السبت ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

الحبُّ الأوَّلُ

حينَ كنتُ على مقاعدِ الدِّراسةِ في المرحلةِ الثّانويّةِ، وكانت الصّفوفُ مزيجاً مثاليّاً رائعاً من النَّسيجِ الاجتماعيِّ بين الذّكورِ والإناثِ، ولوحةً فسيفسائيّةً من التّجانسِ العقَديِّ والفكريّ جمعَت بين شتّى الطَّوائفِ والمذاهبِ من قُرىً عديدةٍ تابعةٍ لثانويّةِ ناحيةِ عينِ حلاقيمَ، لم يكُنْ اختلافُ الجنسينِ ليُسدلَ أستارَه الظّلاميّةَ بينَ إنسيَّينِ خلقَهما اللهُ نصفَينِ يُتمِّمُ كلٌّ منهُما الآخرَ، ولا سيّما في القُرى، إذْ لم يعِشْ كلُّ جنسٍ منهُما على الخَيالِ وأساطيرِ الفصْلِ العُنصريِّ الّتي تُحرّمُ الاختلاطَ بينَهما، كمَا نَرى ذلكَ في مجتمعاتِ المدنِ الّتي تدّعي الرُّقيَّ والتَّحضُّرَ، ولم تكنِ الأديانُ والمذاهبُ لتُلقيَ بظلالِها العمْياءِ للفصْلِ بين الطُّلّابِ والطّالباتِ إلّا في حصَّةِ التّربيةِ الدّينيَّةِ، حينَما يظلُّ الطّلبةُ المسيحيّونَ باختلافِ نِحلِهم في غرفةِ الصّفِّ؛ لتُغْرسَ بذورُ تعاليمِ الكهنوتِ المسيحيِّ في صفحاتِ فكرِهم الطَّريِّ، ويتَّجهُ الطَّلبةُ المسلمُون بمختلفِ مذاهبِهم إلى غرفةٍ أُخرى؛ لينهلُوا قطراتِ الكهنوتِ الإسلاميِّ، ولولا هذا الفصلُ الكهنوتيِّ المتوارثُ، لما شعَرْنا بأيِّ فارقٍ فكريٍّ أو دينيٍّ بينَنا، علماً أنّ السِّياسةَ العُليا لامبراطوريَّةِ القوقعةِ المولودةِ من ظلماتِ التّاريخِ كانَت تتَمَاهى في غرسِ هذهِ القيمِ الدّينيَّةِ؛ ليسهُلَ عليها التَّقسيمُ والتَّفريقُ للسِّيادةِ الأبديّةِ الّتي ما أفلحَتْ خلالَ أزمنةِ التّاريخِ في حكمِ أمَّةٍ من أممِ الأرضِ إلّا لسنينَ معدودةٍ؛ لأنّ عمرَ كلِّ إمبراطوريّةٍ مهما بغَت وتجبَّرَت سيَنْتهي في ضلالِها وطغيانِها حينَما تَرمي بقيمِ الأخلاقِ الإنسانيَّةِ خلفَ ظهرِها..

في هذهِ البيئةِ المدرسيَّةِ الإنسانيَّةِ الّتي تُؤطِّرُها عاداتٌ وتقاليدُ مختلفةٌ وثقافاتٌ دينيَّةٌ واجتماعيَّةٌ متعدِّدةٌ ترعرَعْتُ في ربيعِ أيّامي وأحلامِي، وكانَ ذِهْني متوقِّداً ومشاعِري متأجِّجَةً لمعرفةِ ثقافةِ الآخرينَ دونَ النَّظرِ إلى خلفيَّاتِهم وانتماءاتِهم، وإنّما كانتْ نظرَاتي تنبعُ من مشاعِري الإنسانيَّةِ النَّبيلةِ الّتي تتجاوزُ حدودَ الزَّمانِ والمكانِ، وتثِبُ فوق سدودِ الكهنوتِ الدِّينيّ، فكانتْ علاقَاتي بزُملائي وزميلاتي علاقةً أخويَّةً تقومُ على المحبَّةِ الإنسانيَّةِ الخاليةِ من شوائبِ العقدِ النفسيَّةِ الّتي تغرسُها العاداتُ والتَّعاليمُ الدّينيَّةُ، فعشْتُ فرداً متفرِّداً في قيمِه الأخلاقيَّةِ، وفي هذهِ البيئةِ الطُّلّابيّةِ الجميلةِ القائمةِ على التَّنافسِ العلميِّ كانتْ مواهِبي اللُّغويَّةُ والأدبيَّةُ تنمُو رويداً رويداً في رحمِ فكْري ووجْداني، وممّا ساهمَ في تعزيزِ هذهِ الملَكَاتِ الكتابةُ الإبداعيَّةُ في ميدانِ التَّعبيرِ حينَ كتابةِ مواضيعَ متنوِّعةٍ حولَ الصَّداقةِ والمحبَّةِ والتَّعاونِ والطَّبيعةِ وأعيادِ الأمِّ والمعلِّمِ وقيمِ الخيرِ والعدلِ والتَّسامحِ ومساعدةِ الفقراءِ، ووصفِ الطُّفولةِ المشرَّدةِ، فكانتْ هذهِ الموضوعاتُ اليمَّ الّذي أحسَسْتُ بأنّني أُجيدُ الغوصَ في أعماقِه، وكانتْ كِتاباتي محطَّ اهتمامِ معلِّمي اللُّغةِ العربيَّةِ وزمَلائي وزمِيلاتي.. ولعلَّ أجملَ تلكَ اللَّحظاتِ حينَما نتحلَّقُ حولَ المدفأةِ طلّاباً وطالباتٍ، ونتبادلُ أحاديثَ المودَّةِ وأماني المستقبلِ، وكان السُّؤالُ الّذي يتردَّدُ صداهُ من أفواهِ زمِيلاتي: ماذا ستدرسُ في المستقبلِ؟ وما أمنياتُكَ؟ فكانتِ الإجابةُ تنهالُ على شفتيَّ بشكلٍ عفويٍّ ودونَ تفكيرٍ: أريدُ أن أخوضَ غمارَ الدِّراساتِ العُليا في علومِ اللُّغةِ العربيَّةِ وآدابِها، وكانَ كلٌّ من زمَلائي وزميلاتي يحدِّدُ هدفَه في الحياةِ، فكانتِ الأمنياتُ تتراوحُ بينَ الطِّبِّ والصَّيدلةِ والمحاسبةِ والرّياضيَّاتِ والعلومِ والمحاماةِ وغيرِها من مجالاتِ العلومِ الّتي كانتْ شائعةً يومَ ذاكَ.

إلّا أنّ هذهِ المثاليَّةَ في التَّعاملِ الأخويِّ بعيداً عن أشراكِ التَّخلُّفِ الكهنوتيِّ المتوارثِ لم تمنعْ من ولادةِ قصصِ غرامٍ أُولى كقصَّةِ جبرانَ خليل جبرانَ في الأجنحةِ المتكسِّرةِ مع سلْمى كرامةَ، فقدْ نشأتْ في فُؤادي قصَّةُ غرامٍ أُولى ما زالتْ تحفرُ في وجْداني أثراً لا يَنْتهي، إنّها قصّةُ غرامي الأُولى مع مخلوقةٍ هبَطَت إلى مراتعِ فكْري ووجْداني من عالمِ الملائكةِ، إنّها قصَّةُ غرامِي الّتي لا يمحُوها صدأُ الأيّامِ رغمَ عذريَّتِها وعفويَّتِها، إنّها قصَّةُ غرامي الّتي تجاوزَتْ كلَّ الأعرافِ الدّينيَّةِ والاجتماعيَّةِ مع فتاةِ أحلامي الأُولى، إنَّها الملاكُ الطّاهرُ الّذي لم أرَ جمالاً في الحياةِ إلّا بتأمُّلِ وجهِها النّقيِّ وعينَيْها البرَّاقتَينِ، وأنفِها الأنثويِّ الدَّقيقِ الّذي كان يذكِّرُني بشموخِ الحضارةِ الرُّومانيَّةِ في عصرِها الذَّهبيِّ، إنَّها حبّيَ الأوَّلُ الّذي أسَرَني بعيونِ (المهَا) بينَ الحروفِ الأبجديَّةِ على امتدادِ نهرِ السَّارودِ من منبعِه إلى مصبِّهِ حينَما حملَني من رحمِ الشَّقاءِ والضَّياعِ إلى مرسَى الدِّفءِ والحنانِ، وقد شقَّتْ أمامَ عينيَّ في الصفِّ أبوابَ عالمٍ آخرَ يتجاوزُ مساحةَ مقاعدِ الدِّراسةِ، ولم أكنْ أَرى في الدُّنيا مخلوقاً يُمكِن أن تأنسَ إليهِ روحي كمَا أنسْتُ إلى مستراحٍ بين مُقلتَيها وخفقاتِ فؤادِها المنتَشي بالهيامِ ولوعةِ الغرامِ، وقد سكنَتْ وجْداني، وهبطَتْ من عالمِ الوحيِ إلى روحِي، وسكبَت نظراتِها وكلماتِها أكاسيرَ حياةٍ في أوصَالي، حتى أضحَتِ الدّراسةُ حلماً يهبطُ إلى وجْداني في يَقْظتي وسُباتي، ولم أكنْ أهْوى تلكَ المقاعدَ إلّا حينَما تراهَا مقلتايَ وتلذُّ بمَرآها مشاعِري، ولم أكنْ أعرفُ طعمَ ولذَّة العلمِ إلّا في رؤيةِ ملامحِها، حتّى كنتُ أغرقُ لحظاتٍ في تأمُّلِها. وذاتَ يومٍ أثارَتْ نظرَاتي إليْها انتباهَ معلِّمِ الجُغْرافيا الكبيرِ (بُطْرس)، وكانَ يشرحُ عملَ البَوْصلةِ الجغرافيّةِ، وقد تدلَّتْ من عنقِه على صدرِه كمَا تتدلّى أوسمةُ الأبطالِ على أعناقِهم، فنادَاني فُجاءةً باسمي، فأجبْتُه على الفورِ: أنا معكَ يا معلّمي، ولكنَّ بوصلتَكَ جعلَتْني في ذهولٍ، فخرجْتُ عنِ الشّمالِ الجغرافيِّ، لأتخيَّلَ الجنوبَ غيرَ الجغرافيَّ، وكان مجسَّمُ الكرةِ الأرضيَّةِ بينَ يديهِ، فسألتُه سؤالاً مفاجِئاً: أستاذَ بُطرس! طالمَا أنّ البحارَ والمحيطاتِ تحتلُّ ثلاثةَ أرباعِ الكرةِ الأرضيَّةِ وتحيطُ بها من كلِّ جهاتِها، فلمَاذا لا تنسابُ المياهُ الّتي على جوانبِ الأرضِ وفي قطبِها الجنوبيِّ نحوَ الأسفلِ، وكذلكَ البشرُ والمخلوقاتُ كيفَ لا تتساقطُ كمَا تساقطَت تفَّاحةُ نيوتن؟! فضحِكَ الطُّلّابُ والطَّالباتُ، وغشيَ قمَري من طرافةِ السُّؤالِ، وضحكَ المعلِّمُ ونظرَ إليَّ بإعجابٍ، قائلاً: الآنَ عرفْتُ لماذا كنتَ شاردَ الذِّهنِ، واللهِ إنَّ خيالَكَ واسعٌ يا بُنيّ! سؤالٌ ربَّما لم يخطُرْ على بالِ بطليمُوس! ولكنّي أجيبُكَ بأنَّ سببَ عدمِ انسيابِ تلكَ المياهِ هو الجاذبيَّةُ الأرضيَّةُ وكذلكَ الإنسانُ وبقيَّةُ المخلوقاتِ، فهي لا يمكنُ أن تطيرَ في الفضاءِ بسببِ تلكَ الجاذبيَّةِ، وليسَ للكرةِ الأرضيَّة (فوق ولا تحت)؛ لأنّها كرةٌ -كما تراهَا الآن- تسبحُ في الفضاءِ.. وأتمنّى أن ينجذبَ انتباهُكَ إلى الدَّرسِ وألّا ينسابَ بعيداً عن الكرةِ الّتي بينَ يديَّ.. وابتسمَ ابتسامةَ العارفينَ، ودعَاني إلى التّركيزِ والمتابعةِ دونَ أيِّ حرجٍ أو إحراجٍ..

استمرّتْ قصَّةُ عشقِي الرّومانسيِّ سنةً كاملةً بينَ الإعجابِ وتبادلِ النَّظراتِ وانتشاءِ الرّوحِ والجوارحِ بسماعِ رنّاتِ كلماتِ المها في أعماقِ روحي، لكنّ تربيتَنا الرّيفيّةَ البسيطةَ لم تكُنْ لتسمحَ لنا إلّا باللّقاءِ في الصَّفِّ وكانتْ أحاديثُ القلبِ والرّوحِ عالمَنا الّذي نهفُو إليهِ من خلالِ تبادلِ نظراتِ الإعجابِ والتّعبيرِ عن خلجاتِ الرّوحِ والنَّفسِ، فلمْ أكنْ أرى جمالَ الدُّنيا إلّا في عينَيْها، ولم أكنْ أقرأُ أسرارَ العالمِ الأنثويِّ إلّا في نظراتِها وهمساتِها وحركاتِها وسكنَاتِها..

وتَمْضي الأيَّامُ ويَنْتهي ذلكَ العامُ الدِّراسيُّ، وتأتي الإجازةُ الصَّيفيَّةُ، وينشُبُ في ذاتي صراعٌ، ويتأجَّجُ الشَّوقُ، ويفترسُني الحنينُ إلى رؤيةِ خيالِ من أحبَبْتُ، وها هيَ لحظةُ القدَرِ تجمعُنا في لقاءٍ خلالَ المعَسْكرِ الشَّبيبيِّ الصَّيفيِّ في ثانويَّتِنا، بعدَ أنْ أنهيتُ معسكرَ الصَّاعقةِ التَّدريبيَّ في مصيافَ (معسكر الشّيخ غَضْبان) وقد اكتَسبْتُ مهاراتٍ جسديّةً ولياقةً بدنيَّةً ونفسيَّةً، ويا للَحظةِ القدرِ الّتي تنهالُ عليْنا في لقاءٍ ثنائيٍّ على انفرادٍ في تبادلِ أحاديثِ المودَّةِ والوئامِ والاحترامِ، فتطلبُ منّي أن أعلِّمَها بعضَ تلكَ الحركاتِ الرّياضيَّةِ، فأُمسِكُ بيديْها، وتقبضُ على راحتيَّ كأنّها تريدُ أن تذوبَ في كياني، وأن تسكبَ روحَها في روحي، إنّها اللَّحظةُ الّتي تعجزُ عن وصفِها الكلماتُ، لكنَّ البراءةَ والعفَّةَ تمنعُني من لمسِ أنوثةِ جسدِها، وربّما كانتْ هذهِ الصَّاعقةَ الأُولى الّتي أشعرَتْها بخَوفي وجُبْني، فثارَت غَيرتُها حينَما وقفْتُ مع زميلاتٍ أخرياتٍ، وحينَما دعوتُها لتناولِ بعضِ المرطِّباتِ أبَتْ وثارتْ ثائرتُها، فأدركْتُ مَدى حبِّها وغيرتِها عليَّ، لكنَّ ذلكَ الحبَّ لم تخبُ نيرانُه إلّا حينَما فصلَ بينَنا القدرُ ، فاتَّجهَتْ بدراستِها نحوَ الفرعِ العلميِّ، واخترتُ دراسةَ الفرعِ الأدبيِّ، فكانَ هذا الفصلُ بينَنا بدايةَ البعدِ والافتراقِ، ومن هُنا بدأَ الصِّراعُ في ذاتي إلى منافستِها في الحصولُ على درجاتٍ تُضَاهي درجاتِها، وإن اختلفَ ميدانُ التَّخصُّصِ الدِّراسيِّ، إلّا أنَّ ذلكَ لم يمنَعْني من النَّظرِ إليها، ولم يكُنْ سدَّاً منيعاً أمامَ تبادلِ نظراتِ الحسْرةِ والألمِ، وكانتِ المصادفةُ العجيبةُ في نهايةِ الثانويّةِ العامّةِ في تقاربِ الدَّرجاتِ في شهادتَيْنا، وكانتْ لحظةَ الموتِ والافتراقِ ونهايةَ قصّةِ غرامِنا الأُولى، فحملَتْها الرّياحُ إلى دمشقَ لدراسةِ المعهدِ التِّجاريِّ، وطارتْ بيَ الأقدارُ إلى كلّيّةِ الآدابِ في حمصَ، وانطوَتْ قصَّةُ غرامٍ وُلِدَت في روحَيْنا، وصارتْ ذكرياتُها في أعماقِ النَّفسِ، لكنّها لم تمُتْ، ولم تندثِرْ خيالاتُها، وظلَّتْ صورةُ غراميَ الأوَّلِ تسكُنُ في روحي وأحلامِي، وهُنا لا يسعُني إلّا أن أقولَ ما قالَه أبو تمَّام:
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى

مـــا الحُــبُّ إِلّا لِلحَبــيــبِ الأَوَّلِ
كَم مَــنزِلٍ في الأَرضِ يَألَـفُهُ الفَـــتى
وَحَنـيـــنُهُ أَبَــداً لِأَوَّلِ مَــنزِلِ

وما قالَهُ جبرانُ خليل جبران:

"أيُّ فتىً لا يذكُرُ الصَّبيَّةَ الأُولى الّتي أبدلَتْ غفلةَ شبيبتِه بيقظةٍ هائلةٍ بلُطفِها، جارحةٍ بعذوبَتِها، فتَّاكةٍ بحلاوتِها؟ مَن منَّا لا يذوبُ حنيناً إلى تلكَ السَّاعةِ الغريبةِ الّتي إذا انتبهَ فيها فجأةً رأى كلِّيَّتَه قدْ انقلبَتْ وتحوَّلتْ، وأعماقَهُ قد اتّسعَت وانبسطَت وتَبطَّنَت بانفعالاتٍ لذيذةٍ بكلِّ ما فيها من مرارةِ الكِتْمانِ، مُستَحبَّةٍ بكلِّ ما يكتنِفُها من الدُّموعِ والشَّوقِ والسُّهادِ؟

لكلِّ فتىً سلْمى تظْهرُ على حينِ غفْلةٍ في ربيعِ حياتِه وتجعلُ لانفِرادِه معنىً شعريّاً وتُبدِّلُ وحْشةَ أيَّامِه بالأنسِ وسكِيْنةَ لياليهِ بالأنغَامِ."

لقدْ آلمَني الفراقُ، وتركَ في ذاتي طعناتٍ لا يمكنُ للأيّامِ أن تُضمِّدَ جراحاتِها، كما لا يمكنُ لمخلوقةٍ من ضلوعِ الملائكةِ أن يموتَ أثرُ ذلكَ الغرامِ في أعماقِ روحِها..

لقد وُلدَ حبُّنا الأوّلُ على مقاعدِ الدّراسةِ الثّانويّةِ، وبسطَ الفراقُ جناحيهِ؛ ليُلقيَ كلَّ قلبٍ في مهَاوي الغربةِ والفراقِ والنِّسيانِ، وانقضَت تلكَ السّنون وطوَت أجملَ ذكرياتِها في أعماقِ الرُّوحِ، وستظلُّ آثارُها ينابيعَ ثرّةً تهبطُ إلى خياليَ الأدبيِّ، ولن تستطيعَ أن تمحُوَ بصماتِها من جدرانِ الرُّوح إلّا يدُ المنونِ..

ومهْما امتلأَ الفؤادُ بقصصِ الغرامِ مع كلِّ مرحلةٍ من مراحلِ العمرِ، إلّا أنّ أجملَ قصّةِ حبٍّ عاشَها الفؤادُ، وانتشَت في ظلالِها الرّوحُ، وسكِرَ الجسدُ بخمرةِ كلماتِها وهمساتِها ونظراتِها وعبراتِها، تلكَ القصّةُ الّتي وُلدَت في مِيعةِ الصّبا بين قلبينِ لم تستطِعْ كلُّ سمومِ العاداتِ و الكهنوتِ الدّينيّ أن تُميْتَ بذورَ الحياةِ في شرايينِ كائنينِ امتزجَت روحاهُما امتزاجَ العصافيرِ في أعشاشِها!

قد تنْتهي قصّةُ الحبِّ الأوّلِ من شفاهِ الأيّامِ، لكنَّ نجْواها لا تموتُ في أعماقِ النَّفسِ.. وقدْ تنحسرُ مياهُ البحرِ بالجزْرِ، لكنّ آثارَ قبلاتِها على الشُّطآنِ لا تمحُوها يدُ الأيّامِ.. قد يَفْنى الحبيبانِ جسداً، لكنَّ ذكرياتِ نشوةِ الرّوحِ تظلُّ تستَصْرخُ ضميرَ الأيّامِ ووجدانَ الزّمانِ، كما تستصرخُ عباراتُ تلكَ الفتاةِ الأندلسيَّةِ عاشقةِ الأميرِ العربيِّ أبي عبدِ الله آخرِ أمراءِ بني الأحمرِ ضمائرَ الزَّائرينَ، وقدْ نقشَتْها على قبرِه في ظاهرِ غرناطةَ: "هذا قبرُ آخرِ بني الأحمرِ" من صديقتِه الوفيَّةِ بعهدِه حتّى الموتِ" "فلورَندا فيليب".

بلا تاريخ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى