السبت ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
بقلم محمد زكريا توفيق

الثورة الأمريكية

في ليلة 18 أبريل عام 1775، سار 700 جندي بريطاني بصمت في ظلام الليل البهيم من مدينة بوسطن، متوجهين إلى بلدة كونكورد المجاورة. كانت الأوامر هي الاستيلاء على الأسلحة والذخائر المخزونة هناك.

لكن المستوطنين كانوا يعلمون بأن جنود الإنجليز قادمون. فور سماع هذه الأنباء، تم تعليق أضواء إشارة على أطول برج كنيسة في مدينة بوسطن. ثم قام اثنان، هما بول ريفير ووليام داويس، بالقفز فوق صهوة جواديهما، ويا فكيك. بأقصى سرعة ركضا فرسيهما واختفيا وراء الأفق في لحظات.

في قرية ليكسنجتون، اعترض البريطانيون سبعون رجلا من الميليشيات والمزارعين والتجار الأمريكيين. هذه المليشيات المؤقتة كانت تسمى الرجال الدقائق، لأنهم وعدوا بحمل السلاح في دقائق عندما يطلب منهم ذلك.

طلب البريطانيون من الرجال الدقائق العودة لمنازلهم. لكنهم رفضوا. بعد ذلك، سمع صوت طلقة نار، لا أحد يعرف من أين. إذا بطابور الجنود البريطانيين يطلق النار في آن واحد، فيسقط ثمانية من الأمريكيين قتلى. الطلقة الأولى هذه أصبحت تشير إلى بداية حرب الاستقلال الأمريكي.

بعد ذلك ببضع ساعات، وصل الجنود البريطانيون إلى كونكورد. في وقت لاحق، قاموا بتدمير بعض الأسلحة والبارود هناك. بينما كان البريطانيون يستعدون للعودة إلى بوسطن، تجمع أكثر من 100 من الرجال الدقائق. ومن الغابات الكثيفة على جانبي الطرق المؤدية إلى بوسطن، بدأوا يطلقون النار على الجنود البريطانيين، فقتل منهم 273 جنديا. وصارت بوسطن نفسها محاطة بالمسلحين الأمريكان.

في الشهر التالي، مايو عام 1775، عقد ثاني اجتماع للكونجرس القاري ب فيلادلفيا. وبدأ يعمل كحكومة وطنية أمريكية. فقرر إنشاء جيشا قوامه 17 ألف مقاتل، تحت قيادة جورج واشنطن.

جورج واشنطن كان من ملاك الأراضي، 5000 فدان، ورثها عن عائلته. كان أيضا في شبابه مساح يقيس حدود الأراضي، وله خبرة حربية من الحرب الفرنسية الهندية (1754–1763). أرسل الكونجرس أيضا ممثلين لهم يطلبون العون من الدول الأوروبية الصديقة مثل فرنسا، العدو اللدود لإنجلترا.

إعلان الاستقلال

مع حلول العام التالي، كان القتال قد انتشر إلى ما هو أبعد من ولاية ماساتشوستس. ثم تطور القتال إلى حرب شاملة. في 2 يوليو عام 1776، اتخذ الكونجرس القاري أخيرا الخطوة التي يعتقد العديد من الأميركيين أنه لا بد منها. قطعت جميع العلاقات السياسية مع بريطانيا، وأعلن أن "هذه المستعمرات متحدة، يجب أن تكون حرة ومستقلة. بعد ذلك بيومين اثنين، صدر في 4 يوليو عام 1776، إعلان الاستقلال.

إعلان الاستقلال هذا، هو أهم وثيقة في التاريخ الأمريكي. لقد كتبها توماس جيفرسون. هو مالك أرض ومحام من فيرجينيا. بعد الإعلان بأن المستعمرات حرة مستقلة، أصبح اسمها رسميا الولايات المتحدة الأمريكية.

أحد أعضاء الكونجرس القاري، الذي وقع على وثيقة إعلان الاستقلال، هو جون هانكوك من ماساتشوستس. أمسك هانكوك بقلمه أو بريشته وكتب اسمه بحروف كبيرة واضحة. "كبيرة بما فيه الكفاية"، وهو يقول، "حتى يستطيع الملك جورج قراءتها بدون نظارته".

إعلان الاستقلال هو أكثر من مجرد وثيقة، تقول إن المستعمرات الأمريكية قد أصبحت الآن ولايات مستقلة. الإعلان يقول أيضا، إن الناس كلها، لها حقوق طبيعية في: "الحياة، الحرية، وطلب السعادة".

يقول الإعلان أيضا إن الحكومات لها الحق في حكم الناس، بعد الاتفاق مع المحكومين وأخذ موافقتهم. أي الموافقة والرضا عن الحكومة يأتيان أولا ثم الحكم. وليس العكس.

مثل هذه الأفكار، قد جاءت مع المستوطنين الأوائل من إنجلترا. فرؤساء المستعمرات كانوا قد درسوا أفكار وكتابات فلاسفة مثل جون لوك. وهو الذي قال بإن الرضا يأتي قبل الحكم.

أما جيفرسون، محام من أسرة عريقة، كان يعمل سفيرا من قبل لدي فرنسا، قام بمزج أفكار لوك وفولتير ورسو وكوندورسيه، بخبرته الخاصة في الحياة في أمريكا، لكي يأتي بتعريف جديد للحكومة الديموقراطية كما يجب أن تكون. وأن الحكومة يجب أن تتكون من أفراد منتخبة من الشعب. الهدف الرئيسي للحكومة في الأصل، هو حماية حقوق الأفراد المحكومة.

عندما قال جون آدمز: "أينما توجد الحرية، يكون وطني" أجاب توماس بين: "لا، بل أينما تغيب الحرية، يكون وطني" هذا جواب رجل بدون وطن. كان كفاحه من أجل الحرية يشمل ثلاث دول.

توماس بين كبريطاني، وضعت إنجلترا جائزة على رأسه. وكفرنسي، كان على وشك الطلب للمقصلة. وكأمريكي، انتهى به الأمر إلى عدة تهم. هذا هو الرجل الذي أعطى الولايات المتحدة اسمها. ومؤلف كتاب "حقوق الإنسان"، الذي بين أن للإنسان حقوقا طبيعية من الواجب الحفاظ عليها. ومؤلف كتاب "عصر العقل" الذي حارب به الخرافات الدينية، والذي فشلت كتب التاريخ في تقديره حق قدره.

تنبه توماس بين، قبل واشنطن وجيفرسون، بوجوب الاستقلال عن إنجلترا. وأصبح المتحدث باسم الولايات الأمريكية. كتيب الفطرة السليمة، بيعت منه 120 ألف نسخة في ثلاثة شهور. تبرع بحصيلة البيع لجورج واشنطن للمساهمة في تسليح جيشه.

قال مارلو الكاتب السياسي الكبير: "يرجع الفضل في الاستقلال الأمريكي إلى قلم توماس بين، وسيف جورج واشنطن. وثيقة إعلان الاستقلال الأمريكية، هي في الواقع أفكار توماس بين التي جاءت في كتاب "الفطرة السليمة".

كان توماس يطلب ويلح من جيفرسون أن تتضمن وثيقة الاستقلال، بندا ينص على إلغاء الرق. إلا أن هذا البند لم تمكن إضافته، بسبب معارضة ولايتي جورجيا وجنوب كارولينا.

رسالة الفطرة السليمة جعلته مشهورا. كان لها تأثير جبار على الرأي الأمريكي، وأعدت المسرح للاستقلال. كانت تقرأ في المزارع وعلى الحدود، وفي شوارع المدن. الضباط كانوا يقرأون بنودها لجنودهم.

بعد بعض الانتصارات المبكرة، كان أداء الجيش الأمريكي سيئا في الحرب ضد الجيش البريطاني. الجيش قبل قيادة واشنطن، كان عبارة شراذم مسلحة، أكثر من كونه قوة قتالية فعالة. القليل من أفراد الجيش كانت مدربة على القتال. الكثير منهم لا يصلح لمهمة تحرير الوطن. الضباط كانت تتشاجر باستمرار لنيل الرتب والمناصب والنياشين.

بدأ واشنطن بإصلاح الجيش. قام بالعمل على تدريب رجاله على السلاح والولاء والطاعة. لكن التدريب استغرق وقتا، أثناءه، كانت هزائم الجيش الأمريكي متوالية.

في سبتمبر عام 1776، وبعد شهرين فقط من إعلان الاستقلال، احتل البريطانيون مدينة نيويورك. كتب واشنطن إلى أخيه، إنه يخشى أن يكون الجيش الأمريكي على وشك الهزيمة.

لكن الضوء بدأ يظهر في نهاية النفق. ثم بدأ يأتي النصر المبين إلى الأميركيين في أكتوبر عام 1777. لقد حاصروا جيشاً بريطانياً، يبلغ تعداده حوالي 6,000 جندي في ساراتوجا شمال نيويورك.

تم عزل القائد البريطاني ورجاله عن إمداداته التموينية، وتركوا يواجهون المجاعة، فأرغموا على الاستسلام. اقتيد الأسرى إلى بوسطن سيرا على الأقدام. هناك، وبعد أن أقسموا بأنهم تابوا إلى الله، ولن يحاربوا الأمريكان مرة أخرى، وضعوا على ظهر سفينة، وشحنوا عائدين إلى إنجلترا.

بنجامين فرانكلين، سفير أمريكا لدى فرنسا. كان فيلسوفا وعالما ومخترعا. أثبت بالتجربة أن البرق عبارة عن شحنة كهرباء. كان مسرورا عند تلقيه أنباء النصر المبين في ساراتوجا.

استخدم هذه الأخبار في إقناع الحكومة الفرنسية بالاشتراك في الحرب ضد بريطانيا عدوتها اللدود. في فبراير 1778، وقع الملك الفرنسي، لويس السادس عشر، على معاهدة تحالف مع الأميركيين. لذلك، لعبت السفن المحملة بالجنود والأموال الفرنسية دورا هاما في حرب الاستقلال الأمريكي.

من 1778 فصاعدا، بدأت الأنوار تضاء بكثرة في المستعمرات الجنوبية. هناك وضعت الحرب أوزارها وأتت إلى نهايتها بالنسبة للجنوب. أما في الشمال، فقد قاد جورج واشنطن، في سبتمبر 1781، الجيش الأمريكي إلى جانب الجيش الفرنسي، وقام بمحاصرة 8000 جندي بريطاني تحت قيادة الجنرال كورنواليس في مدينة يورك على ساحل فرجينيا.

الجنرال كورنواليس كان قلقا من الحصار، لكنه كان يأمل في وصول المدد من إنجلترا لإنقاذه وشد أزر رجاله. لكن المدد لم يتأت من سفن بريطانية، بل كان مراكب حربية فرنسية. في 17 أكتوبر عام 1781، استسلم كورنواليس وجنوده لجورج واشنطن. وعندما وصلت الأخبار إلى لندن، ألقى اللورد نورث، رئيس الوزراء بيديه إلى جنبيه في يأس وهو يقول: "لقد انتهى كل شيء"، ثم أجهش بالبكاء.

اللورد نورث كان على حق. لقد انتهى كل شيء. وبدأت تنسحب بريطانيا من أمريكا، ثم جلست مع ممثلي الأمريكان لعقد معاهدة سلام بينهما في باريس، في شهر سبتمبر عام 1783. بمقتضى الاتفاقية، اعترفت بريطانيا بكل مستعمراتها السابقة في أمريكا كدولة مستقل. المعاهد تمنح الولايات المتحدة الأمريكية، أراض من الحدود مع كندا في الشمال، إلى فلوريدا في الجنوب. ومن ساحل المحيط الأطلسي، إلى نهر الميسيسبي.

الماركيز دي لافاييت

في عام 1777، الماركيز الأرستقراطي الفرنسي، دي لافاييت، البالغ من العمر عشرون عاما، وصل إلى أمريكا. جاء لكي يناضل من أجل إقامة مجتمع جديد حر، بجانب أخذ الثأر والانتقام من بريطانيا، بسبب مقتل والده في الحرب الفرنسية والهندية سابقا.

خدم لافاييت بدون أجر في الجيش الأمريكي، وترقى لرتبة لواء في هيئة أركان جورج واشنطن. لمدة أربع سنوات، خاض العديد من المعارك، وأثبت أنه جندي شجاع مثابر. حاز على احترام جورج واشنطن وصداقته. كان له الفضل في الهزيمة النهائية للبريطانيين في بلدة يورك تاون عام 1781.

عندما انتهت حرب الاستقلال، عاد لافاييت إلى فرنسا. هناك استمر في دعم المصالح الأمريكية. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1789، سجنته المعارضة السياسية وأممت ممتلكاته.

لكن أصدقاء لافاييت الأمريكيون لم ينسوه. في عام 1794، خصص الكونجرس الأمريكي له مبلغا من المال قدره 24424 دولارا. هذا المبلغ، يعادل راتبه الذي تنازل عنه أثناء خدمته كجنرال في الجيش الأمريكي. بعد ذلك بعدة سنوات، منحته أمريكا أرضا في لويزيانا، عوضا عن أطيانه التي أممت في فرنسا.

وعندما جاء لزيارة الولايات المتحدة عام 1824 بعد أن كبر في السن، استقبله الأمريكيون كبطل قومي، وكرمز للاستقلال والبعث لأمة جديدة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى