السبت ٣٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٢
بقلم رامز محيي الدين علي

الحجرُ والخشبُ

في حلمٍ غريبٍ بدأتُ أُعدُّ محاضرةً عن الحجارةِ لأُلقيَها في ندوةٍ أمامَ الجمهورِ، فسألَني زميلٌ: أعرفُ أنّكَ تكتبُ مقالاتٍ أدبيّةً، فكيف لكَ أن تتناولَ موضوعاً علميّاً حول الحجارةِ وخصائصِها، وفوائدِها، وهل ستنجحُ في محاضرتِك، ولا سيَما أنّ الموضوعَ لا يمتُّ إلى الأدبِ بوشيجةٍ فكريّةٍ لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ.. وظلّ هذا السّؤالُ يُقلِقُني في سُباتي العميقِ، ورحْتُ أبحثُ عن مخرجٍ لهذهِ الفكرةِ الهابطةِ من عالمِ الأحلامِ في نومِي.. فتحْتُ عينيَّ، فلم أجدْ زميلي ولا أوراقاً عن الحجارةِ، ولكنّ صدَى السُّؤالِ ألحَّ عليَّ بالكتابةِ، فجهَّزْتُ قهْوتي، وأمسكْتُ قلمِي، وراحَتِ الأفكارُ تنهالُ عليَّ لأحوِّلَ الحجارةَ إلى مادّةٍ أدبيّةٍ أغرَتْ بيَراعي الغوصَ إلى غيرِها من عناصرِ الطّبيعةِ؛ لأُنطِقَها كما لوأنَّها حيَّةٌ، فوجدْتُ نفسِي أكتبُ محاورةً بينَ الحجرِ والخشبِ، يتحدَّثُ كلٌّ منهُما عن نفسِه ويبيِّنُ ما لهُ من خصالٍ يمكنُ أن يتَباهى بها أمامَ الآخرِ.

الحجرُ: أنا سيّدُ القوَّةِ والصَّلابةِ! هل تسمعُني أيُّها الخشبُ الهشُّ الضَّعيفُ؟!

الخشبُ: سمِعتُكَ أيُّها المغترُّ بنفسِكَ! ولكنْ لا تنسَ أنَّني من شجرةٍ حيّةٍ، وأنتَ مادَّةٌ بلا حياةٍ، فلا غرابةَ في أنْ تتمتَّعَ بشيءٍ من الصَّلابةِ، ومعَ ذلكَ فأنا أحطِّمُكَ حينَما أُصبحُ عصاً في مطرقةِ التَّكسيرِ (المِهدَّة)! ولا تنسَ أنّني أقْوى منكَ وأعْتَى في عُرضِ البِحارِ والمحيطاتِ، إذ إنّني أطْفُو، ويصنعُون منّي القواربَ والمواخرَ الّتي تحملُ أمثالَكَ بالأطنانِ حينَما ينقلُونكَ بين الدّولِ للاتِّجارِ بكَ، في حينٍ لا تستطيعُ العومَ هُنيهةً في اليمِّ، فتغرقُ صاغِراً، ولا تملكُ من أمرِك شيئاً!

الحجرُ: صحيحٌ أنّكَ من شجرةٍ حيّةٍ، ولكنْ ألا ترَى أنّكَ الآنَ مِثْلي بلا روحٍ يعبثُ بكَ النَّجَّارونَ والبنَّاؤونَ والعمَّالُ، وحتّى الأطفالُ.. وليسَ لكَ أيّةُ بطولةٍ في كَسْري، وإنّما أنتَ مجرَّدُ عصاً تحملُ مطرقةَ الحديدِ الّتي تنهالُ عليَّ بالضَّربِ لتكسِرَني، ولولا الحديدُ لمَا كان لفعلِكَ أثرٌ عليَّ؟! كمَا أنّكَ تطفُو على سطحِ الماءِ لخفَّتِك، فتتلاعبُ بكَ الأمواجُ، وتلفظُك إلى الشّواطئِ احتقاراً لكَ، أمّا أنا فلا تستطيعُ الأمواجُ أن تعبثَ بي، فأغوصُ إلى أعماقِ البحارِ حيثُ الحياةُ بينَ الأصدافِ وأثمنِ الأحجارِ الكريمةِ، أمّا أنتَ فتعودُ إلى اليابسةِ يائساً، ولولا صناعةُ السُّفنِ منكَ، لما كانَت لكَ تلكَ القيمةُ الّتي تفخرُ بها، ولما كانتْ لكَ القدرةُ على حملِ بطّيخةٍ!

الخشبُ: ولكنْ لا تنسَ يا صاحبِي أنّ المِطرقةَ لا تنفعُ في كسرِكَ دونَ أن أكونَ عصاً تحملُ تلكَ المطرقةَ الّتي تُؤلِمُك وهي تدكُّ جسدَك دكّاً فتتَشظّى إلى قطعٍ صغيرةٍ! وصحيحٌ أنّني أعودُ إلى اليابسةِ، لكنّني أعودُ وأنا في غايةِ التّفاؤلِ لأحيَا من جديدٍ بينَ أمهرِ الأيديْ، لا أنْ أموتَ في أعماقِ البحارِ وأصبحَ نسيَّاً منسيَّاً كحالِكَ!

الحجرُ: مازلْتَ تتحدّثُ عن الماضِي البعيدِ حينَ كانتْ لكَ تلكَ القيمةُ في استخدامِكَ، لكنَّ بعضَ البشرِ الأقوياءِ بذكائِهم لا بأبدانِهم استطاعُوا أن يخترِعُوا وسائلَ حديثةً في قَطْعي وتكسِيري، فاسستغْنَوا عن خدماتِكَ أيُّها الخشبُ المسكينُ! ونسيَ أغلبُ هؤلاءِ البشرِ الأغبياءِ أنّني كنْتُ في الماضِي أصناماً يتعبَّدُون في مِحْرابي ويتقرَّبُون إليَّ بقرابينِهم، فانظُرْ إلى تاريخِهم ومعتَقداتِهم القديمةِ والحديثةِ تُدرِكْ أنتَ وهُم على السَّواءِ قيمَتي وأهمّيَّتي، ولا أدلُّ على ذلكَ من الأصنامِ الّتي على وجهِ الأرضِ والأصنامِ الّتي حطَّمُوها والآثارِ الّتي يكتشِفُونَها اليومَ بعدَ آلافِ السِّنين، أمّا أنتَ أيُّها الخشبُ فلمْ تُصبحْ ذاتَ يومٍ صنماً، وإنّما استخدمَكَ هؤلاءِ البشرُ وَقُوداً لبخُورِهم من أجلِ التَّعبُّدِ حَولي، فأينَ فضلُكَ.. وما هي قيمتُكَ الّتي تتَباهَى بها؟!

الخشبُ: صحيحٌ أنّكَ كنتَ صنماً يتقرَّبُ إليكَ البشرُ في صلواتِهم، ولكنَّ ذلكَ الزّمنَ ولّى إلى غيرِ رجْعةٍ، أمّا اليومَ فصارُوا يصنعُونَ منكَ أصناماً لقادةٍ خونةٍ باعُوا أوطانَهم وخلّدُوا ذكرَاهم على أنّهم أبطالٌ فاتحُونَ، وما هُم إلّا حثالةٌ ستبُولُ على أصنامِهم الأجيالُ، وقد رأيْتَ أمامَ عينيكَ كيفَ تتَهاوى تلكَ الأصنامُ حينَما استيقظَتِ الشُّعوبُ من سباتِها العميقِ!

الحجرُ: صحيحٌ ما تقولُ، ولكنَّ ذلكَ لم يمنعْ هؤلاءِ البشرَ رغمَ غبائِهم وخنوعِهم من صناعةِ تماثيلَ لعظمائِهم من العلماءِ والمفكّرينَ والقادةِ الميامينِ، فانظرْ إلى ساحاتِ العالمِ الكُبْرى كيفَ تقفُ تماثيلُ هؤلاءِ العظماءِ أوابدَ تتحدَّثُ عن مكانةِ الفكرِ وأوابدَ أُخرى لأبطالٍ حقيقيّينَ صنعُوا للأممِ المقهورةِ أمجادَها، فهل تستطيعُ أن تُنكِرَ ذلكَ؟!

الخشبُ: نعمْ إنّني أوافقُكَ الرَّأيَ هُنا، ولكنَّ الفضلَ ليسَ في ذاتِكَ كحجرٍ صلدٍ، وإنّما قيمتُكَ تنبُعُ من الشَّخصيَّةِ العظيمةِ الّتي تُمثِّلُها، ولولا ذلكَ لما كانَ لكَ أيّةُ أهمّيَّةٍ أو أيّةُ قيمةٍ سِوَى أنّكَ حجرٌ من الحجارةِ الملقاةِ على صدرِ الطَّبيعةِ أو المَوؤُودةِ تحتَ الثّرى أو المرصُوفةِ على الأزقَّةِ تحتَ الأقدامِ!

الحجرُ: إذنْ أنتَ تُقِرُّ بأنّني أُمثّلُ عظماءَ الشُّعوبِ حينَما يَنحتُون التَّماثيلَ من صُلْبي! ولكنْ قلْ لي: هل لكَ مثلُ هذهِ القيمةِ الرّمزيَّةِ في تاريخِ العظماءِ؟! بل على النَّقيضِ من ذلكَ، فقدْ كنتَ وما تزالُ توابيتَ موتٍ وأعوادَ مشانقَ، وأيقونةً لصلْبِ الأنبياءِ والمفكّرينَ والعباقرةِ! أمّا أنا فقدْ صارتْ حَصيَاتِي رموزاً للجمَراتِ الّتي يرمِيها الحجَّاجُ على إبليسَ! هل تستطيعُ أن تُنكرَ ذلكَ؟!

الخشبُ: صدقْتَ.. ولا أستطيعُ أن أجحَدَ ما تقولُ، ولكنْ ألمْ يستخدِمْكَ البشرُ للموتِ والتّعذيبِ أيضاً؟! ألمْ يَفنَ آلافُ البشرِ تحتَ وطأةِ نقلِكَ أو رفعِكَ ليصنعُوا خلودَهم المُزيَّفَ ببناءِ أهراماتِهم ودُورِ عباداتِهم وحصونَهم وأسوارَ مُدنِهم؟!

الحجرُ: صحيحٌ ما تقولُ يا صاحبِي، فالبشرُ هُم مَن أحسنُوا أو أساؤُوا استخدامَنا! ولكنْ أستطيعُ أن أُفحِمَك في ميدانِ البناءِ، إذْ يتفنَّنُ البنَّاؤُون في تشييدِ أفخمِ قصورِهم ومنازلِهم حينَما ينحتُون من شتَّى أنواعِي وألوانِي أعمدةً ومشربيَّاتٍ وأكسيةً وزخارفَ تعشقُها الأفئدةُ والأبصارُ. فأينَ لمثلِكَ هذا الجمالُ؟!

الخشبُ: صحيحٌ ما تقولُ، وليسَ بمَقْدوري إنكارُ ذلكَ. ولكنْ أيّةُ قيمةٍ لجمالِكَ إذا لم تُتَوَّجْ أبوابُهم ونوافذُهم بحللٍ من كيَاني، حينَما يتفنَّنُون بزخارفِي ونقوشِي وبراويزِي، كمَا لا تنسَ أنّهم برعُوا في صناعةِ أثاثِهم وأدواتِهم منّي على أحدثِ الأطرِزةِ السّاحرةِ، وراحُوا يكسُون جدرانَهم منَ الدّاخلِ بأحدثِ وأجملِ الزَّخارفِ الخشبيَّةِ الّتي يتَباهَى بها الأثرياءُ ويتفاخرُون فيمَا بينَهم!

الحجرُ: كلامُك في منتَهى الحكمةِ، وكلامِي في غايةِ الدّقّةِ والحقيقةِ! إذنْ ليعتَرِفْ كلٌّ منّا بفضلِه على البشرِ لا بفضلِ كلٍّ منّا على الآخرِ.. أنتَ شقيقِي وصِنْوي ورفيقِي، بكَ تعلُو قيمتِي، ويزدادُ بهائِي وجمَالي، وأنتَ تزدادُ بي أناقةً وروعةً وسِحراً، وكِلانا إن فقدَ حياتَه بالجُمودِ، لكنَّنا منحْنَا هؤلاءِ البشرَ حياةً من السِّحرِ والجمالِ، حتّى ولو كانَ لفنونِهم وأذواقِهم لمساتٌ تتجلَّى فيها روعةُ الإبداعِ، ولكنْ ليسَ لإبداعِهم قيمةٌ مهْما عظُمَت أمامَ عظمةِ مَن خلقَنا وأبدعَنا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى