الثلاثاء ١١ آذار (مارس) ٢٠٠٨
الروائي أحمد علي الزين في حوار مع السفير اللبنانية:
بقلم عناية جابر

التقنية الروائية تأتي من إيقاع المكان

أحمد علي الزين، روائي لبناني وإعلامي في المرئي حاليا والمسموع سابقا، كما صدرت له بعض النصوص المسرحية. أول أعماله الروائية منذ ما يقرب العشرين سنة هي «الطيون» بعدها، «خربة النواح» و«معبر الندم»، وجديده الآن عن دار المدى: «ثلاثية عبد الجليل الغزال» المشغولة بذلك التريث، والتأمل والنمنمة المعروفة عن الكاتب في أعماله كافة. في الثلاثية، القارئ أمام تجربة إنسانية بالغة الألم تتمثل في «السجن»، سجن الجسد داخل الجدران، وسجن الروح خارجه في العالم الكبير، وهي تكتمل في كتابين لاحقين، يعمل عليهما الكاتب حاليا، لبلورة فكرته تامة غير منقوصة.

 لماذا الانقطاع الطويل نسبيا عن كتابك الثالث «معبر الندم»، ولماذا «ثلاثية عبد الجليل الغزال» الآن؟
 بشكل عام أظن نفسي لست من الكتاب الغزيري الإنتاج. من ناحية ثانية، وكما هو معلوم، العمل الإعلامي بخاصة منه العمل التلفزيوني، يسرق الكثير من الوقت، ويضع الكاتب في حالة من التأجيل لفكرة أو مشروع كتابي قد يكون أمامه على الطاولة، لما يتطلبه هذا النوع من العمل التلفزيوني من جهد وتفرغ وبحث وقراءات لكي تقدمي عملا تلفزيونيا بالحد الأدنى من المسؤولية والاحترام للآخرين أو للمبدعين الذين أحاول قراءة بعض تجربتهم وحياتهم. وكما تعلمين في برنامج «روافد» أقوم بالعمل منفردا تقريبا إعدادا وإخراجا وتقديما، والبرنامج يتطلب دائما أسفارا. هذه العوامل مجتمعة تهدر هذا الوقت، لتبقى فكرة عمل الروائي أو نص ما محمولة في المخيلة أو على الورق وتسافر معك هنا وهناك.
من جهة ثالثة، أنا من الناس الذين يتهيبون كثيرا أمام أي عمل حتى لو كانت ملامحه ناضجة، وهذا أيضا يجعلني غير غزير في الإنتاج.

 هل الاستسلام للعمل البصري كما تهيبك، يتغلبان أحيانا على نزعة الكاتب فيك رغم أعمالك الناجحة والمقروءة جيدا؟
 بتقديري ان ليس من الضرورة أن تتجلى نزعة الكاتب في إنجازه لنص ما، واضح، قد تنصرف وتتوزع هذه النزعة في السلوك أحيانا وفي علاقتك بالحياة والآخرين، في جلسة سمر، أو في لقاء مع صديق وفي الشوق غير المعلن، وقد تنصرف في عملية تقديمي للكتاب والمفكرين والفنانين بحيث تتضمن قراءتي لتجربتهم بصريا أو تتطلب نوعا من الكتابة التي في مستوى منها كتابة صحافية أو نقدية، وفي مستوى آخر تتضمن شيئا من الكاتب نفسه أي مني شخصيا.

 كيف ترى الى الكاتب الأجنبي تحديدا، المحترف الى حد الذي يعتبر أوقات الكتابة يومية ومقدسة حتى لو لم يكتب جديدا؟
 هذا الأمر لا يقتصر على الكتّاب الأجانب. هناك كثير من الأصدقاء الكتّاب العرب قد نظموا أوقاتهم بشكل يرضي الكاتب الذي فيهم أو المبدع، ولا يخسرون عملهم الآخر إن كان في الصحافة بأنواعها كافة. بالنسبة لي شخصيا، كلما حاولت أن أجد وقتا كما سميته مقدسا أخصصه للكتابة الروائية، يتغلب عليه الجانب الآخر في سعيي اليومي الذي يتطلب تنقلا في الأمكنة والمدن. واذا كنت صادقا بشكل أدق ربما أنا كسول أحيانا، وربما قد أكون أتذرع بمشاغل تلهيني عن الكتابة.

 في قراءتي لعملك الجديد عن دار «المدى» قد أكون، في قراءة خاصة، قاربت ما يشبه الهروب العبثي، الوجودي، السارتري تحديدا في عملية أو رحلة أو متاهة عبد الجليل الغزال خارجا عن أفقه الضيق في السجن. ماذا تريد القول في متاهة ماضية وحاضرة؟
 في البداية فكرة هذه الرواية، كانت ملحاحة عليّ عند نهاية «معبر الندم»، وبدأت فيها منذ أكثر من عشر سنوات. وكنت أؤجلها وأعيد القراءة، ربما لأنني أمام تجربة إنسانية شديدة الألم، وقد قاربها بعض الكتّاب عربا وأجانب وهي «فكرة السجن». كما تعلمين قصة عبد الجليل الذي وجد نفسه في سجن «صحراوي» دُمر وقُتل كل من فيه ليبقى وحيدا، حيا، فوق هذا الركام والحطام البشري، مفتوحة أمامه الجدران وأبواب السجن التي أذراها القصف، متاحة أمامه الحرية، ولكن ما معنى الحرية في الخلاء المطلق في هذا الصمت اللامتناهي الممتد أمام هذا الركام والحطام، والى أي الجهات يسعى عبد الجليل وهو في حالة ما بين النسيان والتذكر، ما بين الغياب والحضور. ويسأل نفسه الى أين يمشي وأي جهة يقصد حيث لا جهات محددة في تلك اللحظة المكثفة التي تشبه العدم.

المكان

 هل وحشة عبد الجليل في متاهته أثقلت عليك ككاتب فاستعنت بكائن هو صاحب عبد الجليل في متاهته، رفقة الكلب المؤثرة جدا في الرواية التي أضافت الكثير. كيف تراها؟
 قبل الإجابة أريد إكمال فكرة ما، كان على عبد الجليل في تلك اللحظة التي ذكرت أن يمشي حتى في عرجه ونقصانه. بطبيعة الحال، وكأن الذي يمشي فيه هي تلك الرغبة الدفينة في الحياة وفي البحث عن خلاص، وكانت إشارات تذكره على الدوام بأن حياة مرت من هنا، وانتهت في مكان آخر، بقايا آدمية، فردة حذاء أحيانا، خصلة من شعر، كتاب تلعب في أوراقه النسائم يذكره هذا الكتاب بنزيل معه كان في السجن. أشياء كثيرة أخرى الى أن انبثقت أمامه شجرة السدر ليستريح بعد نهار ويأخذه النعاس ويحلم بحبيبته في بيروت في وادي أبو جميل. في تلك اللحظة ظهر عليه أو أحس بنفس قريب وكان كلب السجان. هنا، تبدأ حكاية عبد الجليل الغزال بمستوياتها الإنسانية والوجودية، وتبدأ ذاكرته تفتح على بعض مشاهد الماضي، وتبدأ تلك الصحبة على شيء من التوجس في البداية، حيث لم ينس أن هذا الكلب كان قد حوّل في السجن الى ذئب، ولكن في هذه المتاهة وهذا الهباء يبدو أن كليهما بحاجة الى أن يعود الى طبيعته، الى حقيقته.

وإذا سألت في بداية الحوار عن المستوى الوجودي وشيء يذكرك بسارتر، ماذا يسع الإنسان وحيدا عاريا تماما في كامل وحشته، أن يفعل أمام تجلي العدم وتحققه بشكل ملموس، في امتداد تلك الصحراء التي لا تؤدي إلا الى سؤال عن معنى الحياة، معنى الحرية، معنى الوجود بحد ذاته. وبمستوى آخر قد نجد في عبد الجليل الغزال ان الكثير أو القليل منه موجود فينا نحن الذين نتمشى ونتسكع ونحاول الحياة في بلاد وأوطان تشبه السجون، أو هي سجون «محببة» أكثرها ضيقا ورعبا تلك السجون الفكرية التي نحشر فيها وأجيالنا لتبقى على حافة الحياة ومعناها الانساني مستعدة على الدوام للوقوع في الخرافة والغيب، وهذا هو البؤس بعينه.

 رغم اعتنائك التام باللغة، الجملة عندك قصيرة وذات منحى دال وكثيف. هل تعمدت هذه التقنية أم هي تماهت مع موضوع الرواية؟
 أولا، يتضح عند قراءة الرواية أن بطلها هو على علاقة باللغة وعلى علاقة باللغة شاعرا، بمستوى آخر لا أظن أن كاتبا يتعمد تقنية أو أسلوبا عند كتابته أو عند انخراطه في نصه. التقنية تأتي من إيقاع المكان، من امتداده وصمته، من شدة وضوحه وغموضه في آن، تأتي من طبيعة الشخصية وتكويناتها النفسية والثقافية والجسدية أيضا. ولا أعتقد أن أحدا حين يقع في متاهة من هذا النوع وبهذه القسوة يستفيض في السؤال، أو في النداءات الخفية لشيء ما. هي جُمل تشبه عرجة واضحة محددة مكثفة. يكفي أن يقول مثلا «عندما بان هذا العدم أمامي ارتعشت» وعلى القارئ ربما، أن يعيش تلك الحالة من الذهول والخوف أمام هذا المدى والمجهول، وأيضا أمام الحرية غير المكتملة على الإطلاق.

 لاحظنا كثرة الأمثال وأبيات الشعر أحيانا. هل هذا توكيد على عبد الجليل كشاعر، أم هو حنين الى المكان وشواهده عبر تأكيد محليته في هذه الأقوال والأشعار؟
 لغة عبد الجليل الغزال، وأمثاله وذاكرته عامة، هي تكوين أو مزيج من مصادر شتى ومختلفة. اذ هو العراقي ابن تلك القرية في مكان ما، التي غادرها طفلا مع أبيه وأهله لتمحى من الوجود، وبالتالي هو وريث حكايات جدته الأرمنية التي كثيرا ما يشبه مصيره مصيرها، يوم غادرت قريتها وحيدة بعد مجزرة وانضمت أو اشترتها قافلة. وهو أيضا وريث تجربته اللبنانية في وطنه الثاني تلة سليمان، ووريث تجربة بيروت في حروبها، وريث حالات أو يختزن في وجدانه سنوات طويلة من متاهات مشابهة أقل قسوة أو أكثر لا أدري، حين غادر تلة سليمان بعد حادثة حبه الأول المنتهي بمأساة وحريق التهم بيت أهل حبيبته ووريث غناء أمه وجدته، ويختزن أيضا في ذاكرته ويساهم في تكوينه تلك التجربة في بيروت التي انتهت باختطافه من حضن الآخر، هو حضن هدى حبيبته التي كانت عمياء، واقتياده ليبقى حوالى ربع قرن في سجنين. وفي ذاكرته أيضا أولئك الذين عرفهم في السجن، سجناء وسجانين، كل هذه المصادر كونت ملامح عبد الجليل الغزال في عزلته ومتاهته. وعندما وصل ولا يدري كيف وصل الى قريته الأولى «وادي الدموع» بدأت تلك الذاكرة تفتح شرفاتها أو ستائرها على عالمه الأول الذي هو أيضا كثيف في تشكله. فأول مشهد تفتح عليه عبد الجليل هو مشهد اقتياد أخيه الى قفص في قلب الصحراء ليُغتال من كلاب مسعورة. كل هذه المشاهدات والحيوات التي عاشها عبد الجليل، تؤكد حضور هذه الشخصية بكثافتها الإنسانية وتشير الى أبعادها ومصادرها في الأمكنة.

 ثلاثية تعني مباشرة ان ثمة استكمالا روائيا كي يكتمل مشهدك في الذاكرة والخيال والواقع اذا شئت. ماذا بعد كتابك هذا؟
 أولا أريد تأكيد شيء وحيد، هذا النوع من الكتابة قد يظنه البعض هو نتيجة تجربة شخصية يؤرخ لها روائيا. هي بمستوى ما، لا تستطيعين إلا القول إنها تجربة شخصية لأن تجاربنا الشخصية تختزن في عمقها تجارب إنسانية مختلفة. نحن محصلة لهذه التجارب على مستوى الذاكرة وعلى مستوى الواقع الذي نعيشه.

على مستوى الذاكرة، هذه النصوص تبدو مفتوحة على آفاق وأمكنة لا متناهية لأنها تدخل في باب لا يشبه الرحلة، حتى لو كانت رحلة قاسية لسجين في متاهته، ورحلتنا في الوجود والحياة هي بالتأكيد رحلة لا أحد يعرف بدايتها ولا نهايتها، مشرعة على هذا الكون. عليّ أن أضبطها في سيرة عبد الجليل كي لا تتشتت هذه المتاهة وتضل هدفها بعد أن اتضح انه يسير باتجاه العودة. والعودة قد تكون الى الإنسان في إنسانيته، الى الحرية بظلالها الرحومة والى ما تبقى من أهله، الى ما تبقى من الأمكنة.

على مستوى الواقع. هذا المشهد الذي تتحدثين عنه يقارب الواقع بمقدار، إنما للمخيلة الحصة الأكبر لأنني على يقين تام، أنه لو كان عبد الجليل شخصية واقعية بكامل حضورها لكان هو الذي قص علينا حكايته كما يزاول عبد الجليل غزال عرجه، شعاره الأعلى «إذا ضاقت بك الدنيا فسر»، عليّ ككاتب أن أزاول محاولتي في تخليص عبد الجليل من أفخاخ المتاهة والعزلة والوحشة، ربما كي أخلص نفسي. لذلك، سيكون لعبد الجليل الغزال سعي في كتابين لعلي أصل به وأصل بي الى مطرح يتسع قليلا للانسان، للناس الممتلئين بالشوق والحب والصفاء والرحمة. لعلنا نسهم ولو قليلا أن نبلغ وجعنا في هذه الدنيا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى