الخميس ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم محمد الحوراني

الحداثةُ والتجديدُ في التُّراثِ العربـيّ

شائكةٌ هي العلاقةُ بينَ التُّراثِ والحداثةِ في واقعِنا العربيّ، والأعقدُ منها، مُحاولاتُ بعضِهم رَبْطَ الحداثةِ بالأدبِ الجاهليِّ في تُراثِنا. وإذا كانَ بعضُ المُفكّرينَ والباحثينَ العرب قد أجادُوا في نقدِ بنيةِ العقلِ العربيّ وتشريحِه، كما هو حالُ المُفكِّرِ المغاربيّ مُحمّد عابد الجابري في ثُلاثيّتِهِ الشهيرة "نَقْدُ العقلِ العربيّ"، إلّا أنّ مُعْظَمَهُم أخفقَ في ربطِ التُّراثِ بالحداثة، وفي إسقاطِ نظريّاتِها على تُراثِنا وموروثِنا الثقافيِّ والمعرفيّ، وهو ما ظهرَ جليّاً في كتاباتِ مُحمّد عابد الجابري، ولا سيّما "التُّراث والحداثة"، وكذلك هو حالُ الشَّاعرِ والمُفكِّرِ السُّوريِّ أدونيس في "الثابت والـمُتحوّل"، أو ما كتبَهُ صاحبُ "رحيق الشِّعريّة الحداثيّة" بشير تاوريريت.

وإذا كُنّا نُعارِضُ النَّظرَ إلى التُّراثِ بوَصْفِهِ نُصوصاً جامدةً تُحفَظُ في أُمّهاتِ الكُتبِ القديمة، فإنّنا لا نُوافِقُ أيضاً على وَصْفِهِ بمُتَحَفِ الأفكارِ التي يُنظَرُ بفخرٍ وإعجابٍ إلى كُلِّ ما فيها، بل إنّنا نَنظُرُ إلى ما فيهِ على أنّهُ مُنْجَزٌ إنسانيٌّ يَتحرَّكُ بتَحرُّكِ الإنسان، ويُمثِّلُ شخصيّةَ الأُمّةِ ووُجودَها التاريخيَّ ماضياً وحاضراً، إضافةً إلى كونِهِ تُربةً خصبةً للإبداعِ والإنتاجِ والتَّجدُّدِ، رافِضِينَ، في الوقتِ عَيْنِهِ، الدَّعْوَةَ إلى الانغماسِ في الحضارةِ الغربيَّةِ والنَّظر إلى ثقافتِها على أنَّها المَصْدَرُ الوحيدُ للتَّطوُّرِ والتَّقدُّمِ، وأنَّ تُراثَنا يعني التَّخلُّفَ والتَّأخُّر.

إنَّ المُواءَمَةَ والتَّعْشِيقَ والوسطيَّةَ مُمكنةٌ بينَ التُّراثِ والحداثةِ حينَ نبتعدُ عن أهوائِنا ومُيولِنا الشخصيَّةِ وأمراضِنا الأيديولوجيَّة، فالباحثُ الحصيفُ والناقدُ الأريبُ هو من يُحْسِنُ التَّعامُلَ معَ الحداثةِ مِن غيرِ أن يَنْقَطِعَ عن تُراثِهِ، أو يغتربَ عن عصرِه، ولا سيّما أنّ هُناكَ كثيراً من العناصرِ الحيّةِ في أدبِنا وشِعْرِنا القديم، لكنْ يجبُ علينا في الوقتِ عَيْنِهِ أن نَقْبَلَ الدَّعْوَةَ إلى ضرورةِ التَّجديدِ ومُواكبةِ العصرِ بما لا يُفْقِدُنا هُويتَنا وشخصيّتَنا المُستقلّة.
إنَّ قَبُولَ الحداثةِ لا يعني في حالٍ من الأحوالِ رَفْضَ التُّراثِ أو القطيعةَ معَ الماضي، إنّما يعني الارتقاءَ والارتفاعَ بطريقةِ التعامُلِ معَ تُراثِنا إلى المُعاصَرَة، وهذا يعني أنْ نكونَ فاعلينَ في الحداثةِ، لا مُنْفَعِلِينَ فيها، كما يعني خَلْقَ نَصٍّ حداثيٍّ يَحْمِلُ كثيراً من خبايا الإبداعِ والجمالِ والسِّحرِ، انطلاقاً مِنَ النَّصِّ التُّراثيِّ والموروثِ التاريخيّ.
آنَ الأوانُ لتَضافُرِ الجُهودِ للحِفاظِ على تُراثِنا وتجديدِهِ بما يُواكِبُ تَطوُّراتِ العَصْرِ، فالتُّراثُ هو الأساسُ الذي يبني عليهِ الشعبُ وَحْدَتَهُ، وحينَ يَتَهدَّمُ هذا الأساسُ نتيجةَ تَكَلُّسِنا تنقطعُ تقاليدُنا الأدبيَّةُ والقوميَّة، ونَفْقِدُ خصائصَ وَحْدَتِنا، ونُقادُ إلى العُبوديَّةِ العقليَّةِ القاتلةِ لِرُوحِنا القوميَّة، والمُدمِّرَةِ لهُويّتِنا وشخصيّتِنا.

آنَ الأوانُ لتتوحّدَ جُهودُ المُؤسَّساتِ الثقافيّةِ والتعليميّةِ والنّقابيّةِ والتربويّةِ والإعلاميّةِ لحمايةِ تُراثِنا الماديِّ واللاماديّ، في زمنٍ يُرادُ لنا فيهِ أن نكونَ بلا تُراثٍ وبلا هُويَّةٍ وبلا ثقافة، فالثقافةُ هيَ حِصْنُنا الأخيرُ الذي يجبُ علينا جميعاً التَّفاني في حِمايَتِهِ والدِّفاعِ عنه.

د. محمد الحوراني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى