السبت ٢٤ تموز (يوليو) ٢٠٢١

الجاعصون

راضي شحادة

انتصار سيّدة أوراق الدّوالي:

النّساء الفلسطينيّات يُشكّلن عقداً جميلاً يزيّن باب العامود من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه. لم يأتين لتزيين باب العامود عن عَمْد، بل إنّ باب العامود أصبح مصدر رزقهن الوحيد خلال السّاعات الثلاث من يوم العمل القصير من أيّام الانتفاضة، ولكنّها ثلاث ساعات من الحركة والصّياح والحيويّة، وليس ذلك إلّا بدافع إنفاق البضاعة قبل انتهاء ساعات العمل القليلة.

الموسم موسم خير، فالفواكه بجميع أنواعها، بدءاً بعنب الخليل الفسيفسائي، ونهاية بالتّين البلدي، وكلّها فواكه تحرّرت من ختم الدَّولة، دولتهم وليس دولتنا.

 تعال خذ عنب، أحلى عنب.. انت خذ ذوق وجرّب بس.. خذ يا عيني، بدنا نخلّص قبل ما ييجو اولاد الحرام.
 إذا كان الأمر متعلّقاً بأولاد الحرام، أعطيني رطل يا خالتي.
 خذ رطلين من مرّة، بنرخّص لك شْوَيّ.
 صرت محمّل حملين تين يا خالتي، مش قادر أحمل أكثر.. نفسي أشتري منك ثلاثة ارطال ما دام المشكلة متعلّقة في اولاد الحرام ..

توغّلتُ في السّوق، وغاب العقد الفريد من النّساء الفلسطينيّات عن نظري للحظات، واستمرّ العقد الفريد أحلى وأحلى داخل باب "خان الزّيت" مخترقاً سوق العطّارين..

نصف ساعة بقيت قبل سماع موسيقى الأبواب المطروقة لإغلاق السّوق. أصبحت ساعة الإغلاق هي الميزان الحقيقي لتشبث الشّعب وولائه لتعليمات قيادة الانتفاضة، فكلما كانت موسيقى طرق الأبواب كثيفة ومتراصّة، كانت السّاعة أكثر دقّة. لقد أصبحت موسيقى ساعة الإغلاق جزءاً من طقوسنا اليوميَّة كصوت المؤذّن وجرس الكنيسة، وضرْب الحجارة وتنشّق الغاز وضريبة الشّهيد أو الشّهيدين التي يدفعها الشّعب يوميّاً، وهجوم الغزاة من جديد.

سرحتُ قليلاً، ولكنّني لم أعطِ بالاً لهذه المعادلة، وفضّلت أن أعود لأتمتّع بجواهر العقد الفريد الممتدّ- ولم ألاحظ ذلك من قبل- من البريد الى أطراف سوق العطّارين.. ولكنّني لم أجِدْه .. لقد سرقوه . أولاد الحرام فرطوا حبّات العقد..

هجم الغزاة، وأدركت ذلك لأنّهم كانوا يركبون الخيل ويدوسون الفواكه والبضاعة والنّاس، ولأنّ شعوراً من الغطرسة والعنجهيّة واللؤم كان بادياً بوضوح على وجوههم.

كان الهجوم مفاجئاً، فقد كسروا الصّناديق وداسوا على كل شيء بحوافر خيولهم وبساطيرهم، وحملوا ما حملوه من غنائم من الباعة وعبّؤوا بها سيارات البلديّة، ويا لها من صدفة. لقد اكتشفت أحد أطراف الحلّ للمعادلة التي حيّرتني في البريد.. البلدية/الدَّولة تثبت اليوم وإرضاء لرئيسها أنّ المدينة مدينته ولا يحق لأيّ إنسان تزيينها على ذوقه كما يشاء.

كيف يزيّنون أرصفتها بالعقود الفريدة من النّساء بدون استشارة الرّئيس؟:

"إقمعوهم‎، لقّنوهم درساً في احترام ذوق الرّئيس وحاشيته، إمعسوهم، أسحقوهم، فهؤلاء البدائيّون لن يتعلّموا النّظام إلّا بالقوة. وَيْحَهَم، نحن نعمّر المدينة بطريقة مدنيّة، متحضّرة، وهم يوسّخونها علناً وعلى أرصفة الشّوارع..ماذا يقول السّياح عنّا لو شاهدوا هذه البضاعة وما خلفها من نساء غريبات الشّكل والأطوار؟ أيها المساعدون انتفضوا ضِدّ انتفاضتهم.." (اقتباس من ملف جلسة رئيس البلدية/الدَّولة قبل الغزو).

 يا خواجة ، من شان ألله.. ألله يخلّي لك اولادك، أعطيني عنباتي. خلص ما عدتش أبيع في الشّارع، أعطيني ايّاهم وبروّح..
 إمشي روحي بدّيش أسمعك، ولا كلمة (يدفعها الى الخلف، ولكنّها لا تسقط).
 ريتكو تموتو، ألله يجازيكو.. يلعن أبوكو.. بيجيكو يومكو يا اولاد الكلب.
 ما خلّوا ولا حدا من شرّهم. كسّروا كل البسطات.

أحد الجنود يحفن عن الأرض من قطوف العنب المنتهكة ويقدمها لحصانه لكي يأكل ما حرّموه على البشر.

وخُيِّل ألي أنّني سمعت أحدهم يقول:

 انتصرنا.. لقد سحقناهم، أنظر اليهم كيف يتراكضون أمامنا كالصّيد المذعور، الحضارة يا "شلومو"، نحن نغلبهم بفكرنا وحضارتنا.. الآلاف من حولنا ينصاعون لأوامرنا كالغنم، بينما نحن لا نتجاوز مع خيلنا الخمسين..".

وفي هذا الجوّ الغريب المكَهْرب شدّت انتباهي إحدى فرائد العقد وهي تتوسّط الحلبة، وكانت تجمع بعضاً من أوراق الدّوالي المتناثرة على الأرض والتي خُتمت بحوافر الخيل ومداسات الجنود وأحذية المارّة. لم تيأس، فَرُبَّما تستطيع أنْ تنقذ بعضاً من أوراق دواليها.

لم يخطر ببالها أنْ تجمع شيئاً من الفواكه الأخرى المتناثرة والمخلوطة بأوراق دواليها، فهذا حرام وكل إنسان له رزقه. إنّها تريد أن تسترجع بعض حقّها الْمُداس بالأقدام، وهي لا تنظر إلّا الى أوراق دواليها، وحتى الغازون لم تلمحهم، فأوراق دواليها كانت هدفها. كانت ورقة الدّوالي بالنّسبة لها أهمّ وأكبر قدراً من كل ما يجول ويصول حولها من جنود وخيول..

ولم تكد تنقذ بعض دواليها حتى باغتها أحدهم ببسطاره المسلّح بالفولاذ، وضرب الصّندوق فتطايرت الأوراق في الفضاء كالعصافير المتحرّرة، ثم هجم على العجوز ودفعها جانباً ولكنّها لم تسقط، بل بقيت واقفة كالصّخرة وعيناها محدّقتان بأوراق دواليها المتطايرة، ولم تتنازل ولو للحظة واحدة بنظرة عابرة تُشعره ولو سهواً بأنّه موجود.

الموجود الوحيد بالنّسبة لها في تلك اللحظة هي فقط أوراق دواليها، وأمّا الجنود فإنّهم لا يحتلون لديها أيّة لحظة من لحظات حياتها بالرّغم من أنّهم هم كل الاحتلال..

تخيلتُها كما تخيّلت ملفّ الرّئيس قبل الغزو تقول، ولم أسمعها تقول ذلك بل قرأت المكتوب من عنوانه:

 انتصرنا.

انتهت العمَليَّة بنجاح، وتجمّع الجنود على خيلهم والرّاجلون منهم، والشّرطة بغازاتهم وأسلحتهم، وكانت سيّارات الغنائم تطفح بالخير والنّعمة، وتمّت نشوة النّصر بأبهى صورتها، واستطعتُ أنْ أشاهد هذه النَّشوة بأمّ عيني، فقد اعتلى أحد رجال الشّرطة الذي كانت تزيّن جمجمته طاقيّة متديّنين ملوّنة، اعتلى سيارة الغنائم، وكان يحمل بيده كاميرا للتّصوير الفوري، و"جَعَص" الحشد المنتصر أمامه، وراح يصوّرهم ويوزع عليهم الصُّوَر، وكانوا ينظرون الى صورهم غير مصدّقين، فقد نفشوا صدورهم كالدِّيكة وجعلوا من صورهم مكاناً تتسمّر أنظارهم فيه، لا يقلّ تسمّراً عن تلك المرأة في حبّات العقد، والتي شاهدتُ نشوة انتصارها وهي متسمّرة في أوراق دواليها.

غادر الجنود وباقي الغزاة وهم يحدقون في الصُّوَر، صور النّصر وحُب الذّات. إنّها صور لتاريخ يُسَجَّل لصالحهم عبر انتصاراتهم الكثيرة والمتلاحقة.

هاجس مسرحي: راضي شحادة
هاجس كاريكاتيري: خليل أبو عرفة

راضي شحادة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى