الجمعة ٢ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٠
بقلم صلاح السروي

الثقافة المصرية بين عهدين

الأوضاع الثقافية فى مصر منذ ثورة يوليو 1952 حتى نهاية عصر مبارك.

لقد ارتكز النظام السياسى، فى الحقبة الناصرية، على أساس شعبى واسع, تمثل فيما سمى ب"تحالف قوى الشعب العامل"، المتكون فى الأساس من قادة الاتحادات العمالية والفلاحية, وممثلى الطبقة الوسطى، من كبار رجال الادارة وقادة الجيش وأجهزة الأمن. وعلى الرغم من أن الغلبة، فى هذا التحالف، كانت لكبار البيروقراطيين ورجال الأمن، فلقد كان التعبير السياسى، لهذا النظام، يتواءم بوضوح، مع المطالب والاحتياجات الشعبية الأوسع انتشارا. فى ما يتعلق بتأمين الحقوق الأساسية، المتمثلة فى العلاج والتعليم والعمل والسكن، الى جانب مكاسب هائلة للعمال والفلاحين. تمثلت، على سبيل المثال، فى منع الفصل التعسفى والمشاركة فى مجالس ادارات الشركات، وتوزيع أراضى الاقطاع المصادرة على الفلاحين ورعاية انتاجهم عبر مروحة واسعة من الجمعيات التعاونية، الى جانب النص فى الدستور على أحقية العمال والفلاحين بنسبة 50% من أية مجالس منتخبة .. وغير ذلك من المكاسب التى زال معظمها الآن.
وجاء ذلك، فى اطار مشروع نهضوى شامل، طال مختلف الصعد الاقتصادية والصناعية والعلمية والتعليمية والصحية .. الخ. فانتشرت المدارس والمصانع والوحدات الصحية فى القرى والنجوع (تلك التى لم تطلها يد الحضارة والتقدم منذ آلاف السنين). فضلا عن تضاعف أعداد الجامعات والمعاهد العليا وانتشارها، جغرافيا، على كل ربوع مصر. مما كان له من آثار تطورية شاملة، على مختلف مناحى الحياة فى بلدنا.
ولقد كانت الثقافة أحد أهم الرابحين من هذه الوضعية النهضوية الشاملة.
فكان لانتشار التعليم، ذى الأفق الوطنى التحررى، دور مهم فى توسيع قاعدة المتعاطين مع الثقافة الجادة والمستهلكين لها, والملتحقين بقافلة المنتجين لها من الشعراء والكتاب والفنانين .. الخ.
كما تميز النظام الناصرى بانتهاجه وجهة تتسم بالسماحة الفكرية والايديولوجية, والانفتاح المعرفى الذى يتعامل مع جميع الاتجاهات، فى مجال الفكر، دون حساسية. فهو، وان اختلف مع الشيوعيين، فانه لم يصادر افكارهم ولا كتبهم. وكذلك الحال مع الاسلاميين. فعلى الرغم من العداء الواضح بين النظام وجماعة الاخوان، فقد تمتعت كتابات غلاة الاسلاميين بالاتاحة والحضور فى المشهد الثقافى المصرى. بل انه أنشأ اذاعة القرآن، وكان للأزهر حضوره وكلمته على الدوام، حتى ان النظام لم يجرؤ على مخالفته عندما منع نشر رواية "أولاد حارتنا" (وكانت تنشر مسلسلة فى جريدة الأهرام) عام 1959 ، وانطبق هذا الموقف مع جميع الاتجاهات دون استثناء. أو باستثناءات لا تكاد تذكر. وكثيرا ما تدخل عبدالناصر بشخصه لنشر رواية أو اجازة فيلم سينمائى فى مواجهة قرار الرقابة بالمنع.

ويمكن أن تعزى، تلك "السماحة الفكرية"، بأن النظام لم يقم منذ بدايته على "أيديولوجيا" محددة أو واضحة المعالم. الا اذا اعتبرنا أن "المبادىء الستة"، أعلنت فى بداية قيام ثورة يوليو، تمثل توجها فكريا أو ايديولوجيا معينا، بيد أنه توجه بالغ العمومية والاتساع. وحتى عندما تبلورت بعض الملامح الايديولوجية للنظام الناصرى مع ظهور كتاب "الميثاق الوطنى" 1962، فانه لم ينص على نحو قطعى على الانتماء أو العداء لأى من الاتجاهات الفكرية السائدة. فهو أعلن تبنى نهج "الاشتراكية العلمية", ولكنه لم يتحول الى الشيوعية، بل أسماها بالاشتراكية ذات السمات العربية. وهو تبنى الوجه التقدمى المستنير للتراث العربى الاسلامى، ولكنه لم يمنع كتابات أصولية واضحة مثل كتابات العقاد أو الشيخ محمود شاكر أو كتابات كثير من رجال الأزهر.
لقد كان لهذا النهج دور بالغ الأهمية فى اشاعة جو من الرحابة الثقافية، التى أتاحت فرصة التواجد الحر لمختلف المدارس والاتجاهات الفكرية والمذاهب الأدبية والانتماءات الايديولوجية, على حد سواء. فتواجد أبناء اليسار الماركسي الى جانب من يتبنون الفلسفة الوجودية، الى جانب مثقفى اليمين السياسى والدينى، كتفا بكتف، دون انحياز (واضح) من الدولة، مع أو ضد، أى منهم. (اللهم الا اذا صدرت كتابات تعادى النظام على نحو مباشر) فتواجد فؤاد حداد ومحمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس ويوسف ادريس وعبدالرحمان الشرقاوى وفؤاد زكريا وصنع الله ابراهيم ورجاء النقاش ونجيب سرور ولويس عوض وغالى شكرى .. الخ ، جنبا الى جنب مع ثروت أباظة وتوفيق الحكيم وعباس العقاد وعلى الجارم ومحمد عبد الحليم عبدالله واحسان عبد القدوس و مصطفى صادق الرافعى, وعبدالحميد جودة السحار .. حتى سيد قطب (قبل تحوله نحو الفكر الارهابى). كما تواجد كل هؤلاء بالتجاور مع زكى نجيب محمود وعبدالرحمان بدوى ونجيب محفوظ وميخائيل رومان وصلاح عبدالصبور واحسان عبدالقدوس ويوسف السباعى وأنيس منصور.. الخ.

وشكل، هؤلاء جميعا، المشهد الثقافى المصرى، فى تلك الحقبة. وهو الذى كان (بسبب ذلك على التحديد، الى جانب رعاية الدولة للانتاج الثقافى) فى أوج تألقه وثرائه الباذخ.
وتطلب الشروع فى تحقيق الأهداف السياسية التقدمية والتحررية للنظام الناصرى، فى مواجهة الامبريالية والرجعية، ضرورة بعث حركة ثقافية وطنية تحررية ومستنيرة، (دون معاداة باقى الاتجاهات الثقافية). مما أدى الى توفير دعم معنوى ومادى كبير من الدولة للخطط والمشروعات الثقافية. مما جعل القاهرة عاصمة للثقافة العربية وربما لثقافة الشرق كله، بحق، وفى كافة المجالات.

فعلى مستوى الدوريات، كانت جريدة "المساء", معقلا للثقافة التقدمية ورأس تحريرها واحد من ألمع وجوه اليسار، وهو الراحل خالد محى الدين. وعلى غرارها كانت مجلة "الطليعة" القاهرية، التى كانت تصدر عن جريدة الأهرام، والتى كان آخر رؤساء تحيرها الكاتب الكبير الراحل لطفى الخولى. وكانت مجلة "الفكر المعاصر"، التى كانت تصدر عن هيئة الكتاب، ورأس تحريرها المفكر الدكتور زكى نجيب محمود. وكانت مجلة "الكاتب"، التى رأس تحريرها أحمد حمروش ... وغير ذلك من عشرات الاصدارات الدورية، التى كانت مدرسة كبرى للثقافة والمعرفة لكل قطاعات المجتمع وفئاته وشرائحه الاجتماعية المختلفة.

كما كانت النهضة الشاملة فى مجال النشر التى توزعت على عدد كبير من دور النشر، منها: "الهيئة القومية للطباعة والنشر" التى سميت فيما بعد باسم "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، التى عدت أكبر ناشر فى العالم العربى، و"دار الشعب" و"دار التعاون" ودار المعارف" .. الخ. وهى تلك الدور التى أصدرت عددا هائلا من السلاسل، لعل أشهرها سلاسل: "اخترنا لك"، التى انقسمت الى : "اخترنا للعامل"، و "اخترنا للجندى"، و"اخترنا للفلاح" .. الخ. وسلسلة "من الشرق والغرب"، وسلسلة "من الفكر السياسى والاشتراكى", وسلسلة "نوابغ الفكر العربى"، و"نوابغ الفكر الغربى" .. الخ
كما نشطت حركة الترجمة بشكل لافت بقوة، فظهرت سلسلة "الألف كتاب" الأولى عام 1955. برئاسة تحرير د. طه حسين. وغير ذلك فى مختلف المجالات، وبخاصة مجالات الأدب والفكر والسياسة والاقتصاد.

وكانت النهضة المسرحية العملاقة وازدهار الفن المسرحى فى مصر بصورة لم تشهدها فى تاريخها، (لا من قبل ولا من بعد). وكذلك الأمر بالنسبة للسينما والنشر والفن التشكيلى والفنون الشعبية, فضلا عن انشاء المعاهد والأكاديميات الفنية .. الخ. و"الهيئة العامة للثقافة الجماهيرية"، اتى تغير اسمها الى "الهيئة العامة لقصور الثقافة"، وتتبعها قصور وبيوت الثقافة فى معظم مدن وقرى مصر. فظهرت لدينا كوكبة من العمالقة وأصحاب الأسماء الكبيرة اللامعة فى كل المجالات, لازلنا نتزود بانتاجهم ونقتات على ما فاضت به قرائحهم، حتى الآن.
والأهم من كل ذلك، فقد كان لاهتمام رأس الدولة (الرئيس عبدالناصر) بالثقافة والفنون الدور الأكبر فى تشجيعهما الى أقصى درجة. فتم استحداث تقليد الاحتفال ب "عيد العلم والفن"، الذى كان يعقد سنويا بتكريم رموز المثقفين وتقليدهم الأوسمة والنياشين ومنحهم الجوائز، فضلا عن استحداث "جوائز الدولة" و"منح التفرغ".

سلطة انقلاب مايو 71

ومع تولى أنور السادات للسلطة فى عام 1970. وبخاصة، بعد توطيد أركان سلطته بالاطاحة برجالات الحكم فى زمن عبدالناصر، الذين أطلق عليهم السادات اسم "مراكز القوى" فى الخامس عشر من مايو 1971، تم تغيير هذا التحالف الطبقى الحاكم، الى تحالف الشرائح العليا من البرجوازية البيروقراطية مع كبار الرأسماليين من رجال الأعمال. وهو ما نشأ عنه ما سمى فى الأدبيات السياسية والاعلامية ب"زواج السلطة والمال".
لقد نجمت هذه التحولات عن الاتجاه نحو سياسة الانفتاح الاقتصادى الرأسمالى التابع, والذى بدأ رسميا مع سن قانون الاستثمار والمناطق الحرة عام 1974, مما أدى الى تشكل طبقة جديدة ممن يسمون ب"أغنياء الصدفة" وهم أولئك الذين يتكونون, فى معظمهم من التجار والمقاولين والسماسرة، الذين تمكنوا من الاستفادة بقوانين الاستيراد ذات القيود المخففة, والميزات الممنوحة للشركات الاستثمارية التى وصلت، تقريبا، الى حد الاعفاء من الضرائب، لمدد تتراوح بين خمس وعشر سنوات. جنبا الى جنب، مع ظهور موجة كاسحة وخانقة من الفساد والتربح واستغلال النفوذ على كل المستويات. فتم عقد الصفقات المشبوهة السريعة، والتى وصلت أرباحها الى مئات الملايين، على نحو غير منطقى أو عقلانى. وتم اخضاع كل شىء تقريبا لقانون التجارة, بدءا من التجارة فى مستلزمات البناء واعادة الاعمار لمدن القناة المدمرة، مرورا بطعام الحيوانات الأليفة، والشيكولاتة واللبان ورقائق البطاطس (الشيبس)، والمخدرات، وانتهاء بأسوأها جميعا، ألا وهو التجارة فى الضمائر والاخلاق والأديان.

وهو ما أدى الى تراكم سريع وهائل لرؤس الأموال لدى رموز هذه الطبقة اللقيطة، الذين جمعوا، مع الجهل التعليمى، الفساد الأخلاقى والخواء الروحى. فظهر، على سبيل المثال، ما يمكن أن نطلق عليه "ظاهرة المليونيرات (المجرمين)", الذين ارتكبوا أفعالا جرمها القانون الجنائى العام وأدانها القضاء، مثل التجارة فى المخدرات، أو اللحوم الفاسدة، أو أكياس الدم الفاسد !!!، أو قتل العشيقات، أو تزوير الانتخابات .. الخ. فضلا عن كل أشكال الفساد التى باتت تزكم الأنوف.
كما انغمس آخرون فى عمليات صنع الفساد والابتذال والسفه، التى أطاحت بمفاهيم "القدوة" و"النموذج" و "المثل الأعلى", تحت مسمى "الانتاج" السينمائى والمسرحى. مما أدى الى اضطراب البنية القيمية لدى أجيال متتابعة من الشباب. فلقد كان منطقيا أن يستتبع هبوط الثراء المفاجىء على هذه الشرائح، دون جدارة أو استحقاق من أى نوع, وهم على هذا المستوى من التكوين الفكرى والأخلاقى البائس, تغير فادح فى أنماط استهلاكهم وسلوكياتهم الحياتية. حيث عمدوا الى انتاج واستهلاك أحط ألوان الفنون وأكثرها تفاهة وابتذالا، وأقلها جمالا وعمقا وانسانية، فظهرت أفلام المقاولات الرخيصة، وموسيقى المواخير وعلب الليل، ومسرحيات "الفارس" والكوميديا المبتذلة، .. وتراجعت باقى الفنون والآداب, لأنهم ببساطة لايتذوقونها ولا يستهلكونها وهم الطبقة السائدة القادرة على شراء المواد الفنية وتمويل انتاجها. وبالتالى تم تحويل الفنانين الى ما يتوافق مع ذوقهم. مكرسين الازدراء والنفور من كل ماهو جاد وعميق من ألوان الثقافة.
وكما استهلكوا وشجعوا انتاج "الثقافة المنحطة"، أخذ استهلاكهم المادى طابعا ترفيا سفيها ومبالغا فيه، بصورة مستفزة لباقى الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى. سواء تلك التى يعتمد رزقها على الدخول الثابتة مثل الموظفين، أو التى يعتمد رزقها على سوق العمل غير الثابت، مثل العمال والحرفيين, أو التى يعتمد رزقها على فلاحة الأرض من القرويين الذين لم يتذوقوا فى حياتهم الا طعم الشقاء والمعاناة. واذا أخذنا فى الاعتبار أن البلاد كانت قد خرجت لتوها من حرب ضروس استمرت لوقت ناهز السنوات السبع (من 1967حيث العدوان فى الخامس من يونيو، حتى 1974 حيث اتفاقات الكيلو 101، وبداية التوجه السياسى والاجتماعى الارتدادى الجديد). اذا أخذنا فى الاعتبار كل هذه الظروف، يمكننا أن نتصور مدى نمو مشاعر الاستفزاز والاحباط وخيبة الأمل لدى جموع الشعب المصرى، بمختلف طبقاته (الوسطى والكادحة). مع التأكيد على أن هذه الطبقات الشعبية (الدنيا والوسطى)، هى التى دفعت كل الأثمان الممكن (وغير الممكن) تصورها. سواء، فى سنوات البناء أو سنوات الحرب، من شهداء وجرحى ومهجرين وأيتام وأرامل.
لقد كانت النتيجة الطبيعية والمنطقية لمجمل هذه السياسات الاقتصادية هى تراجع المستوى الاجتماعى والاقتصادى للطبقة الوسطى، حتى أوشكت هذه الطبقة على التلاشى والنزول الى مستوى الطبقات الكادحة. واذا علمنا أن أبناء تلك الطبقة الوسطى المتعلمة هم الأكثر تعاطيا للثقافة، انتاجا واستهلاكا، فانه يتضح لنا مقدار الضربة التى تعرضت لها الحركة الثقافية المصرية (الى جانب العوامل الأخرى، بالطبع).

ومن نوافل القول أن الطبقات الكادحة قد تراجعت، بدورها، الى مستوى خط الفقر أو مادونه، فى أحايين كثيرة. مما أدى الى تضييق مساحات التلقى والانتاج الثقافى الى أدنى درجاته. فى مقابل النمو المرعب لمعدلات الغنى غير المشروع، والاثراء الفاحش الذى تم ذكره آنفا. وذلك بفعل الفساد الذى بلغ من قوته، أن اضحى من القواعد المسلم بها، فلم تعد تلقى الاستهجان ولا الاستغراب، ناهيك عن المقاومة. فشاع هذا الفساد فى الحياة الاقتصادية والادارية الحكومية وشركات القطاع العام. وتلك الأخيرة (أى الشركات) هى التى تم نهبها وتخسيرها عمدا، تمهيدا لبيعها بأبخس الأثمان. وذلك، بعد قليل من بداية عهد مبارك، الذى واصل طريق سلفه، وانغمس بكليته فى حمأة ما يمكن تسميته ب"متلازمة الفساد والاستبداد والتبعية"، فكان كل ركن من أركان هذه المتلازمة يمثل شرطا لوجود الآخر، وحارسا له، وداعما لاستمراره.
ازاء هذا التدمير الاجتماعى – الاقتصادى – الثقافى، كان حتميا اتخاذ القمع والبطش بالمعارضين السياسيين طريقا وحيدا لمجابهة كل أشكال النقمة والاحتجاج التى يمكن تصور حدوثها فى وضع كهذا.

ولقد ظهرت نتائج البوادر الأولى لهذه الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخانقة، ونتائج هذا القمع والبطش المصاحب لها، فى انتفاضة الثامن والتاسع عشر من يناير عام 1977، والتى أتصور أنها كانت بمثابة ال"بروفة جنرال" للثورة الاجتماعية الديمقراطية الكبرى فى الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، والتى لم نخرج، بعد، من أجوائها، حتى هذه اللحظة.
واذا أضفنا الى ذلك ماقترفه رأسا هاتين الحقبتين (السادات ومبارك)، من انغماس حتى الأذقان، فى مستنقع التبعية للامبريالية (الأمريكية، خاصة، والغربية، عامة)، والتآمر على حركة التحرر العربية، وبخاصة ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية، ذلك الذى بلغ أوجه فى اتفاقيات العار، فى كامب ديفيد، وما نجم عن ذلك من اضطهاد واقصاء لكل المعارضين السياسيين والمثقفين (لاحظ نموذج حبس مجموعة كبيرة من رموز السياسة والثقافة فى الخامس من سبتمبر 1981)، وتسليط الاخوان ورجال الدين على رقاب المثقفين والفنانين، فعلى سبيل المثال لا الحصر، كان (الشيخ يوسف البدرى) يكاد يكون متخصصا فى ملاحقة المثقفين والفنانين بدعاوى الحسبة، وكاد الأزهر أن يكون متخصصا فى مصادرة الكتب والأعمال الفنية التى لاتروق لذوق مشايخه، تماما كما كاد (الشيخ كشك) أن يكون متخصصا فى التشهير بالفنانين والدعاء عليهم كل صلاة جمعة. حيث نجحوا بالفعل فى منع عدد من الأفلام ومصادرة أعداد من الكتب، بل الزج ببعض الكتاب فى غياهب السجون .. وقتل الدكتور فرج فودة، والحكم بتطليق (ردة) الدكتور نصر حامد أبوزيد .. الخ. لو أضفنا كل ذلك لحصلنا على نموذج التردى والسقوط متعدد الملامح والأركان.
وعلى الرغم من كل ذلك ظل المثقفون يشكلون صداعا لا يتوقف ولا يهدأ فى رؤس الحكام من خلال حراكهم وبياناتهم ومقالاتهم, فكان ضروريا التخلص منهم، ماديا ومعنويا، فى الآن ذاته.
وقد مر بنا كيف أنه قد تم التضييق على المثقفين باغلاق مجلاتهم (تم اغلاق مجلات "الكاتب" و"الطليعة" و"الفكر المعاصر", كما تم تفريغ مجلة "روزاليرسف" وجريدة "المساء"من محتواهما التقدمى) واظلام مسارحهم، وحرمانهم من أى اهتمام رسمى، وصولا الى القبض عليهم وايداعهم السجون.

وهو ما أدى الى هجرة الكثيرين منهم الى بعض البلاد العربية أو الأوربية, فارتحل د. غالى شكرى ود. نوال السعداوى والكاتبة صافيناز كاظم والشاعر محمد عفيفى مطر والمفكر والناقد أحمد عباس صالح .. وآخرون، الى بغداد. كما هاجر عدلى فخرى وسمير عبد الباقى وآخرون الى دمشق. وهاجر محمود أمين العالم وميشيل كامل وأحمد عبد المعطى حجازى، وآخرون، الى باريس. وهاجر محمد عبد الحكم دياب وشريف حتاتة وابراهيم فتحى، وآخرون، الى لندن. وهاجر الشاعر الدكتور حسن فتح الباب والكاتبة بهيجة حسين الى الجزائر, وهاجر رجاء النقاش وحسن طلب، وآخرون، الى قطر. وهاجر د. فؤاد زكريا, ود. أحمد زايد, ود. أحمد أبو زيد, والكاتب أحمد بهاد الدين, والروائى محمد المنسى قنديل, و القاص محمد المخزنجى, والمخرج زكى طليمات, وغيرهم، من خيرة أساتذة الجامعات والكتاب والفنانين الى الكويت .. وغيرها من بلاد النفط ... الخ الخ. ولا يستثنى، من ذلك، ذوى الصنعة والمهارة من العمال والفلاحين والحرفيين ... الخ الذين هاجروا بدورهم الى بلاد النفط.

فاقتسمت المنافى كبار ورموز الثقافة الوطنية فى مصر. بل قل، أهم العقول والكفاءات. ففرغت الساحة، الا من رموز الثورة المضادة وأشباه المثقفين ومهرجى البلاط من محدودى الموهبة وذوى الزلفى .. أمثال رشاد رشدى وثروت أباظة وأنيس منصور، وآخرين، ممن لا أسماء لهم. فجف جزء مهم من عقل مصر وقلبها، وبدا أن البلاد قد دخلت فى فلك الأفول، من بعد الانطلاقة العارمة والآمال الباسقة والطموحات العراض التى عشناها فى زمن الثورة الناصرية.
ومع صمود بعض المجموعات، المتبقية، من المثقفين، على الرغم من كل ذلك، كان من الضرورى تشويههم واتهامهم بشتى الاتهامات, بدءا من الاتهام بالعمالة والارتزاق من العواصم الأجنبية (كان على رأسها موسكو وصوفيا (عاصمة بلغاريا) قبل سقوط الاتحاد السوفيتى وتفكك المعسكر الاشتراكى). مثلما حدث تحديدا مع عبدالرحمن الخميسى ومحمد حسن الزيات، على التوالى. فكان هذا الاتهام بالعمالة عنوانا جاهزا للتلفيق ضد مثقفى اليسار، بصفة خاصة. وصولا الى اتهام هؤلاء المثقفين بالجنون والشذوذ العقلى، أو دفعهم الى الجنون دفعا (نجيب سرور, مثالا) وهى حيلة فاشستية بامتياز.
وأنا أدعى، هنا، بأن هذا التحول والازورار عن الثقافة الجادة، وتشويه صورة المثقف، كان أمرا مقصودا وممنهجا ومعدا له سلفا، ولم يكن مجرد تداع عفوى للتحولات الرأسمالية الطفيلية، التابعة والتخريبية، التى ألمت بالمجتمع المصرى فى تلك الحقبة. وهى، لاشك، قادرة وحدها على ذلك, فما بالك لو ازدوج الأمران، معا.

ولذلك ظهرت الأفلام والمسلسلات والمسرحيات الرخيصة، التى صورت المثقف فى صورة المتوجس والمتخبط والساذج، المنفصل عن الواقع والناس، والمعقد نفسيا. كما شاهدنا، على سبيل المثال، فى فيلم "فوزية البرجوازية" 1985, الذى كتبه أحمد رجب وقام ببطولته صلاح السعدنى وسناء شافع واسعاد يونس. وشاعت فى غير ذلك من وسائل اعلامية، وحتى وقتنا الراهن صورة المثقف الذى يحمل كتابا بعنوان غريب، وغالبا "لا يستحم" !!! وتسبقه رائحته النتنة !!!! ويبدو غريب الأطوار !!!!، كما ظهر فى فيلم "السفارة فى العمارة" 2005، لعادل امام. انه هذا المثقف الذى غالبا ما يظهر، كذلك، متشدقا بالشعارات الضخمة والكلام الرنان، بينما هو نصاب وأنانى. كما فى مسرحية "سكة السلامة"، لسعد الدين وهبة، فى صيغتها القديمة التى عرضت بعد عام 67 ، ومؤخرا فى صيغتها الجديدة (سكة السلامة 2000)، التى قدمها محمد صبحى. وهى الصفة نفسها، التى رأيناها فى فيلم "الثلاثة يشتغلونها" 2010 ، بطولة ياسمين عبد العزيز، وكما فى احدى حلقات المسلسل الذى ربما لايزال يعرض على بعض القنوات حتى الآن بعنوان "عايزة أتجوز" 2010، بطولة هند صبرى ... الخ.
ومن هنا أخذت مظاهر الأزمة والتراجع ترين على جسد الثقافة المصرية تدريجيا، الى أن وصلت الى ما نحن عليه الآن، بحيث أضحى أحد كتاب الرواية الذى اتخذ من عوالم العفاريت والخزعبلات الميتافيزيقية والرعب .. وغير ذلك من ألوان الكتابة التجارية .. أضحى نجما توزع بعض مؤلفاته ما يزيد عن المليون نسخة. مما حدا بمجلة حكومية معروفة بالرصانة الى وضع صورته (منفردا) على غلافها، باعتباره نجم نجوم الرواية فى مصر !!!. بينما تراجعت مبيعات روايات نجيب محفوظ الى ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسخة فى العام !!!.

وعلى الرغم من تنشيط عمل المجلس الأعلى للثقافة منذ عام 1993 على أيدى د. جابر عصفور، وعقده لعدة فعاليات عربية ودولية، أهمها مؤتمر الرواية بجائزته ودوراته المتعددة. واصداره لأعداد مهمة من الكتب، وعلى الرغم من انشاء "المشروع القومى للترجمة"، ثم تحول الى "المركز القومى للترجمة"، وبروز جهوده النشطة على نحو ملحوظ،، وتغطيته لجزء مهم من المواد المتميزة التى يبحث عنها القارىء المصرى والعربى. وعلى الرغم من أن دار الأوبرا لاتزال تقدم فعالياتها المتميزة المنتظمة، (الى حد ما). ولا تزال بعض مسارح الدولة تقدم عروضا مهمة بين الحين والآخر. وعلى من استمرار تدفق الجمهور على "معرض القاهرة الدولى للكتاب"، الذى يعد بحق (عرسا ثقافيا) واحتفالية ابداعية وفكرية كبرى .. على الرغم من كل ذلك، فانه، كله، لايوازى، بأى حال، أقل نسبة مما كان عليه حال الثقافة فى العهد الناصرى. ولذا، لم تستطع الثقافة المصرية استعادة ريادتها ولا قوة تأثيرها، التى تمكنت مراكز ثقافية عربية أخرى من اختطافها.

أما عن الأوضاع الحالية، فهى، حتى الآن، لاتزال تسير وفق المنظومة الساداتية المباركية السابقة, فلا تزال هذه الثقافة تعانى من اعتلال واضح. ولا يزال للأزهر والدوائر الدينية دور كبير فى منع نشر كتاب أو مصادرته، أو حبس كاتبه. ولا تزال حرية النشر مكبلة بقوانين وقيود رقابية متعددة. ولاتزال دور النشر الخاصة تنفرد بالنسبة الأعلى من سوق النشر بما يلقى بتبعة كبيرة على الكتاب والمبدعين، الذين يتعين عليهم المساهمة (رغم فقرهم) فى دفع تكاليف نشر ابداعاتهم. ولا يزال الكتاب محروما من دعم الدولة، فارتفعت أسعاره الى أرقام فلكية، لايقوى عليها الجمهور الحقيقى للقراء.

ولا يزال الانتاج السينمائى والتليفزيونى، فى مجمله، فى أيدى القطاع الخاص. الا اذا استثنينا دخول جهاز الشئون المعنوية التابع للقوات المسلحة، فى انتاج فيلم أو اثنين. كما لايزال النشر الحكومى يتحرك فى هامش ضئيل للغاية من سوق النشر فى مصر، بينما تنفرد دور النشر الخاصة بمعظم مواد النشر الثقافى. ولا تزال الهيئة العامة لقصور الثقافة تعانى ومعها كافة المنابر الثقافية الحكومية، من ضعف الميزانيات وسيطرة البيروقراطية. ولا تزال الدولة محجمة عن نشر أية خطة أو سياسة ثقافية واضحة المعالم.

وفى الأخير فاننا نأمل أن تكون الدولة (على الرغم من وضعيتها وانحيازاتها آنفة الذكر) قد وعت أهمية الدور الثقافى التنويرى والتقدمى. اذا كانت جادة، حقا، فى تسليح وتصليب وتنوير الوعى الجمعى المصرى، ضد كل أشكال الاستلاب والهيمنة، التى تحاول تحقيقها الجماعات الارهابية والدوائر الغربية والصهيونية، والدائرون فى فلكهم من قوى اقليمية. ولعل دعوة "تجديد الخطاب الدينى" التى أطلقها الرئيس، تصل الى مستوى تفعيل وتنشيط الفعل الثقافى التنويرى من خلال خطة شاملة لكى تستعيد الثقافة المصرية عافيتها، بعيد عن الرقابة الأمنية والدينية، اللذين لايزالان سيفا مسلطا على رقاب المثقفين حتى اللحظة.


مشاركة منتدى

  • تحليل رائع: جاد وصادق وهادف ودقيق.
    ممتاز: اسلوباً وسلاسة واتقاناً لغوياً ونحوياًً واملائياً!
    بقدر ما استمتعت بهذا المقال كلما زاد المي لوضع مصر الثقافي واللغوي الحالي!
    مصر وجميع الدول العربية اصبحت " أمة عربية بلا لغة" بسبب الازدواج اللغوي( التخاطب باللهجات العامية والكتابة والقراءة باللغة العربية الفصحى) وعدم اتقان الفصحى قبل سن السادسة. واضف الى ذلك عملية " التخوُّّّج" الفج باستخدام مفردات اجنبية اثناء التخاطب!
    سهير السكري، رئيس دائرة اللغة العربية بالنيابة بالأمم المتحدة سابقاً، بنيويورك؛ واستاذة في جامعات جورجتاون ونيويورك متخصصة في علم اللغويات.
    soukkarys@aol.com

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى