الأحد ٢ أيار (مايو) ٢٠٢١
بقلم سمية العبيدي

احتجاجات

كانت الجدة تسند فكها بباطن كفها الأيمن وتنظر في مختلف الاتجاهات تتفرج على ما حولها من بشر وزهر وشجر وهي تجلس منفردة تتململ فقد مضى أفراد الاُسرة للتمتع بالمناظر الزاهية الجميلة واشراك الأطفال باللعب المختلفة ورعايتهم اثناء الانغمار في فوضى اللعب والمرح. رأتها ذات العباءة التي دخلت توا من باب المنتزه إذ قامت بجولة بؤبؤية عاجلة ورصدت مجموعة الكراسي الشاغرة حولها ولأن المتنزه كان يغص بالرواد فقد يممت المرأة شطرها وسألتها أتسمح بمجالستها قالت الجدة: تفضلي.. ريثما يأتي الأولاد، كانت الجدة في غاية الحذر فقد كان لصيادي المغفلين جولات وصولات في كل مكان. جلست المرأة التي قاربت الخمسين من عمرها في كرسي المتنزه باسمة وشرحت للجدة: بيت أهلي قريب لذا آتي الى هنا كل يوم تقريبا حينما أكون في زيارتهم فالجو معتدل في هذا الفصل والزهور تجذبني جدا إذ لا حديقة في دارنا المزدحمة بالسكان. رحبت الجدة بتداول الحديث مع المرأة فقلما تحدثت مع أحد خارج نطاق الاسرة منذ زمن بعيد. استأنفت المرأة وبيتكم قريب قالت للجدة متسائلة: لا بل هو بعيد غير إننا نحب أن نأتي بالأطفال للنزهة بين حين وآخر قالت المرأة وهي تلملم أطراف عباءتها عن أرض المتنزه لئلا تصيبها رطوبة المكان بالبلل: مكاني ضيق حدا حيث لم أرث عن أبي الا بضعة أمتار من دارنا، وضع أخواي حصتي وسطهما ليقتسماها بالتساوي بعد موتي ويضماها الى حصتيهما... كان ذلك قبل زواجي وقد وافقا على زواجي أخيرا بعد أن استكتبا العريس المتقدم تنازلا عن حقه في حصتي وقد فعل. أخواي جيدان لولا مسألة الارث هذه. نسكن أنا وزوجي مع أهله في منطقة ريفية وعاداتهم تختلف عما الفت فأنا ابنة المدينة أود بناء بيت صغير لي هناك بجانب بيتهم الكبير حجما المليء بشرا ومنهم أولاد زوجي الذي نشأوا في أحضان عماتهم بعد وفاة امهم بالمرض الخبيث، وزوجي هو أحد ابناء عمومتي البعيدين طلبني في شبابه وعارض أهلي زواجي منه أما الآن وقد جاوزت عمر الزواج والإنجاب فقد وافقوا وها أنا زوجته منذ ثلاثة أعوام. كلما أتيت للمدينة حيث يسمح لي زوجي أُقيم في غرفتي الصغيرة مستقلة تماما وأتصل بأسرتي وأفرح برؤية أولاد أُخوتي بضعة أيام ثم أرجع الى الريف لأُزاول أعمالا لم أستعد لها في مقتبل عمري ولا أرضي بذلك أحدا مهما اجتهدت حتى مللت. مع جمال الطبيعة في الريف وكثرة الظلال والأشجار المثمرة وبساط الأرض الأخضر غير إني أحن لرؤية المدينة وشوارعها المزدحمة بالسابلة من كل جنس، فبيت أسرتي في مكان حيوي وقريب جدا من الشارع العام الرئيس، أستطيع من نافذتي أن أرى مرتاديه وأُشارك في الأحداث بسيطها وجليلها وأنغمر في الحياة. لو بعت الغرفة لنمت مع بنات أخوي كلما جئت زائرة هذه أُمنيتي لو تحققت لكنت في منتهى السعادة لم تنبس الجدة الا ببضع كلمات فقد كان شلال الكلمات الدافق بحرارة الصدق والصراحة ينسرب من المرأة التي جالستها في غاية الحرارة والعنفوان. قالت الجدة: إن بعت الغرفة ماذا سيفعل أخوتك أجابت سيرضون بالواقع إذا تم الأمر دون علمهم أما إذا علموا قبل تمامه فسيمنعون حدوثه تماما. قالت العجوز وما السعر الذي تطلبين لقاءها. أجابت المرأة: لن أُغالي بطلب السعر ولن أطلب حتى سعر السوق بل سأتنازل قليلاً كي أحصل على مشتر. أجابت الجدة حددي سعرا لعلي أجد لك مشتريا من معارفي حددت المرأة الملتفعة بعباءتها سعرا ظنته الجدة منصفا وممكنا قالت سأشتريه أنا إذن. حضري أوراقك الثبوتية وصورك ولاقيني هنا في باب الحديقة بعد يومين. تم للمرأتين ما خططتا له وانتقلت ملكية الغرفة بعد أيام الى الجدة، عجبت الجدة من الطريقة الغريبة التي ساقت لها حلمها على طبق من ذهب. وجعلت من الغرفة مكانا لبيع الكتب والمجلات ومن شباكها نافذة لبيع طعام فاغم الرائحة للسابلة. فقد سئمت هي أيضا ركودها الذي طال في فراش المرض كأنما ربطت اليه وأُدرجت تحت عنوان عجوز = عاجزة، وهذا عدا عن كونه خلاف الواقع فهو ما تشمئز منه وتكرهه تماما. كانت تلحق بالغرفة الصغيرة فسحة ضيقة تشكل منورا والى جانب منها حمام صغير. بدت لها شقة شبه متكاملة لذا باعت شيئا من مصاغها وابتنت سلما صغيرا يؤدي الى طابقين آخرين، كررت كل ما في الطابق السفلي وتركت الى جانب الحمام - الذي تصدر بسطة السلم العليا - حيزا صغيرا يطل بابه الزجاجي على المنور ليرفد السلم وبسطته بالهواء والنور وقد يستعمل إذا لزم الأمر لوضع موقد صغير. نوت تأجير الشقتين لمن ترضى مجاورته، كانت تنتظر فرصة جيدة لتأجيرهما ولمّا يحصل ذلك بعد. فتأنت تنتظر. ما كاد الأمر يستتب لها بما أرادت حتى بدأت تحركات احتجاجية عامة جديدة ومطالبات بحقوق مهضومة خرج لها الفتية يعلنون رفضهم واحتجاجهم بصوت عال وبعد يومين من المناوشات التي خالطها بعض العنف التف الناس حول الشباب ورفدوا تظاهرتهم بأعداد لا حصر لها مما أغضب بعض الفئات المعارضة والمجهولة فعزموا قطع دابر الحركة قبل أن يشتد أُوارها وتخرج عن نطاق السيطرة لذا نزلت قواتهم متخفية بأسلحتها وسلطتها وافتعلوا شيئا يوحي بشر فحركوا شبابا مدوهم بالسلاح الحي كي يبرروا العنف الذي سيواجهون به الشباب الأعزل انتشرت أذناب الشر بأسلحتهم وبدأوا مناوشات فقتلوا بعض الفتية وطاردوا آخرين مما ولد فوضى وتراشق بالسلاح ولما هرب العزل طوردوا بألسنة النار كانت المرأة تتفرج من بعيد ولاحظت الشبان يتدفقون الى حيث هي وقد هبط الظلام مسربلاً كل شيء وهم لا يعرفون لهم ملاذا لذا تسللت بمفاتيحها وفتحت باب السلم المؤدي الى الشقتين الصغيرتين في الأعلى وعادت تهمس في الظلام: اصعدوا أصعدوا.. الفتيات فى الطابق الأول والفتيان الى الطابق الثاني ردوا الباب.. واربوه خلفكم ولا تصدروا صوتا. لم تكن تراهم جيدا وهي لا تعرفهم مطلقا إذ كانت خلف نافذتها المواربة وكلما اقترب شبح همست اصعدوا الطابق الاول للفتيات والثاني للشبان وردوا الباب خلفكم لا تغلقوه ردوه فقط ولا تصدروا صوتا. كان صوتها حافلا بالأمان هادئا واثقا لذا انقاد الشباب وفعلوا ما أرادت، ولما صفر الشارع من المتسللين والمطاردين وظنت أن لا مكان لأحد آخر في الشقتين الصغيرتين تسللت خارجة وأغلقت باب السلم بالمفتاح. كان الظلام يسود المكان تماما ومضت أشباح الشر تطارد فلول الهاربين العزل في أزقة الحي ومقترباته بدءاً من الشارع العام وانتهاءً بزوايا الحي القديم وتلافيفه مروقا الى شارع خلفي يوازي الشارع الرئيس. اتصلت بأُسرتها تطمئنهم وتخبرهم أنها لا تأمن الطريق لذا ستبات ليلتها في المحل. كانت قد تبضعت وحضرت ما ستبيعه للمارة من غدها. أما الآن فهناك من هو أحق به استنفرت قواها وجلست في الظلام تصنع شطائرها على ضوء مصباح الشارع، فلما أتمت عملها قسمت الشطائر على كيسين من البلاستك وفتحت الباب بعد أن راقبت خلو الطريق من أيما شبح دلفت مسرعة الى بسطة السلم وأغلقت الباب بكل هدوء ومضت تصعد ببطء وصمت ولما وصلت بسطة السلم العليا فتحت الباب في الظلام ومدت الطعام بيد من رحمة للفتيات وقالت كلن بهدوء ولا تصدرن صوتا وسيأتي الفرج إن شاء الله. ثم أكملت صعودها الى الطابق الثاني وكررت أفعالها وأقوالها وأخيرا نزلت الى شقتها الأرضية وما كادت تجلس على كرسيها وتسترخي حتى قفزت الى ذهنها المتوقد فكرة، حملت مفتاحها وخرجت متسللة الى بيت الجيران وباب الجار الرئيس في شارع فرعي ضيق ومظلم دائما فلا إنارة فوقه، وقفت لصق الباب تنادي: ام طارق يا ام طارق عرفت أن أحدا لا يستطيع النوم في مثل هذه الليلة لذا انتظرت هنيهة ثم أعادت النداء وعرفت إن أبا طارق بدأ بهدوء كبير يدير المفتاح في بابه الخشبي القديم. رحب بها مبتسرا في التحية فأخبرته بالوديعة التي في بيتها والتي تريد تسريبها عبر بيته من منورها الى سطحه فردا فردا وبصمت. استحسن فكرتها فترك الباب مواربا ومضى لفراشه أما هي فعادت وفتحت باب السلم دلفت وأغلقته بهدوء لتصعد وتصدر تعليماتها للفتيات. تسلقت الفتيات فسحة المنور وهبطن على سطح الجار الذي لم يكن لسلم داره الشرقية المفتوحة باب هبطت كل منهن بهدوء وبفارق زمني بسيط ليتسللن الى دورهن عبر الأزقة الضيقة المعتمة في الحي القديم، ولما تم لها ذلك صعدت الى الطابق الثاني بتعليماتها وطلبت من الشبان أن ينزلوا الى الطابق الأول ثم يجتازوا المنور لسطح الجار ويخرجوا من بابه الموارب، كانت تحافظ على توقيت خروجهم تاركة فسحة زمنية مناسبة. وعند انتهاء الأمر خرجت لبيت الجار تشكر وتعلن انتهاء الأزمة قالت: أغلقوا الباب تصبحون على خير ومضت بخطوات قصيرة كتوم لمكان عملها
لتنام على كرسيها الأثير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى