الأربعاء ٥ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

استباحة

لا يذكران متى جرى ذلك الأمر لأوّل مرّة، لكنّ البداية كانت قديمة قليلاً، والأمر صار متّفقاً عليه بأنّ البداية جدّ قديمة، وما من أحد يريد نبش التواريخ لتسجيل نقطة البدء، لأنّ الأمرَ بات متكرّراً ومعتاداً ومقبولاً بل ومن المسلّمات، وبحكم الأمر الواقع

وقالت لزوجها هامسةً:

 عسانا ننتقل من ها هنا، فنجد لنا سكَنَاً أكثر سكينة بمحيطٍ جديد.

وابتسم الزوج وأجاب وكلُّه ثقة:

 تقصدين نرحل كالرّاحلين؟

وخفّفت الزوجة من أهمّية طلبها وضرورته بقولها:

 لا أقول الآن، والأمر غير مهمّ، لكنْ لنضعه في حسباننا، أتمنّى أن نبدأ حياتنا من جديد بمحيطٍ نجهله ويجهلنا، كغرباء بأرضٍ جديدة، ونبني علاقاتنا مع المحيط بدون البناء على سوابقنا وخلفياتنا.

 لكنّنا بتنا معروفين هنا، وهذا الحيّ لنا فيه جيران ومعارف وخلّان وذكريات.

ونظرَتْ في عيني زوجها بشفقة محاولة أن ترى ما خلف عيونه، هذه الذكريات التي يتفاخر بها، هِيَ..هيَ التي تقلقها وتؤرّقها وتقرّحها لذلك تريد قطع دابرها وقصّ أظافرها المخرّشة، فقالت:

 إن ما أقصده بتغيير المحيط هو تغيير الجيران

وأشاح الرجل بوجهه عنها، وأطرق أرضاً وقال:

 والله أوصى بسابع جار

فأجابت وقد ارتفعت حدّة صوتها:

 وقد يكون بعقر داري وكرٌ لأفعى مجلجلة؟

وازداد رأسُه طأطأة، وقال:

 فهمت، ذاك الجار المزعج يتطاول على الجميع، والكلُّ ساكتٌ إزاء تطاولاته، ومثلنا مثل غيرنا، ولن يستطيع أحدٌ وضعَ حدٍّ لتجاوزاته حالياً، وحتى الآن.

قال ذلك وانسحب من وجهها إلى شأنه، وسمِعَتْه يقول وهو يخرج مُتمتِماً:

 سنضع له حدّاً ونلجم رعنائه بالاتفاق مع بقية الجيران، سنتضامن، لا تقلقي، اصبري، أو تناسَي قليلاً، ولكلّ شيء نهاية.

ها هو ويريد أن ينسى، وقبل قليل كان يتفاخر بذكرياته!

نعم، ولا صوتَاً مسموعاً في ذلك الحيّ إلا صوته، ولا أمراً تمّ أو سيتمّ إلا بأمره. ذلك الجار الأخطبوط الدّبق، ليس رئيساً للحيّ ولا مختاراً، لكنّه المسيطر عنوةً منه أو رغبةً من الآخرين بالاستزلام لديه، قد يكون السبب أنهم اضطرّوا للاستدانة منه يوماً لفكّ ضيقاتهم المادية فاستفحلت ديونهم وعجزوا عن سدادها، وقد، وقد...

لكنّها وزوجها ما استدانوا منه على فقرهما، ويرفعا صوتهما بالحيّ بكبرياء الشرف والعزّة وعدم الخضوع لمشيئته.
كان جارَاً مجاوراً لبيتهم الصغير القديم، غريبٌ عن الحيّ ولم يولد فيه مع أنه يدّعي بأنّ جدّه كان هنا، وكان له قصرٌ منيف، وانهار، ولم يبقَ منه إلا حائطاً حجريّاً كشاهدة يستشهد بها على أحقّيته بين بيوتهم الطينية.

وشيّد ذلك الجار بيتاً منيعاً هو الأعلى في الحيّ الفقير، ومنه كان قادراً على التلصّص على الشوارد والموارد فلا تخفى عليه خافية، فإذا استحمّت امرأةٌ كان قادراً على سبر أغوارها بمنظاره المكبّر، ناهيك عن أجهزة تنصّته، لا بل الأخطر من ذلك كانت عيونه وآذانه التي زرعها بينهم من أبناء جلدتهم، منغمسين واشين على بعضهم كالسّوس ينخر في عيدانهم الهشّة.

والوحيد بينهم هو من كان يملك بندقية للصيد، وأين يصيد وماذا يصيد؟ ويطلق النار على العصافير الطيّارة، والحمائم التي كان بعضهم يقتنيها، يُرديها ببندقيته لمجرّد أنها رفرفت فوق حياضه، ولا يأكل من صيده، بل يعيد كل حمامة قتيلة لصاحبها إن سقطت بقصره، وإن أصيبت في سماء جيرانه ستسقط عليهم جريحة فيجهِزون عليها لإراحتها، أو قتيلة فينتفون ريشها ويأكلونها بصمت لأنّ عمرها قد انتهى.

وأصبح صوت إطلاق النار مألوفاً لدى الجيران فلا يرتكسون له، لأن الجار قد يكون يرمي رشقاتٍ هوائية تحذيرية أو يجرّب سلاحه تجريباً.

رجالُه وقفوا ببابها طارقين، وتخفّت وراء بابها العتيق وقالت:

 زوجي ليس هنا، ولا يمكنني فتح الباب

وقالوا:

 نعرف أنه بالأرض يحرثها الآن، وهو موافق على دخول السيد لبيتكم لتقصّي الحقيقة.

واستغربت الزوجة موافَقة زوجها عن بُعد، وهو المتعصّب الذي يحظّر عليها الانكشاف على الغير، وقالت:

 ألا يمكن التأجيل لساعة العصر ليكون موجوداً، وأية حقيقة يريد سيدكم تقصّيها؟

وأجاب أحدهم بلهجة الأمر:

 يريد كشف الحقيقة المُرّة المستعصية، هيا افتحي!

 مهلاً كي أستر نفسي كما يجب.

يومَها على مصراعيه انفتح بابها، وظلّ الحرس حارسين الباب، بينما دخل الجار السيد تحت الحجاب!

وعاد الرجل عصراً من فلاحته منهَكاً، ووجدها تبكي، وسألها عن حالها، فقالت والدموع بعينيها:

 الجار السيد جاء متقصّياً عن الحقيقة المُرّة، وقالوا لي أنكَ وافقْتَ على دخوله حرَمَ بيتك.

وانهال الزوج الغيور على زوجته ضرْباً حتى أثخنها، بحيث ما عادت قادرة على سؤاله عن الأمر الذي تمّ، وهل كان بموافقته؟

في اليوم الثاني، كان متردّداً في الخروج إلى أرضه كالعادة، كان يريد أن يستحي من إخوانه بدافع الثمالات الباقية من رجولته. لكنّ صوتاً قوياً لإطلاق نار قريباً منه جعله يجفل، فلا رجولة تبقى أمام البندقية، وسقطت حمامة جريحة بصحن داره، وخرج إليها ورآها مضرّجة بلا حراك، ثم تراجع مذعوراً لطلقةٍ أخرى انهالت من عل، ليس هو المقصود، بل قد اصطاد الجار السيد دجاجة من دجاجاته، وكانت تخوض مع صيصانها في صحن داره.

ورأى عيون زوجته التي تبكي من خلف ستارة غرفة نومها، فعاد إليها ليثخنها ضرباً من جديد، وكان يشتمها مؤكّداً أنّها هي التي أغرت الجار السيد ليقتحم داره، وهي التي لا تلتزم بالسّتر في صحن دارها الذي يشرف قصر الجار عليه، وها هو اليوم يصيد دجاجاته بحضوره.

أتظنّين أنه يطلق النار من أجل دجاجة في بيتنا؟

إنه يطلق النار من أجلكِ يا عاهرة؟

وتركها تسبح بدموعها، وخرج يدقّ أرضه بمعوله

وعاد عصراً واجماً ليأكل من دجاجته التي طبخَتْها له، ووجد الحمامة المحمَّرة لذيذة، فنام سعيداً

وعندما استفاق نسيَ أن يسألها عن الجار الذي جاء اليوم أيضاً ليستقصي الحقيقة المرّة، ويومَها لم يستحِ من الخروج ليلاً لشرب الشاي في قهوة الحيّ، وحتى رفاقه الذين يشاركونه لعبة الورق لم يسألونه عن الجار الذي استباح بيته لأنه استباح بيوتهم من قبله أو بساتينهم وكشف حقائقهم المُرّة، وكان لكل منهم شارباً للعزّ والأنفة والسؤدد يمسّده ويلعقه.

والأمر كما قلنا في البداية صار مألوفاً ومتكرراً ومُعاداً ومعتاداً، بل ومن المسلّمات أن تكون كل البيوت مستباحة، ولذا ما عاد الزوج يضرب زوجته، لا بل ما عاد يتّهمها، لا بل صار كغيره ممّن يزورون الجار السيّد بالمناسبات والأعياد، ذاك الجار السيد الكريم الذي يشتري منه محصوله ويدفع بسخاء.

وهكذا بقيت الحقيقة المُرّة مستباحة، ولم تكُ مستعصية على الفهم، مفهومة ومسلّمٌ بها تسليما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى