الثلاثاء ١٤ حزيران (يونيو) ٢٠٢٢

إطلالة على عُمر الحاجة صبحية يونس

بقلم الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين

سجن نفحة الصحراوي

تحل علينا الذكرى الأربعون لرحيل الحاجة صبحية يونس عن هذه الدنيا الفانية، الأمّ التي شاخت وشابت وهي تنقب عن الحرية المسلوبة على بوابات السجون، وعلى خلاف كل نساء العالم حولت هي وكل الأمهات الفلسطينيات قاعات الإنتظار، وغرف الزيارة، إلى أفضل الأماكن لممارسة الطقوس الاجتماعية وتبادل القصص والحكايا.

فعلى بوابات السجون تجتمع فلسطين، كل فلسطين، وعلى بواباتها نشأت عشرات قصص العشق والحب بين العديد من الشباب والصبايا، وكان للحاجة صبحية فضل كبير، ويد طيبة في تزويج البعض منهم، ومن عجائب الزمن الفلسطيني تحت الإحتلال، زمن الحاجة صبيحة تلعب الأقدار أحيانا لعبتها السريالية المؤلمة، والقذرة قذارة الاحتلال نفسه، لتثير حنق الحاجة صبيحة، وتتحشرج الكلمات في حنجرتها، وتتقافز الدموع من عينيها، عندما أتت لزيارة كريم، ووجدت بجواره على شباك الزيارة شابا عشرينيا، هو إبن لإمرأة ورجل زوجتهما قبل ثلاثة وعشرين عاما، فما كان منها إلا أن شتمت الزمن، وشتمت الاحتلال، وشتمت الزعماء السياسيين، وكل من تسبب في هذا الوجع المزمن!

الحاجة صبحية، التي صعدت النصف الثاني من عمرها على عتبات بوابات السجون، تسلقت جدار التاريع لأربعين عاما، وهي تبحث عن لحظة تستطيع اختلاسها من هذا الزمن المسروق من أعمارنا، كي تتمكن فيها من إحتضان إبنها كريم، لكن نصف الزمن لم يسمح لها بذلك، لا وهي حية ولا وهي ميتة، لأن مشاعره يسكنها الفراغ، وأحاسيسه الإنسانية مفقودة، فيا ليتنا كنا قادرين على منحها وقتاً من أعمارنا، حتى يتحقق حلمها وحلم كريم، الحلم الذي طالما حدثت أحفادها عنه، وصار حكاية شعبية تتداولها نساء فلسطين عن الحاجة صبحية، التي خبأت لإبنها كريم، في خابية الزمن، حفنة من عمرها الفلسطيني قبل أن يبتلعه الغول.

إن الرحلة عبر الزمن، من أصعب الرحلات التي يمكن أن يسافرها الإنسان، رحلته ما بين الولادة والموت أصعب كثيراً من رحلته عبر الجغرافيا، وإن تصاحبت الرحلتان معاً، هكذا كانت رحلة الحاجة صبحية، قاسية ومريرة، مليئة بالمكابدة والألم، ومع ذلك واصلت مسيرتها بلا كلل أو ملل، كانت تخبز الأمل في كل صباح، وتطعمه لكل من هم حولها، مغموساً بالزيت والزعتر، قبل أن تجوب البلاد بحثاً عن السجن الذي استقر فيه كريم، تجوع كلما جاع، وتضرب عن الطعام كلما أضرب، وتتوجع كلما مرض وكلما قُمع.

صارت تعرف جيداً كل ملامح فلسطين، من شمالها حتى جنوبها، أحبت هذه الرحلة كثيراً، لأنها أخذت من ملامح فلسطين تضاريسها الجميلة ونحتتها على وجهها ويديها، ومنحت من ملامحها لفلسطين بريق عينيها، فباتت تشبه واحدتهما الأخرى، لذلك شعرنا كلنا بمرارة فقدانها، لأن فيها من كل أمهاتنا أجمل خصلة، ومن سبق له وأن فقد أمه، عاود تذوق مرارة الفقدان مرتين!

أُرهقت الحاجة صبحية وهي تفتش عن ذكريات لكريم في عمرها، فلم تجد سوى طفولته والمرحلة الأولى من ذاك الشاب اليافع، الذي اختطف من بين أحضانها قبل "أربعين عاماً"، فغرست له في كل سنة قضتها بعيدة عنه زيتونة، وراحت تسقيها من دمع عينيها، وترعاها بنبض قلبها، ومع ذلك لم يسعفها الوقت، ولا كل صفقات التبادل، ولا أوسلو، ولا الدفعة الرابعة، خُذلت من قبل الجميع، فمن سيسقي غرساتها ويرعاها بعد اليوم؟! ومن سيمنح كريم دفء وحنو كف أمه؟! الذي انتظره:

أربعين شتاءً، ليمسح عن وجنتيه رذاذ المطر
وأربعين ربيعاً، ليُمسد شعره على ضوء القمر
وأربعين صيفاً، لينفض عن ياقته غبار السفر
وأربعين خريفاً، ليطعمه فرحاً من ثمار الشجر

سيخرج كريم من السجن في مطلع العام القادم، وسيجد في قلب كل أمّ فلسطينية قطعة من الزمن الثمين الذي خبأته له أمه، لحين تحرره، فالحاجة صبحية كانت تعلم تماماً بأن كريم سيخرج من زمن السجن بوتيرته المملة، إلى زمن الحياة اليومية الصاخبة، لذلك حرصت بفطرتها الأمومية، أن تترك له حصته من عمرها، الذي حُرم منه، أمانة في أعناق آلاف الأمهات اللواتي في معظمهن يصغرنه سناً.

"الأم"

بقلم الأسير: سامر عربيد

سجن نفحة الصحراوي

8/6/2022

صليب على صدرك منذ صغري، لم يكن إلا رمزا من رموز الفداء والتضحية.

هكذا عرفت "صلبوك مثل المسيح في المسكوبية، هكذا قلتِ لي في كبري فلا تخافي يا أمي، المسيح رمزُ لذاك الطائر الفنيق الذي ينبعث من رماده من جديد.

والشهيدُ، رمز لتلك السنبلة الفلسطينية، التي تُنبتُ من حبوبها من جديد

فمسيحُ أو شهيد، شهيد أو مسيح، فالإثنان مقاومة للظلم والطغيان

هلال يعلو الصليب، أوصليب يعلو الهلال، أو يتعاليان في عناق أبدي لا خلاف هذا أو ذاك، أو الإثنان معاً، كُلها رموزُ للأمّ الكبرى في القدم.

وآخر أمّ كبرى في الديانات البشرية والسماوية هي مريم أمّ المسيح

أزاحها العبرانيون من توراتهم، فأبرزها الإنجيل، وأنصفها القرآن

سيدة، شافية، بتول، عذراء، أنت في المسيحية والإسلام.

أما قبل الميلاد، فأنت الأرض، نلتصق بها في حياتنا، ونعود إليها في مماتنا.

وأنت القمر، هذه الأرض السماوية الأكثر شفافية ونقاءً وجمالاً

دعاك البابليون، بعشتار الخضراء، والمصريون "إزيس" الخبز وأم القمح

ودعاك اليونانيون، إفروديت السنابل، والرومانيون "فينوس" الشعلة أيضاً

أما نحن الفلسطينيين، فندعوك اليوم "أمّ البدايات والنهيات"

في صفوفك الأولى، تعلمنا حبّ الوطن والحرية، وعشق فلسطين

لنحمل العلم، والحجر، والقنبلة، والبندقية، ولنصبح فدائيين.

أنت يا أمي ذاكرة لا تنطفئ، نابضة، باقية، راسخة، ثابتة إلى الأبد

وهذا الغاشم غبي، كسر ضلوعي، ثقب رئتي، عطل كليتي، وفي عقلي كنت حارستي وفي قلبي نور إمرأة عشقتها يا أمي، نور مثلك كالجبال شامخات

فسلام عليك يا أمي .. . ووداعا حتى نلتقي في النهايات.

بقلم الأسير المقدسي: حسام زهدي شاهين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى