الأحد ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم لؤي الشامي

البومة البديعة

عندما يكون التناقض بين الشرق والغرب مبرراً تتضاءل الفجوة بين الحضارات ويتعاظم دور الثقافة والوعي وإدراك بعضاً من الأسرار التى أودعها الله تعالى في الإختلاف بين البشر ليتعارفوا كما أشارت الآية القرآنية الكريمة.

تأثرنا في طفولتنا من القراءات المترجمة من نتاج الفكر الأوربي من قصص وأساطير ومجلات أطفال كميكى وتان تان وغيرها وبعد التخليط بين الاساطير والقصص الشرقية والغربية لفتت انتباهنا بعض التناقض بين بعض الرموز. ترمز البومة في القصص الغربي للحكمة وتتسم بالتأمل أما في القصص العربي بل الشرقي عموما يرمز البوم غالباً للشؤم والخراب.

ولا أتوانى في كل معرض ومناسبة أن أعلن أني مقتنع بالنظرة الأولى للبوم وأحاول بسط ما تيسر من رأيي حتى أنى أقتنيت دمية لبومة بيضاء ذات خطوط بنية من تلك الدمى التى تدخل فيها الكف لتحرك رأس الدمية وأطرافها والأدهى في قصة الدمية هذه أنى أهديتها لعروسي الميمونة يوم لحقت بي في ألمانيا بعد زواجنا بزمن يسير وكانت تلك مناسبة عظيمة بالنسبة لي لبسط وشرح فكرتى المصححة عن البوم تلك الفكرة المخالفة لما اعتدنا عليه في بلادنا التى قدمت منها عروسي، وأرى الآن ما كان مني محض سذاجة مثقف وبراءة محب.

لست هنا بصدد عرض لنماذج لهذا التناقض فهو جلى لكلي ذى قراءة وإطلاع على كلا اللونين، ولكنى أدلي هنا بدلوي لمقاربة متصورة لدواعي هذا الإختلاف.

تعيش البومة في أوروبا في الغابات وتقتات على بعض القوارض والزواحف وتقضى الليل سهرانة متيقظة فاستخدمت في القصص الأوروبي رمزا للحكمة والوعي والإطلاع الواسع وحق لها ذلك فهي الساهرة المتيقظة المطلعة على حركات وسكنات قاطنى الغابة من كبير وصغير، فنجدها ملجأ وملاذ لحيوانات الغابة يلتمسوا منها الحكمة البالغة والنصيحة الناجعة.

وهي في بلاد المشرق لا تجد هذه الغابات ولا تجد رزقها من القوارض والزواحف إلا في أطلال بعض الإحياء والمحلات المهجورة والخرائب فصارت عندنا رمزا للخراب والدمار ونذير شؤم فاستخدمها الحكيم في كليلة ودمنة في قصة الملك الذى ترك الحبل على غاربه لجنوده ليتمادوا في ظلم الرعية بفرض أتاوات باهظة على التجار والصناع والزراع فخربت البلاد وكسدت التجارات وتدهورت الصناعات، ولما رأى الملك بومتين تتناجيان سأل نديمه الحكيم عما تقولان فقال له أن الذكر منهما يخطب الأنثى مقدما لها مهراً قوامه خرابة واحدة لترتع فيها وأبنائهما من بعد فتمنعت وتمنت عليه أن يكون مهرها خرابتين فما كان من الخطيب الولهان إلا أن طلب منها أن تمهله سنة واحدة من حكم الملك فيمهرها عشر خرائب لا اثنين ولا ثلاثة، عند ذلك انتبه الملك للرمز من القصة وأعاد الأمور إلى نصابها رافعاً ظلم جنوده عن شعبه المسكين.

كنت أزور حديقة الحيوان في شتوتجارت كل عام تقريبا خلال سنى إقامتى في تلك الحاضرة الألمانية البديعة في تسعينيات القرن العشرين، وكانت أقفاص أنواع البوم المتنوعة هي الفقرة الثابتة في مسار زيارتى لجنبات الحديقة الشاسعة، ومن أجملها البومة البيضاء المسماة بومة الجليد. وذات مرة لم نجد أحد ذكور البوم من نوع معين كان مخصصا له قفصاً خاصا ووجدنا لوحة بيانية مكتوبة على القفص أن هذا الذكر من نوع كذا وكذا قد سافر إلى حديقة حيوان ليون في فرنسا ليتزاوج مع أنثى من نوعه للحفاظ على نوعهما وسيعود إلى شتوتجارت بعد حين.

أول لقاء لى مع البوم كان في أحدى طرقات مدينة أسيوط بصعيد مصر حيث درست في جامعتها في ثمانينيات القرن الماضي وقد رأيت بومة صريعة وتجرأت وربت على ريشها الذى بهرنى ملمسه الحريري وتأملت جمال ألوانها ورثيت لحالها أن تموت هكذا كما يموت كل طائر ليس له من هذا الجمال نصيب.

وآخر لقاء لي مع البوم كان هناك في صحراء إحدى بلاد الخليج وكان عملى هناك يقضى بالخروج إلى موقع صحراوي مرة كل بضعة أيام ولاحظت ومرافقى مغادرة بومة عظيمة للمكان بمجرد وصولنا كل مرة ولكنها تغادر بحذر وحرص وعرفنا بعدها السبب فبطل العجب، عثرنا على فرخها الوحيد في جحر محفور بعناية وكنا نزوره كلما وردنا المكان وحاول بعضنا إمداده بالماء وبعض من الغذاء ، محاولة ساذجة من البشر الذىن لا يعلمون إلا القليل عن العوالم الأخرى. وطالما حاولنا تصويره دون أزعاجه.

وذات مرة وجدت هذا الفرخ أسيراً في سيارة موظف من أهل تلك البلاد منتوياً توصيله للمحمية لرعياته ظناً منه أن أمه قد تركته دون رعاية فألححت عليه أن يرده لأمه وأكدت له بشهادة الشهود أن أمه ترعاه خير رعاية وأنها خير أم لخير فرخ ولم تفتنى فرصة تصويرة وهو خارج جحره الذى طالما أحجمت عن إدخال كاميرتى إلى عمقه، وكم كانت سعادتى بالغة حين أطمأننت بعدها على صديقى الصغير في مكانه وزادت سعادتى حين اقتربت منه لتصويره في المرة الأخيرة فبادرنى بتحريك منقارة الذى بدأ يشتد حركة أصدرت أصواتاً موحية باستعداده للدفاع عن نفسه محاكيا فيما أتوقع أمه الحنون فحمدت الله على ما آل إليه صغيرها وأدخر عند الله حمدها لصنيعى بعملي على عودته لحضن أمه التى لم أرها إلا من بعيد لأنها ربما تعرف أنى عربي يراها رمزا للشؤم والخراب ولا تعرف أنى مقتنع بالنظرة الأوروربية لها بأنها رمز الحكمة والتفكر. والله أعلم ..........


مشاركة منتدى

  • مساء الخير. منذ أن كنت صغيرة كنت احب البومة ولكن كنت أخاف أن أخبر أحد لأنهم كانو يعتبرونها نذير شؤم ولكن عندما كبرت بدأت أفصح عن حبي واهتمامي لهذا الطائر الجميل وبدأت ارسم هذا المخلوق الجميل وابحث في الجوجل عنه وانا الان احبه اكثر وربما جعلت بعض من اصدقائي أن يغير رأيهم في هذا المخلوق الليلي.

  • سلام أنا دخلت ألي منزلي بومة ووجدها أبني في دوش خاف منها وأخرجه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى