السبت ٤ تموز (يوليو) ٢٠٢٠

اعتراف

منصور محمد أبوصفيّة

أدخلوني إلى مكتبه الواسع، وقفت أمامه معتدلًا واثقًا، كان مُكبًّا على أوراق أمامه يتفحصها، نظارة القراءة هبطت إلى أرنبة أنفه، رأسه أصلع من أعلى و جانباه غلب عليهما الشيب، كلّ شيء صامت يوحي بالوقار والهيبة، سألني وهو منهمك في تقليب أوراقه عن اسمي وعمري ومكان إقامتي، أجبته فأشار إلى شاب يجلس إلى يساره ينقر على الحاسوب أن يدوّن ما تفوهت به... ثمّ قطع انهماكه وزمّ شفتيه... حدجني بنطرة فاحصة من تحت نظارته قائلاً:"أنت متهم بجناية الضرب المفضي إلى الموت بحقّ المغدور (وحيد مالك وحيد)، مذنب أم غير مذنب؟"

عندما كنت في مقتبل الشباب جاء إليّ مهمومًا... جلس مكاني زائغ العينين، قلّب أوراقي فوجد قصيدتي البِكْر التي تحكي اشتياق النوارس إلى زرقة البحر وألق السماء، قرأها مندهشًا ثمّ ادّعى أنّ قريحته مجدبة، وإلهامه عاجز، وقد وعد حوريّة البحر بقصيدة تؤنس وحشتها؛ فهي ملّت صوت ارتطام الأمواج بصخور الشاطئ... قال:"أنت تعرف ما يجمعنا منذ أيام الطفولة، وأنت رقيق لا ترضى أن يُكسر قلب حوريّة البحر التي تنتظر مني قصيدة تضيء الفرح في قلبها". رأيت انكسارًا في عينيه وهو يوقّع اسمه أسفل القصيدة ثمّ أخذها وذهب، منذ ذلك الوقت أقلعتُ عن كتابة الشعر.

أيام الطفولة جمعتنا في المدرسة، كان يحبّ الجلوس إلى جانبي، عندما سألنا المدرس الصارم يومًا عن الواجب، ادّعى أنّ أمّه أرملة ويريد أن يجبر خاطرها ويدخل السعادة إلى قلبها، قال لي:"أنت رقيق لا ترضى أن يُكسر قلب أمّ مكلومة تنتظر أن تفخر بصنيع وحيدها". رأيت انكسارًا محزنًا في عينيه حين سحب دفتري ومحا اسمي وخط اسمه مكانه ثمّ قدّمه للمدرس؛ فأثنى عليه ودوّن له عبارة شكر، أما أنا فقد انّبني المدرس على تقصيري؛ فأقلعت عن الكتابة في الدفاتر.

مع نهاية فصل شتاء ساحر من أشتية منتصف العمر جاء إليّ مندفعًا يتدفق حيويّة، كنت للتوّ قد فرغت من رسم لوحة ملكت عليّ روحي، يعانق فيها قوس قزح غيمة خجولة ويهوي خلف الجبال البعيدة كشلال دافئ قال:"يا إلهي؛ إنّ زوجتي رقيقة المشاعر و مغرمة باللوحات التي يزينها قوس قزح، وأنا نضبت مخيلتي وتيبست أصابعي ولم أعد أشعر بدفء الألوان... و أنت تعرف ما بيننا منذ الطفولة و أنا أعرف كم أنت رقيق، لا يمكن أن تكسر قلب امرأة محبّة لزوجها تنتظر منه لوحة تنبض بالروعة والسحر". رأيت انكسارًا في عينيه وهو يأخذ الفرشاة الصغيرة ويوقّع اسمه في زاوية اللوحة ثم يحملها ويخرج فأقلعت منذ ذلك الحين عن الرسم.

عندما عدت من رحلة اغتراب امتدت ثلاث سنين عجاف، جمعت فيها ما يقيم رمق أحلامي المتواضعة، استقبلني في المطار احتضنني احتضانًا باردًا، قبل أن نصعد إلى السيارة أمسك بيدي وقال:"أنت تعرف ما بيننا منذ الطفولة، أولادي كبروا كما تعلم وهم يلحّون عليّ أن أشتري لهم بيتًا واسعًا فقد خنقتهم الشقة الصغيرة وملّوا منها، وأنت رقيق كما عهدتك، لا ترضى أن تكسر قلوب أولاد متعلقين بأبيهم وينتظرون منه حياة هانئة تسعدهم". رأيت في عينيه انكسارًا وهو يدسّ (الشيك) في جيبه ومنذ ذلك اليوم أقلعت عن الغربة.

قبل أيام كنت جالسًا على عتبة بيتي الصغير الذي ورثته عن والدتي وورثت معه الوحدة والوحشة منذ أن رحلَتْ... لا أحد فيه غيري وتلك الشجرة الوحيدة التي تفتقد أمي كما أفتقدها، فجأة دُفع باب الحوش الصفيحيّ بقوّة، فتراقص الباب مصدرًا ضجيجًا مزعجًا، بينما كان يدخل ماشيًا نحوي مرتديًا بدلة رسميّة كحليّة وحذاء أسود لامعًا، بدا أصغر مني بعشرين سنة، أنّ الباب أنينًا حزينًا وارتطم بالجدار المصنوع من الطوب المتهالك، فلمحتُ مقدمة سيارة سوداء تقف خارجًا.

ألقى إليّ تحية عجلى جافة، وضع يده اليمنى على كتفي وسار معي إلى الداخل... قال:"أنت تعرف ما بيننا منذ الطفولة..."، ونظر إلى عينيّ ثمّ ما لبث أن حوّل نظره إلى جدار الغرفة... رزنامة كرتونيّة معلّقة على الجدار يعلوها الغبار لم يُقطع من أوراق أيامها إلا القليل، مشى نحوها، مدّ يديه، انتزعها، ضمّها إلى صدره وانطلق، حاولت أن أقول له إنّ الرزنامة... لم يسمعني وانطلق مسرعًا نحو باب الحوش، قال إنّه ترك سيارته في الشارع مشتغلة، قبل أن يصل إلى الباب الصفيحيّ داست قدمه حجرًا غير ثابت فانزلق، فقد توازنه وترنح، حاول تجنب السقوط إلا أنّه هوى منقلبًا، فارتطمت مؤخرة رأسه بزاوية الباب.

ركضتُ نحوه:"يا ساتر يا ساتر..."كان مستلقيًا على ظهره... يداه متشنجتان قابضتان بشدة على الرزنامة الكرتونيّة، نظرت إلى وجهه المصفرّ الكالح، كانت عيناه جاحظتين بقوة وليس فيهما أيّ انكسار.

أعاد الرجل الوقور سؤاله بلهجة صارمة"مذنب أم غير مذنب"

أجبته دون تردد والسكينة تغمرني:"مذنب مذنب".

منصور محمد أبوصفيّة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى