الجمعة ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم غزالة الزهراء

الحذاء الأسود

ثلاثة أشهر برمتها انسحبت متكاسلة، ومتباطئة تماثل في بطئها بطء سلحفاة مريضة، لا بشارة خير تحملها بين دفتيها لقاطني القرية الحبيبة، الأمل الناصع اشتعل شيبا وهرم، ولم يكن باستطاعة الزوجين تحمل عبء الانتظار الثقيل، انتظار كهذا قد امتص قدراتهما على استيعاب ما حدث، وحيدتهما الصغيرة لم تعد تعبق أجواء البيت العائلي بصخبها المعتاد، ولم يعد صوتها المرصع بعقيق المرح يتسلل إليهما في خفر ليبذر في بيدر أحلامهما حلاوة الدنيا، وترنيمة الغد.
هنا، وفي هذا المكان كانت تنط من غرفة لأخرى كما ريم مرقط في البراري وهي شادية كل حين مثل العندليب الطليق.
غياب سكينة عن ذويها صار حديث الخاص والعام، طيفها البهي المخضب بعطر الطفولة أقسم أنه لن يبارح مخيلة الكبار والصغار حيث انبروا يتساءلون وهم يغوصون في بئر لا قرار له من الاستغراب والدهشة: أين شققت دربك الشائك يا سكينة، يا ابنة القرية الرؤوم؟ هل كان ذلك بمحض إرادتك أم أن أياد متسلطة وجبانة تجاسرت على اختطافك في وضح النهار، وأخرست تغريدة صوتك الملائكي قبل أن تصيري شابة تتضرجين حياء، وامرأة ناضجة ومتفوقة في الحياة؟
انطلق الجميع ذات أمسية مكفهرة الأجواء باحثين عنها في أطراف الأدغال الشاسعة باذلين جهودهم في سبيل العثور عليها حية أم ميتة.
صراخ والدها زلزل الجميع فجأة وهو ينكب على التقاط شيء من أشيائها: هذا حذاؤها الأسود، اشتريته لها قبل الدخول المدرسي بيومين فقط، أجل إنه حذاؤها، هذا حذاؤها يا ناس، من سولت له نفسه باختطافها؟ ماذا فعلوا بها؟ هل مزقوا جسدها الطري شر تمزيق قاذفين إياه للكلاب الضالة ليكون طعاما دسما لهم؟
لولا الأيادي الرحيمة التي تسابقت إليه، ومنعته من السقوط لهوى المسكين أرضا.
تدفقت الأصوات من الحناجر مؤازرة إياه حتى يتجاوز محنته بسلام.
ـــ تجلد صبرا يا رجل، إن الله مع الصابرين.
ـــ نحن معك قلبا وقالبا، لن نتخلى عنك في مصيبتك.
ـــ لا تدع اليأس يهد قواك، سيكون الفرج عاجلا أم آجلا بإذن الله.
لهج لسانه بالشكر والامتنان على تكاتفهم الجماعي معه، ومن ثم سحب من جيبه صورتها وأخذ يمعن التحديق فيها مخاطبا إياها بأصدق معاني الأبوة الخالصة: أين أنت يا عزيزتي الصغيرة، يا قرة عيني، ويا مهجة روحي؟ هل ما زلت على قيد الحياة ولم يلحقك ضرر، أم روحك الطاهرة انتقلت إلى جوار خالقك؟ ماذا صنع أولئك الأوغاد بك، أولئك الذين تنصلوا تماما من معالم إنسانيتهم؟ لم تسلمي من بطشهم أليس كذلك؟ سأطالب بالقصاص حتى ينال الجناة جزاءهم، أجل سأطالب بالقصاص، بالقصاص، بالقصاص.
ارتفع صوته عاليا ممزوجا برنة أسى وغضب.
نطق أحدهم متأثرا بشدة: هيا يا رجال لنواصل عملية التنقيب عنها، لن تلتئم أخاديد جروحنا العميقة إلا وهي معنا.
وهتف آخرمؤكدا بصرامة: الهزيمة لن تكون من نصيبنا مادمنا أقوياء أشداء في وجه الظلم.
محاولة البحث عنها طيلة يوم كامل لم تسفر عن أية نتيجة ولذا عادوا إلى مساكنهم وقد نخر الأسف أكبادهم، وفتت قلوبهم.
تحت وقع الصدمة الرهيبة داهمته زوجته: ألم تعثروا عليها طيلة هذا الوقت؟
التحف الصمت رداء.
اختطفت الحذاء من بين يديه، ضمته إلى صدرها ضما قويا كأنما تخشى عليه من الضياع هو الآخر، سألته والعبرات السخينة تنحدر من عينيها مدرا را: أين وجدت حذاءها؟ أين عثرت عليه يا رجل؟ ولماذا عدت بدونها؟
انفجر كبركان ساحق لمدينة بأكملها: جرائم شنعاء ترتكب في حق صغارنا الأبرياء لا ذنب لهم، أين العدالة يارب؟ أين العدالة يا رب؟
أما هي انكمشت في مكانها انكماشا كليا وهي تجتر أقسى المعاناة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى