الاثنين ٥ أيار (مايو) ٢٠١٤
من رواد عصر النهضة
بقلم محمد زكريا توفيق

إراسموس

أيهما الأصوب: الثورة أم الإصلاح؟ "مارتن لوثر" أم "إراسموس"؟ الإجابة، بالطبع، تتوقف على ثقافة القاضي وفلسفته. فليس من العدل القول أن أحدهما صواب والآخر خطأ. التاريخ يعلمنا أننا نحتاج إلى كلاهما للتقدم والازدهار.

حساسية مفرطة في جسم هزيل. حذر شديد، لا يصلح أن يكون معه بطلا ثائرا. هذا هو "إراسموس". عندما يعم الخطب ويشتد الكرب، يتنحى جانبا، حتى لا يلزم نفسه بمسؤولية. تعاليه عن الخطب هذا، هو سبب سقوطه ونجاحه في نفس الوقت.

حرية الفكر، هي كل ما يبغي. رفض أن يكون عبدا لأي فكرة أو عقيدة أو جماعة. الديموقراطية عنده، بكل جوانبها وظلالها، مزاياها وعيوبها، تصب في شئ واحد، هو الحرية الفردية. دراسة أعماله اليوم، تبين لنا بدون شك، أنه النبي الحقيقي لروح العصر الحديث. هنا تتجلى عظمته كمفكر ليبرالي.

قلم "إراسموس"، أكثر من أي شئ آخر، عجل بحركة الإصلاح والحرية الدينية. لكن ثورة "مارتن لوثر" وحدها، هي التي جعلت هذا الأمل يتحقق. كلاهما كان على حق، أليس كذلك؟ لقد وهب "إراسمس" حياته لخدمة السلام، والوحدة، والتسامح الديني.

كرهه للعنف وخوفه من الفرقة والتشرزم، جعلاه يكرس جهوده للدراسة والكتابة. لأنه كان يعتقد أن عصر الأنوار والإصلاح الديني، لابد أنه قادم لا محالة في الطريق. كان هدفه، الوحدة الدينية والوحدة السياسية. هو أول من تنبأ بالوحدة الأوروبية. كان يقول: "أود أن أكون مواطنا للعالم كله، حتى أكون صديقا لكل الناس".

حاول "إراسموس إصلاح المسيحية، بدمجها في الحضارة الإغريقية. هذا ما حاوله من قبل العلامة المسيحي "إريجانوس" الإسكندري، المتوفي عام 245م. كذلك فلاسفة المسلمين: الكندي والرازي والفارابي وابن سينا وابن رشد، وغيرهم. فقد حاولوا هم أيضا، دمج الحضارة الإغريقية في الفكر الإسلامي.

ولد "إراسموس" في هولندا عام 1466م. هذا مكان يناسبه، لدمج الحضارة الهيلينية بالفكر المسيحي. ابن غير شرعي لكاهن مسيحي يدعى "جيرار". تعليمه الأولي كان في مدرسة مشهورة ب"ديفنتر".

في عام 1484م، قبل في جامعة "رودولف أجريكولا" للدراسات الإنسانية، لأنه كان متفوقا في دراسته، وحصل على جائزة لقصيدة شعر قام بتأليفها. كان يرغب في الالتحاق بالجامعة، لكن ولي أمره أراد إلحاقه بالدير.

هناك، قام بدراسة المؤلفات اللاتينية. كان منبهرا بكتابات "لورنزو فاللا" ومعاصريه، التي ينتقدون فيها حياة الزهد والتمسك بالتعاليم الدينية الصارمة.

في ذلك الوقت، بدأ "إراسموس" الكتابة. يدعو إلى الوحدة بين الأديان والحضارات. بدأ يخطط لكتابه الرائع، "مدح الحماقة". كتاباته الأولى، رشحته لتولي منصب سكرتير أسقف "كامبراي". بعد ذلك بفترة وجيزة، تم تعينه كاهنا في "أوترخت". لكنه مل هذه الوظيفة. في عام 1495م، التحق بجامعة باريس للدراسة.

لكن الجو الصحي هناك في كلية "مونتاجيو"، بالإضافة إلى جفاف المواد الدراسية، جعلاه يعود ثانية إلى هولندا للتعافي. بعد ذلك ، عاد إلى باريس مرة ثانية لكي يواصل الدراسة.

كون الكثير من الأصدقاء، منهم العالمان: “فوستوس أندريلينوس" و "روبرت جاجوين". باريس في ذلك الوقت، كانت مدينة الفسق والفجور. لكن، ليس هناك ما يدل على أن "إراسموس" كان قد انغمس بطريقة أو بأخرى في هذا الفجور.

كانت تأتيه مساعدة مالية من أسقف "كامبراي"، وكان له تلاميذ. منهم "وليام بلونت"، لورد مونتجوي. اللورد، فيما بعد، أصبح مدرسا للملك "هنري الثامن".

في ذلك الوقت، كان الكاتب الاجتماعي يستشهد بجمل أو مقولات من: "حوريس"، "فيرجل"، "تاسيتوس"، "سينيكا"، أو "ليفي". أما رجل الدين، فكان يستشهد بآيات من الإنجيل. كان "إراسموس" من أوائل الذين تنبهوا لكنوز الحكمة المدفونة في الكتابات القديمة للإغريق والرومان.

بعد زيارة قصيرة لانجلترا، عاد إلى باريس. أثناء مرضه بالحمى، بدأ في تجميع أقوال حكماء الإغريق والرومان في كتاب "أيدجيا"، ستة أجزاء. يحتوي على 4151 مثل وقول مأثور للقدماء. تمت إعادة طبع الكتاب في حياته 60 مرة، وفي القرن التالي أكثر من 75 مرة. ولا يزال يطبع حتى اليوم.

به أقوال ل"ميناندر"، "تيرتوليان"، "أرسطو"، "سينيكا"، وآخرين. ترجم من اللغة اللاتينية إلى الإنجليزية والألمانية والإيطالية والهولندية. وأصبح مرجعا هاما، أثر في فكر فلاسفة وأدباء آخرين مثل "مونتين" و"باكون" و"شيكسبير".

حينئذ، اكتشف "إراسموس" الكنوز الإغريقية العظيمة. فعكف على دراسة اللغة اليونانية، وأصبح من كبار علمائها. قال فيما بعد: "ما لدينا مكتوبا باللاتينية، يمثل جدولا صغيرا وبقعا عكرة من الماء. بينما ما كتب باليونانية، هو الينابيع العذبة الصافية، والأنهار التي تتدفق بالذهب الخالص.

لكي نفهم الكتاب المقدس وكتابات رجال الدين الأوائل بصدق، لابد من دراسة اللغة اليونانية. كتابات الفلاسفة الإغريق الأوائل والأدباء وكتاب المسرح، بدأت تظهر في كتب بعد اختراع الطباعة.

كان "إراسموس" يقرأ هذه الأعمال ويستوعب محتوياتها بشغف. مثل أعمال "هومير"، "هيسيود"، "أرسطو"، "أرسطوفان"، "هيرودوت"، "بلوتارخ"، "أفلاطون"، "بندار"، "بوسانيوس"، وآخرين.

دراسته الدينية بدأت في نفس الوقت، لكنه لم يتعمق فيها. لم يجد ما يطلبه في قصص العهد القديم. كان يعتقد أنها مليئة بالشك، كتبت لعصر معين. تحول أنظار الناس عن المسيح وتعاليمة، التي يجدها كافية.

هي ملاحظة تنطبق على ما يحدث الآن بالنسبة للأديان السماوية الثلاث، حيث يهتم رجال الدين بأساطير العهد القديم، أكثر من اهتمامهم بالقيم الخلقية والإنسانية.

ترك "إراسموس" باريس عام 1501م، وعاد إلى هولندا لكي يمكث بها ثلاث سنوات. عرضت عليه وظيفة للتدريس بجامعة "لوفين"، لكنه رفضها. بينما كان في هولندا، كرس كل وقته لتأليف كتاب بعنوان "دليل الفارس المسيحي". وهو أول تعريف، من وجهة نظره، للحياة الدينية الحقة.

عقيدة "إراسموس" المسيحية، كانت مثل عقيدة "إريجانوس". وهي تتكون من مزج تعاليم المسيح، كما جاءت في الموعظة على الجبل، بالثقافة الإغريقية. القرن السادس عشر، لا يخرج عن ذلك.

نجد تأثير "إراسموس" في النزعات الصوفية والأفلاطونية التي ظهرت في ألمانيا والبندقية في ذلك الوقت. الأفلاطونيون المسيحيون، مثل "ميراندولا"، يضعون العقل فوق الإيمان، ويقولون بأن التدين عبارة عن حياة وسلوك، لا مجموعة تعاليم وطقوس.

عندما عبر "إراسموس" القنال الإنجليزي، يبدو أن هواء البحر كان قد شفاه من خبل العصور الوسطى. لقد ولد من جديد. أول زيارة، كانت دعوة من تلميذه، لورد "مونتجوي". الذي قدمه لإثنين من مفكري عصر النهضة ورجال القلم العظام: "توماس مور" مؤلف كتاب "يوتوبيا"، و"جون كوليت".

مع زيارات "إراسموس" إلى إنجلترا العديدة، زاد عدد أصدقائه وطلبته في الدوائر التعليمية والدينية. في عام 1511م، تم تعيينه مدرسا للغة اليونانية وآدابها في جامعة كامبردج. بعد ذلك، قبل وظيفة أستاذ كرسي بالجامعة. منحه أسقف كانتربيري راتبا سنويا مدى الحياة ومزايا أخرى عديدة.

لم يكن "إراسموس" يؤمن بالطقوس الوثنية التي كانت تجري في الكنائس قبل حركة الإصلاح الديني. مثل تقبيل عظام الموتى من القديسين والشهداء. عندما زار إيطاليا، كان الإيمان بالخرافات أشد وطأة. مما جعله يفكر في موضوع كتابه "مدح الحماقة".

السنة التي قضاها في إيطاليا، كانت مزدحمة بالدراسة والسفر ومصاحبة العلماء. المكتبات والجامعات في إيطاليا، كانت كافيه لكي تجعله يستوطن في روما أو فلورنسا باقي عمره، لولا أنه كان يتوقع منصبا من ملك إنجلترا الجديد، "هنري الثامن".

بعد عودته إلى إنجلترا، بينما كان يستريح في منزل صديقه، "توماس مور"، نشر كتابه "مدح الحماقة"، وهو أهم أعماله. يتهكم فيه على أحوال الناس في ذلك الوقت، يشبه كتابات "فولتير" الساخرة التي جاءت فيما بعد.

شمل نقد وسخرية إراسموس"، كل فئات المجتمع. الكنيسة وكتاب وفلاسفة ومحامون وعلماء وأعيان وجنود ورجال دين. بين في الكتاب، فساد الكنيسة والكهان وغباء رجال الدين. كان يوجه سهامه اللاذعة في قالب فكاهي تهكمي. ثورة "مارتن لوثر" ضد الكنيسة الكاثوليكية تعتبر حركة مسالمة، إذا ما قورنت بسهام "إراسموس" القاتلة.

هذا مثال لما جاء بكتاب "مدح الحماقة" وهو هنا ينتقد علماء الدين:

"سوف يخبرونك كيف خلق العالم. سوف يطلعونك على الشرخ الذي تسربت منه الخطيئة، لكي تفسد البشرية. سوف يشرحون لك كيف خلق المسيح بدون أب... وأن قتل آلاف الناس، أقل جرما من إصلاح حذاء سائل يوم السبت. فناء العالم أفضل من كذبة صغيرة تتفوه بها امرأة"

"يقولون أنه من دلالات القداسة، أن تكون أميا لا تعرف القراءة والكتابة. ثم ينهقون وهم يرتلون المزامير في الكنائس مثل الحمير. لا يعرفون كلمة واحدة مما يتلون. لكنهم يجودون الصوت حتى يطرب أسماع القديسين.

الرهبان المتسولون يهيمون في الشوارع يستجدون الصدقات. يدعون أنهم يتشبهون بحواري المسيح. هم جهلة عجزة متشردون، في ثياب قذرة. يشغلون أنفسهم بالأمور التافهة مثل: كم عقدة في رباط الحذاء؟ ولون الثياب السفلى، وعدد القطع في غطاء الرأس، وعدد ساعات النوم. بالنسبة للأمور الأخري الخاصة بشخصية الإنسان، يتشاجرون ويسبون ويلعنون كل منهم الآخر."

"ماذا أقول عن صكوك الغفران؟ هي طريقة سهلة لشراء المغفرة. أي قاطع طريق، أو قاتل محترف، أو قاضي مرتشي، يمكنه الاستغناء عن جزء صغير من الأموال المنهوبة، لكي يشتري بها الغفران، ويصبح كأنه لم يرتكب جرما قط."

"باباوات روما، الذين يدعون أنهم نواب المسيح على الأرض، لو أنهم يحيوا حياته المثالية. حياة الفاقه والعري والجوع واحتقار العالم. لو أنهم علموا معنى كلمة بابا، لما تكالبوا على شراء الأصوات في الخفاء. الذين ينجحون بالرشوة، لا يستطيعون الحفاظ على الكرسي، حتى لو استخدموا المسدس والسم والعنف."

كيف تسنى لمن كتب مثل هذه الفقرات النجاة من محاكم التفتيش؟ أحد الأسباب هو أن موقف "إراسموس" كان غامضا. هل عباراته التهكمية هي التي أغضبت الحمقى، أم نقده اللاذع؟ إذا اتهم بالهرطقة، فيمكنه القول ببساطة، أنه لم يقل هذا. الذي قالته "مدام حماقة". والناس لا تعتب على الحمقى.

هذا يذكرني بحكاية لجحا. حينما ضبط في مطحن الغلال وهو يأخذ دقيقا مطحونا من جوال جاره ويضعه في جواله، قال مبررا: "لا تؤاخذونني، لأني أحمق".

لم تكن هذه أول أو آخر مرة يستخدم فيها الأسلوب التهكمي في النقد. فلدينا أحمد رجب، وكان لدينا المرحومان محمود السعدني وجلال عامر.

في الماضي كان "ابراهيم بن عزرا"، المولود في الأندلس، في القرن الثاني عشر، وبعده "فولتير"، في القرن الثامن عشر. يستخدمان نفس الأسلوب التهكمي في النقد.

سبب آخر لعدم القبض عليه، هو أن "إراسموس" هو "إراسموس". عندما يقرأ البابا كتابه، سوف يقول: "هذا هو صديقنا إراسموس مرة أخرى". كان "إراسموس" يتمتع بشهرة كبيرة، ليس من السهل توبيخه معها. لذلك يجب كسب وده، لا عداوته.

في هذا الكتاب الصغير والأعمال التي تلته، اقترف "إراسموس" من التجديف والكفر ما يكفي لإرسال ألف مذنب إلى المحرقة. لكن الكتاب، "مدح الحماقة"، لم يترك بدون معارضة.

رجال الدين نادوا بجمع الحطب استعدادا لحرق الكتاب، الكهنة شجبوا وأدانوا، الجامعات منعت الطلبة من قراءته.

لم يكن نقد "إراسموس" مجرد نقد سلبي، غير مصحوب بحلول إيجابية ومثالية. لم يكن يرغب في الشقاق والفرقة. كان دائم الخوف من الثورة. ما يبغيه، هو الإصلاح من الداخل. تطور المسيحية عن طريق إظهار القيم النبيلة، التي تقبع دفينة، تحت تلال الخرافات المصحوبة بالإيمان الأعمى.

عندما سمع مقولة، أنه وضع البيضة التي رقد عليها "مارتن لوثر" لكي تفقس. قال: "نعم، ولكن البيضة التي وضعتها، كانت دجاجة. ولوثر استخدمها في مباراة لصراع الديوك."

روح المسيحية، كما يقول "إراسموس"، لا تقع في الأمور الشكلية، وإنما في الإيمان الداخلي للفرد. لا في في الطقوس والتمسك الشديد بالتعاليم، وإنما في السلوك وحياة الرضا والتكامل مع النفس. أهم من حضور القداس والحج وزيارة الأضرحة، هو أن تحيا حياة تتفق مع روح المسيح وتعاليمه.

عن طريق هذا الكتاب الصغير، "مدح الحماقة"، غزى "إيراسموس" كل أوروبا. تكرار طبع الكتاب، أعطاه شهرة دولية. مثل الشهرة التي حصل عليها "فولتير" بعد ذلك ب 250 سنة. في كل مكان في أوروبا، كان الناس يتطلعون إلى الرجل، الذي يستطيع أن يقودهم للدين الصحيح، للبحث الصادق عن الحقيقة، إلى ديانة عالمية تتوحد فيها كل الأديان.

كل أوروبا كانت تنظر إليه كرمز. لكنه لم يكن رجل ثورة وفعل. إنه يستطيع أن يوضح ويبين ويشير. لكنه لا يستطيع أن يحول ويشكل ويغير. يستطيع أن يمهد الأرض، لكن الحصاد وجني الثمار كان من نصيب آخرين.

في نفس الوقت، ظهر كتاب بدون اسم للمؤلف، بعنوان "يوليوس طُرِد من الجنة". لم يكن من الصعب نسبته إلى "إيراسموس". في صورة حوار مسرحي، أصبح مشهورا لدرجة أنه قدم على مسارح باريس عام 1514م. في المسرحية، يقف "يوليوس الثاني" على باب الجنة يحاول فتح الباب بالمفتاح للدخول.

بعد أن رفض "إراسموس" عرض الملك "هنري الثامن"، ترك إنجلترا في عام 1514م. مؤلفاته جعلته يتربع على عرش الشهرة والمجد. كان يعتبر من رواد الأدب الإنساني في القارة الأوروبية. زياراته للمدن التي تقع على نهر الراين وبلجيكا، كانت عبارة عن انتصارات متوالية.

هو لا يزال راهبا، يتمتع بمعاش سنوي خاص منذ عدة سنوات. الآن، السلطة الكنسية اعتقدت أنه قد حان الوقت للتعامل مع هذا الكاهن المتمرد المهرطق. لكن "إراسموس" كان قد بلغ من الفكر والعلم، ما لا يسمح بأن يطلب منه الاعتراف بخطيئته أو المثول لتعاليم الكنيسة. لذلك، استمر سائرا في طريقه.

في "بروكسل"، "ستراسبرج"، "فرانكفرت"، "بازل"، و"أنتويرب"، استقبل "إراسموس" بحفاوة بالغة. كانت تطلق عليه ألقابا مثل: "أمير التعلم"، "دكتور عالمي"، "أبو الدراسة"، و"نور العالم".

كل من كانت له علاقة بالثقافة، كان يمجده ويمدحه. غاية المنى، أن تحصل على خطاب منه بخط يده. من يقوم بالتحدث معه، يكون أسعد مخلوق على وجه الأرض. وهو شرف لم يكن يحلم به "لوناردو دافنشي" أو "مايكل أنجلو" فيما بعد.

الأباطرة والملوك والباباوات والكردينالات، يتنافسون لمصلحته. "شارلز الخامس" عرض عليه وظيفة في بلاطه. "هنري الثامن" وعده بقصر ومعاش سنوي لو استقر في إنجلترا. "فرديناند" قدم له عرضا مماثلا لو استقر في فيينا.

عروض أخرى مشابهة أتت من: هولندا، برابانت، المجر، بولندا، والبرتغال. 5 جامعات أغرته بالأستاذية. عدد لانهائي من الهدايا والرشاوي. كان يقبل الهدايا. لكن بالنسبة للرشاوي، لم يكن من السهل شراء ضميره.

لم يكن "إراسموس" يهتم باستدرار عطف الجماهير أو إنتباهها. لم يكن يرفع شعارات، أو يصرخ صرخات الحرب. لكنه كان تجسيدا لكل ما تعنيه كلمة النهضة.

كانت الروح الجديدة التي بدأت تسود في أوروبا، تظهر في دراسة التراث الإغريقي والعبري. عندما اتهم "جون ريوخلين" بالهرطقة، هب "إراسموس" للدفاع عنه.

"ريوخلين"، أستاذ اللغة العبرية، وأول من كتب قواعدها، وقام بنشر دراستها في أوروبا، قام بإقناع الإمبراطور "ماكسميليان" لكي يسقط التهمة. لكن الرهبان الدومينيكان، قاوموا ذلك، وأقسموا على حرق "ريوخلين" حيا.

فشل الإمبراطور، تحت الضغوط الشديدة، في إلغاء التهمة، واكتفى بسجن "ريوخلين"، ورفع الأمر للبابا. هنا قفذ "إراسموس" إلى المعركة. كتب العديد من الرسائل إلى السلطات في روما. وراسل كل المشتغلين بالعلوم الإنسانية في ألمانيا.

بذلك، نجح في إثارة معارضة شديدة، ترفض حرق "ريوخلين". تأجل البت في أمره. لكن في النهاية، تم نسيان الموضوع برمته في غمار ثور الإصلاح الديني.

في هذه الأثناء، لاحظ "إراسموس" أخطاء في ترجمة جيروم اللاتينية للعهد الجديد، نسخة "بيبل فولغات". فقام "إراسموس" بإعادة ترجمة العهد الجديد إلى اللاتينية ثم أهداه للبابا "ليو العاشر". بهذا الإهداء، كسب البابا في صفه.

بعد ذلك، قام "إراسموس" بحركة إصلاح سلمي للكنيسة من الداخل. كان يريد إحياء المسيحية بطريقة، تجعلها تتطهر من الخرافات والطقوس التقليدية. الكتاب المقدس هو المرجع، الكهان يتم تعليمهم، إلخ. لكن فرض الإصلاح ليس سهلا. لذلك، كان من نصيب "مارتن لوثر". هنا نجد التطور يفسح مكانه للثورة.

مراجعة العهد الجديد، نسخة "فولغات"، كانت هي الفصل الأول من برنامج "إراسموس" للإصلاح الديني وجعله عقلانيا. لكن الأهم من وجهة النظر الإصلاحية، هو مراجعته وتنقيحه للنسخة اليونانية التي ظهرت عام 1516م.

ترتيبه ومراجعته وتصويبه للمخطوطات، وتعليقاته المصاحبة للنص اليوناني، تمثل حقيقة بداية نقد الإنجيل الحديث. لقد اكتشف عدم مطابقة الكثير من النصوص العقائدية والشروح للأصل اليوناني. مثلا:

في رسالة يوحنا الأولى (7:5)، "لذلك هناك ثلاثة يشهدون في السماء، الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد." هذه الآية لا توجد في المخطوطات اليونانية. فقام "إراسموس" باستبعادها. يعتقد أن "بريسيليان"، قد أضافها عام 380م.

لم يتردد في وضع الجانب الأخلاقي للعهد الجديد، فوق الحكايات والأساطير الغير لائقة للعهد القديم. ويقول أن قراءة المؤرخ الروماني "تيتوس ليفيوس"، عام 218ق م، أفضل من قراءة العهد القديم.

في فقرة من كتابه "أيدجيا"، كتب ما يلي:

"إذا قرأت في العهد القديم، أن آدم مصنوع من طين. وأن زوجته في السر، سحبت من جنبه بينما كان يغط في سبات عميق. وأن الثعبان قام بإغراء المرأة بفاكهة محرمة. وأن الله مشى في طراوة المساء. وأن الحراس تقف تحرس أبواب الجنة، لكي تمنع المتسللين. ألا تعتقد أن الأمر كله لا يخرج عن كونه حكاية من حكايات "هومير".

إذا قرأت حكاية لوط وزنا المحارم، أو قصة شمشون، وزنا داود، وكيف ترفه العذارى الفاتنات عن الملك المخرف، أليس هذا شئ فاحش يثير الاشمئزاز؟"

من الأناجيل التي قام "إراسموس" بمراجعتها: العبرانيون، جيمس، الوحي، رسالة يوحنا الثانية والثالثة، ورسالة بطرس الثانية. رفض بشكل قاطع مذهب أوغسطينوس، الخاص بأصل الخطيئة والرذيلة الكاملة. وكان يرأى أنه مهما كانت جريرة آدم، فذنبه لا ينتقل إلى أحفاده والأجيال الجديدة.

هو أول العلماء، بعد "أوريجانوس"، الذي قام بالنقد العقلاني للإنجيل كله، وتطبيق روح التعاليم الدينية على جميع مناحي الحياة، لا التعاليم والطقوس الصارمة بطريقة حرفية. كان دائم الفصل بين تعاليم المسيح من جهة، وتعاليم الكنيسة والمؤسسة الدينية من جهة أخرى.

نسخة "إراسموس" اليونانية للعهد الجديد، قابلها الليبراليون في كل البلاد بحفاوة بالغة. في نفس الوقت، قوبلت النسخة بمعارضة شديدة من قوى الرجعية. هذا شأن كل جديد تقدمي في تاريخ البشرية.

نسخة "إراسموس" اليونانية، كانت هي أساس الترجمة الألمانية، التي أخذ بها "مارتن لوثر" والكنيسة الإنجليزية. الترجمات السابقة بما فيها ترجمة "ويكليف"، كانت تتم من ترجمة لاتينية، "فولغات". أي ترجمة لاتينية عن ترجمة لاتينية، مليئة بالأخطاء والمغالطات.

فقط بعد تحقيق الوثائق اليونانية، خلال الدراسات المقارنة للمخطوطات المتوافرة في ذلك الوقت، أمكن ترجمة العهد الجديد بدرجة ما من الدقة.

كان "إراسموس" بروتستنتي في عقيدته. يعتقد أن العهد الجديد يجب أن يكون في يد كل الناس. التفسيرات التي صاحبت العهد الجديد، قوبلت في أوروبا بحفاوة كبيرة من العلماء. "لوثر" نفسه، اعتمد عليها في البداية، لكنه بعد ذلك، رفضها لمذاقها العقلاني الليبرالي.

أسلوب وأصالة "إراسموس" تظهر في آخر كتبه، "ندوات مألوفة". وهو عبارة عن تعليمات في صورة حوارات موجهة للشباب. تهدف إلى تكوينهم الذهني والنفسي. لكنه أيضا، يستخدم في الكتاب أسلوب التهكم والنقد، بالنسبة للإيمان بالخرافات وممارثة الطقوس الوثنية، مثل كتابه السابق "مدح الحماقة".

من أعماله الهامة أيضا، تصحيحه لعلوم الإغريق والرومان، بدقة متناهية. يكفي أن نعرف أنه صحح أربعة آلاف خطأ في أعمال "سينيكا" وحده. أفضلها، دراساته عن الباباوية. تنقيحه لكتابات القديس "جيروم"، حياته وتسعة أجزاء من أعماله، يعتبر رائعة أعماله.

القديس "جيروم"، الذي جاء من أوروبا في القرن الرابع الميلادي، عاش زاهدا في بيت لحم، لكي يقوم بترجمة الكتاب المقدس. كان متخصصا في اليونانية واللاتينية. وكانت أفكاره وآراؤه، متقاربة مع أفكار وآراء "إراسموس"، مثل "أوريجانوس" السكندري.

بالإضافة إلى ذلك، كانت له كتابات سياسية، والعديد من المراسلات، إلى الباباوات والملوك والأباطرة والمفكرين في كل أنحاء أوروبا.

كان "إراسموس" يعارض بشدة بيع الكنيسة الرومانية لصكوك الغفران. ربما كان أشد معارضة لها من "مارتن لوثر". لكن المعارضة بالتهكم والسخرية، لا تصل للناس. أما "لوثر"، فقام بتعليق معارضته على باب الكنيسة، وثبتها بالشاكوش والمسامير.

"إراسموس" اكتفى بمخاطبة العقل في الأوساط الثقافية، لكن "لوثر"، اخترق عواطف الجماهير ووصل إلى قلوبها. قواعد "لوثر" ال 95، المعلقة على باب الكنيسة، هي العلم الذي في رأسه نار، الذي بات يقود ثورة الإصلاح الديني.

كان "إراسموس" يتعاطف مع الثورة الدينية بقيادة "مارتن لوثر"، لكنه لم ينضم إليها. كان يقابل توسلات "لوثر" بالصمت. لأن الثورة لم تكن من طبعه. فهو رجل يؤمن بالإصلاح الداخلي. عندما طال انتظار "لوثر"، انقلب عليه، واتهمه بأنه عدو المسيح.

أثناء الثورة والقلاقل المصاحبة لها، أجبر "إراسموس" على ترك "بازل"، لأنها بروتستنتية أكثر من اللازم. ثم أجبر على ترك "لوفين"، لأنها كاثوليكية أكثر من اللازم. عقل حر لا يجد وطنا له. هارب من ويلات الحرب الدينية التي تتقطع فيها الأوصال، لم يجد مأوى وملجأ سوى مكان في "فريبورج".

ظل ينتظر في "فريبورج"، بينما كان حلمه، بقيام ديانة مسيحية إنسانية عقلانية، يتحطم على صخرة العنف وإراقة الدماء. ظل يكتب ويؤلف ويرسل الخطابات، بدلا من الإشتراك في حرب يقودها التعصب وضيق الأفق.

كيف نقيم موقف "إراسموس" من الثورة الدينية؟ وهل هو حقا يهوذا الإسخريوطي الذي خان المسيح؟ وهل نلومه على موقفه هذا، إذا علمنا أن علماء ومفكرين ورجال قلم كبار، فقدوا حياتهم بسبب مواقفهم. منهم: "بيركوين"، "جون فيشر"، "توماس مور"، "زوينجلي"، "مونزير"، "تيندال".

لم يكن "إراسموس" مستعدا للشهادة، أو أن يقوم بدور الأنبياء . كان يفضل أن يظل عالم إنسانيات، يعمل على الإصلاح الداخلي بدلا من الثورة. هو يختلف عن الثوار في الأسلوب فقط. لم يكن يتبع فكر أي شخص أو حزب أو جماعة. حتى يظل حرا، له فكره الخاص.

بعد ذلك، وصفت الكنيسة الكاثوليكية تعاليم "إراسموس"، بالكفر والهرطقة، ووضعت كل كتبه وأعماله على رأس قائمة الممنوعات. لكنه بالنسبة للفكر الليبرالي، ظل نجم النهضة اللامع بدون منازع. الذي كان تأثيره على العالم المتحضر، أكثر من أي شخص آخر، منذ وقت الإمبراطورية الرومانية، حتى وقتنا الحاضر.

كانت رغبة "إراسموس" الأخيرة، هي العودة إلى بلده "برابانت"لكي يموت هناك. لكنه أجبر على المرور ب "بازل". قابل بعض الأصدقاء، هناك قضى أيامه الأخيرة، منبوذا من كلا الفريقين المتصارعين. عندما شعر بالوحدة القاتلة، قال: "أعدائي يزدادون عددا، بينما أصدقائي أصبحوا يعدون على الأصابع".

بينما كان على فراش الموت، جاءته رسالة من البابا في روما، يعرض عليه القبعة الحمراء. هذا ما حدث فيما بعد بالنسبة ل"فولتير". فقد عرضت عليه نفس الوظيفة. لكن مثل هذه الرشوة، لها عواقبها التي لا يستطيع أيا منهما قبولها. لقد رفض "إراسموس" رشوة البابا، وفضل أن يموت كروح حرة. ثم ظل يكتب والقلم في يده، إلى فاضت روحه الطاهرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى