات ضيقة تبرر سياسات و أيديولوجيات متعصبة أو ضد إنسانية كتلك التي تعبر عنها أطروحة صامويل هانتنغتن*، المبتذلة و السطحية في تقدير سعيد، والتي تجعل من الثقافة الأمريكية "ثقافة إنسانية" بامتياز فيما توصم ثقافات الآخر بسمات "البربرية" و"الدونية".

وبعد وضع تمييز واضح بين الإنسية كممارسة و الإنسانيات كمادة، يمر الكاتب لمقاربة المجال الإنساني في علاقته بالنزعة الضد إنسية التي استحوذت على المشهد الفكري الأمريكي بتأثير مباشر من أطروحات النظرية الفرنسية الذي يعتبر إدوارد سعيد واحدا من أوائل النقاد الذين تناولوها و ناقشوها في الجامعات الأمريكية.

و لتناول هذه العلاقة المتوترة يعود إدوارد سعيد إلى القراءات الأولى التي تناولت مؤلفه التأسيسي "الاستشراق" منذ صدوره عام 1978، و خصوصا ذلك النقد الجريء و العميق الذي اجترحه الباحث الأنثربولوجي المرموق، جايمس كليفورد، حيث أشار إلى وجود مفارقة تتوزع أطروحة الكتاب بين انحيازه الإنساني المعلن وبين نزعة العداء للإنسية التي ينطوي عليها موضوعه المستمد من منجزات النظرية الفرنسية التي كان من بين أبرز روادها كل من ميشيل فوكو و كلود ليفي ستراوس و رولان بارث. وهو طرح يحمل الكثير من الحقيقة إذ يعترف سعيد نفسه بالدور التدميري الذي قامت به الأفكار البنيوية و ما بعد البنيوية في تقويض مرتكزات "التراث الإنساني" في أمريكا "مؤكدة غلبة الأنظمة المعادية للإنسية" كما مهدت لأطروحات المابعد حداثية النزاعة إلى رفض "كبريات سرديات التنوير و التحرير" على حد تعبير فرانسوا ليوتار* (ص25-26).

لكن كليفورد استطاع بحسه النقدي الرفيع أن يفطن إلى حقيقة أخرى تنصف مؤلف "الاستشراق" و تنأى به عن آفة الامتثالية التامة للنظرية الوافدة، و هي أن إدوارد سعيد، رغم استثماره لمناهج البنيويين الفرنسيين، التي كانت طلائعية في ذلك العهد، إلا انه لم يتورط في نزعتها العدائية للإنسية التي بشرت بموت الإنسان بما هو مؤلف وأظهرت هيمنة " أنظمة تفكير و نظر تتجاوز طاقات الذوات الفردية، و البشر الأفراد، القابعين داخل أنظمة من مثل "لا وعي" فرويد أو "رأس مال" ماركس، ما أفقدهم أية سيطرة على تلك الأنظمة"(ص26).

و ضدا على مثل هذه الأطروحة اللاإنسانية، يمتح إدوارد سعيد من رصيد تجربته السياسية و الاجتماعية ليؤكد إيمانه اللامشروط بجدوى الفعل الإنساني و قدرته على صنع التاريخ و تغييره عند الاقتضاء. يقول في هذا الصدد: " إن مقدارا لا بأس به من نشاطيتي السياسية و الاجتماعية قد طمأنني إلى أن البشر في أرجاء العالم الأربعة يمكن أن تحركهم أفكار العدالة و المساواة و هي لا تزال تحركهم فعلا...إن مثل الحرية و التربية الإنسانية لا تزال تزود البشر الأكثر حرمانا بالطاقة على مقاومة الحرب والاحتلال العسكري الظالمين" (ص26).

و كترياق مضاد لكل نظرية تقصي الفاعلية البشرية من التاريخ و تنتقص من قيمة المنجزات الفكر الإنساني، يتوسل سعيد بنظرية التاريخ و المعرفة لدى العالم الفيلولوجي الإيطالي، غيامباتيستا فيكو، مؤلف كتاب "العلم الجديد"، الذي كان بدوره يؤمن بقدرة الذهن اللامحدودة على إدراك كنه التاريخ بوصفه نتاجا بشريا/ دنيويا.

فالبشر، في نظر فيكو، كائنات تاريخية صانعة لتاريخها و قادرة على فهمه وتفسيره لأنها لا تدرك جيدا إلا ما صنعته بنفسها "تماما مثلما الله يعرف الطبيعة لأنه هو مبدعها" (ص114). هكذا يصير الإنسان عنصرا فاعلا في التاريخ مسؤول �


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى