الجمعة ٢٩ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم فراس دهداري

الحقيقة والمجاز في سورة يوسف (ع)

أثر: فراس دهداري
أستاذ: جامعة پيام نوربندر امام خميني (ره)

المقدمة:
للبيان أهميته ومنزلته بين سائر علوم البلاغة؛ لمافيه من ارتباط وثيق بالإعجازالقرآني ولعلاقته الوثيقته بدراسة اللفظة من جهة الفصاحة والجزالة والسهولة. ولهذا العلم أثرة البارز في توضيح القرآن الكريم وذلك «لأن‍ه یعمل على إبراز ما في القرآن الكريم– وهوكتاب العقيدة الإسلامية وآيتها المعجزة- من وجوه الجمال التي يمتازبها، ويُبيّن سرّالإعجازالذي به كلام الله وامتاز به من كلام العرب سواء من ناحية مقاصده ومعانيه أومن ناحية أساليب تأديتها والعبارة عنها». لهذا اخترتُ عنوانا ً لمقالي هذا هوالحقيقة والمجاز في بلاغة سورة يوسف (ع).

مثلما يتطوّر الإنسان على مرّ العصور، تتطور معه اللغة التي تعبر عن أفكاره ومشاعره وشخصه، فاللغة كما يعرفها ابن جنّي «أصوات یعبر بها کل قوم عن أغراضهم».
 [1]

فإذا عبّرت اللغة كما موضوعة له في الأصل فهي حقيقة، وإلاّ هي مجاز. وبهذا تكون الحقيقة والمجاز في الكلام التعبيرعمّا يدور في الذهن المتکلم من أفکارومعان ٍ يريد إيصالها إلى المتلقي، فإذا أراد أنْ يؤثر في المتلقي ويوصل له الفكرة بشكل واضح وبتعبير قوي مال عن الحقيقة إلى المجاز؛ لأنّه أبلغ وأقوى في التصوير من الحقيقة.

وقبل أن نعرف لابدَّ أنْ نعرف الحقيقة لأنّها أساس المجاز. فالحقيقة هي «كلّ كلمة ما أريد بها ما وقعت له في وضع واضع ـــ وإنْ شئت قلت: في مواضعة ٍ ــ وقوعاً لا تستند فيه إلى غيره»،
 [2]

كما يعرفها السكاكيّ على أنّها« الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص».
 [3]

وكلّ تعريفاتها تدلّ على أنّها ما وضعت له في الأصل من غير تأويل فيها، فإذا دخل التأويل فيها صارت مجازاً.
ويقسم البلاغيون الحقيقة على ثلاثة أقسام « لغوية، وشرعية، وعرفية: خاصة وعامة. لأنَّ واضعها إنْ كان واضع اللغة فلغویة، وإن کان الشارع فشرعية، وإلاّ فعرّفية»
 [4]

ولا يُعنى البلاغيون بالحقيقة وأنواعها بقدر عنايتهم بالمجاز وأنواعه؛ لأنَّ فيه تظهربلاغة الكلام وبراعته بانتقاء الأافاظ المعبرة عن المعاني المختفية وراء ألفاظها والتي تفصح عن غرض المتكلم على أتمّ وجه.

المجاز:

أساس المجاز الحقيقة؛ لأنّه لا يمكن أن یکون هناك کلام مجازي إلاّ إذا کان له حقیقة ثابته إذ أنَّ «من المحال أن يكون هناك مجاز من غير حقيقة».
 [5]

فنصوص اللغة العربية وعلى رأسها القرآن الكريم يحتوي على الحقيقة والمجاز معاً حتى ترى فيه كثرة المجاز تلبيه لأهدافه السامية في تنقية النفوس وتهذيبها والرقي بالفعل الإِنساني الى اعلى المراتب من خلال التفكير والتأمل فيما يقرأ ويسمع.
فإن كانت الحقيقة استعمال اللفظ فيما موضوع له في أصل اللغة فالمجاز هو«كلّ كلمة أُريد بها غير ما وضعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول».
 [6]

ويعرفه السکاکی علی انه«الکلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا ً في الغير بالنسبة إلي نوع حقيقتها مع قرينة مانعة من إرادة ما تدل عليه بنفسها في ذلك النوع».
 [7]

ويعرفه العلوي علي انه«ما أفاد غير ما وضع له في أصل وضعه».
 [8]

وفي كل التعريفات يعني المجاز الخروج باللفظة عمّا موضوعة له في اصل وضعها باللغة. ولوجئت لأنواع المجاز عند الجرجاني فتجده علي نوعين هما مجاز في الإثبات ومجاز في المثبت إذ يقول في ذلك « إذا وقع [ المجاز] في الإثبات فهومتلقي من العقل وإذا عرض في المثبت فهومتلقي من اللغة».
 [9]

فالأول مجاز عقلي والثاني لغوي. أي أنّك في الأول تجد العقل هوالحاكم في أنْ يأتي المجاز مخالفأ للمعقول، ويكون في تركيب إسنادي ضمن جملة، في حين الثاني تكون اللغة هي الحاكم عليه وذلك ان اللفظة خرجت ان معناها الذي وضع لها في أصل اللغة الي معني آخر مخالف له.
ويأتي ابن الأصبع ليتفق مع الجرجاني في أقسام المجاز فيقول« والمجاز علي ثلاثه اقسام: قسم في الاثبات، وقسم في المثبت، وقسم فيها معاً».
 [10]

وهويري أنَّ المجاز في المثبت يكون في المفرد أمّا المجاز في الاثبات فيكون في الجملة.
وعليه فالمجاز هونقل الكلمة من معناها الحقيقي إلي معني آخر، ويشترط فيه أنْ تكون هناك علاقة بين معني الأول والمعني الثاني، وقد تكون هلاه العلاقة هي علاقة مشابهة كما في مجاز الاستعارة، وإنْ لم تكن علاقة مشابهة فهومجاز مرسل أوعقلي إذ يتميزان بكثرة علاقاتهما. ولابدَّ في المجاز من وجود القرينة التي «هي الأمر الذي يجعله المتكلم دليلأ علي أنّه أراد باللفظ غير ما وضع له، فهي تصرف الذهن عن المعني الوضعي، إلي المعني المجازي».
 [11]

فالمجاز اذن هوتجاوز المعني الأول عبورا ً إلي الثاني بعلاقة بينهما تعين علي معرفة المراد مع قرينة مانعة من إرادة المعني الأصلي وبهذا يخرج المجاز بالكلام عن المألوف ممّا يُثير في المتلقي الدهشة والتساؤل.

المجاز وقيمته الفنية:

تبقي للمجاز قيمتة الفنية والبلاغة في اللغة العربية، وبما أنّها وسيلة التعبـير عمّا يختلج في فكر الإنسان وذهنة من أفكار ومشاعر ولكي يعبر عنها أبلغ تعبـير ويصورها أجمل تصوير ويجعلها أكثر تأثيرأ وقوة تراه يميل عن الحقيقة إلي المجاز فيها، لأنَّ الحقيقة تصور الشيء كما هوفي حين المجاز يبالغ ويفخم في الشيء حتي يظهر ببهرجته وعنفوانه صورة واضحة للعيان إذ به يتم «الانتقال بذهن السماع إلي آفاق جديدة وصور رائعة، ومشاهد متناسقة، لا تتأ تيّ بالاستعمال الحقيقي، وهذا يعني القيام بعملية تجديد وتطوير لأسلوب اللغة».
 [12]

والقرآن الكريم تميز عن كل منظوم ومنثور بلغتة المجازية الراقية فتری فيه الانسجام بين الحقيقة والمجاز حتي تظهر فيه الصورة حسيّة مرئيّة ومسجّدة ومشخّصة بحسب ما يقتضيه الحال والمقام والغرض. وكثر فيه الميل إلي المجاز لما فيه من دلالات وأبعاد ومعانٍ تدلّ علي مرونة اللغة وقدرتها علي تصرف في الكلام.
فتري في المجاز اللفظ يحمل دلالة حقيقة فضلا ً عن دلالته المجازية، وهذا في حد ذاته يعطي اللغة قدرة علي الاتساع في الكلام فيه يمكن للغة أنْ تنسب القيام بالفعل الي ما ليس له القدرة علي القيام به كما في قوله تعالي « وَ أَخرَجَتِ الأَرضُ أَثقَالَهَا»
 [13]

فالأرض ليست هي الفاعل فهي لا تخرج ما فيها وإنّما الفاعل هوالله سبحانه وتعالي، فأسند الفعل للأرض مجازاً.
وهكذا يتسع نطاق اللغة ليشمل كل ما حولها وذلك باستخدام المجاز الذي هوقمة البلاغة والفصاحة. إذ به يتحول المعقول إلي محسوس وغير المرئي إلي مرئي فيتضح به المعني علي أتمّ وجه. ويبقي هووسيلة « من أحسن الوسائل البيانية التي تهدي إليها الطبيعة، لايضاح المعني، إذ به يخرج المعني متصفا ً بصفة حسية، تكاد تعرضه علي عيان السامع- لهذا- شغف العرب باستعمال( المجاز) لميها إلي الاتساع في الكلام، وإلي الدلالة علي كثرة معاني الألفاظ، ولما فيه من الدقة في التعبير، فيحصل للنفس به سرور وأريحية».
 [14]

ومثلما هووسيلة للاتساع في الكلام، فهووسيلة لتطوير دلالة الألفاظ وتضمينها معانيَ جديدة وذلك بالاعتماد علي ما فيه من علاقات تشرك المعني الأول بالثاني وتدلّ القرائن الحالية واللفظیة علي تلك المعاني الجديدة.
أي أنِّ المجاز« ضرب من التغير في الدلالة أوالمعني»
 [15]

فهويقوم علي الانتقال من معني الي معني اخر، وهذا الانتقال من المعني الاُصليّ للفظ الي المعني المجازي يقوم «علي تغير مجال الاستعمال، فالمعني الجديد ليس أخصّ من المعني القديم ولا أعمّ، بل هومساو ٍ له. ولذلك يتخذ هذا الانتقال المجاز سبيلا ً له، لما يملكه من المجاز من قوة التصرف في المعاني عبر مجموعة متعددة من العلاقات والاشكال».
 [16]

فالاستعمال المجازي للفظ يكسبه معنيً جديداً يساوي معناه الأصلي لکنـّه یکون أثر تأثیرا ً في المتلقي وأبلغ في التعبیر من الاستعمال الأصلي له. لما في المجاز من علاقات كثيرة تمنحه قدرة علي توليد معان ٍ جديدة.
ويمكن القول بأَنًّ « المجاز حدث لغوي يفسر لنا تطور اللغة بتطور دلالة ألفاظها علي المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن ادراك حقائقها إلاّ بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن ذلك بما يضيفه من قرائن، وما يضفیه من علاقات لغوية جديدة توازن بين المعاني والألفاظ».
 [17]

وعلى أساس ما تقدّم يكثر الميل إلى المجاز عن الحقيقة؛ لأنَّه يعمل على رصد المعاني والتعبير عنها بما هوأبلغ مع استكمال جمالية النص من الناحية الفنية وإبراز الصورة بشكل مؤثر ومقبول ومن ثم يعمل على إشغال فكر المتلقي بما يقرأ ويخلف حالة التفاعل بين المتلقي والنصّ حتى يصل إلى مقاصد المتكلم ومعانيه المجازية المقصودة.

أنواع المجاز:

یقسم المجاز شأنه شأن الفنون البلاغية الأخرى على أنواع وأول من أشار إلى تقسيماته هوالجرجاني إذ ينقسم عنده المجازعلى ضربين إذ يقول: «واعلم أنَّ المجازعلى ضربين مجاز من طريق اللغة ومجاز من طريق المعنى والمعقول، فإذا وصفنا بالمجاز الكلمة المفردة كقولنا (الید مجاز في النعمة) و(الأسد مجاز في الإنسان وكلّ ما ليس بالسبع المعروف) كان حكما ً أجريناه على ما جرى عليه من طريق اللغة، لأنا أردنا أنَّ المتكلم قد جاز باللفظة اصلها الذي وقعت له ابتداءً في اللغة وأوقعها إلى غير ذلك أمّا تشبيهاً وإمّا لصلة وملابسة بين ما نقلها اليه وما نقلها عنه. ومتى وصفنا بالمجازالجملة في الكلام كان مجازاً من طريق المعقول دون اللغة، وذلك أَنَّ الأوصاف اللاحقة للجمل من حيث هي جمل لا يصحّ ردّ ُها إلى اللغة، ولا وجه لنسبتها إلى واضعها، لأنَّ التأليف هوإسناد فعل إلى اسم أواسم إلى اسم وذلك شئ يحصل بقصد المتكلم».
 [18]

فالجرجاني حدد أقسام المجاز بنوعية اللغوي والعقلي، فان كان بالمفرد وعلاقته المشابهة فهولغوي، وما كان في الجملة فهوعقلي.

في حين نجد السكاكي يحدد أقسام المجاز في كتابه بخمسة فصول:
 [19]

مجاز لغوي راجع إلى المعنى خالٍ عن الفائدة.
مجاز لغوي معنوي مفيد خالٍ عن المبالغة في التشبيه.
الاستعارة.
مجاز لغوي راجع إلى حكم الكلمة.
مجاز عقلي.
وقد استقر البلاغيون على نوعين للمجاز هما(اللغوي والعقلي).

المجاز اللغوي (المرسل)

علی الرغم من قلة المواضع المجازیة في السورة فإنّها أعطت صورة واضحة وعبّرت تعبيراً جليّاً عن المعاني وراء الالفاظ. وترى كثرة المجازات في القرآن الكريم وذلك عندما يراد التعظيم أوالتفخيم أوالتشويق لأمر ما يشتراللفظ والمعنى معا في تصويره وهذا كثير ما نجده في المجاز اللغوي الذي يعني « نقل الألفاظ من حقائقها إلى معان ٍ أخرى بينها صلة وسقسم على مرسل واستعارة».
 [20]

ويعرفه بدوي طبانة على انه «استعمال اللفظ اوالترکیب فی غیر المعنی الذی وضعته له لعرب لعلاقة مانعة من ارادة المعني الاصلی»
 [21]

وعلى أية حال فإنَّ المجاز اللغوي يعتمد على نقل الالفاظ من معانيهاالمتعارف عليها في أصل موضعها الى معنى آخر يناسب غرض المتكلم لوجود علاقة تربط المعنى الأول بالثاني. ویقسم على اساس العلاقة إلى مرسل واستعارة. فإذا كانت العلاقة بين المعنيين المشابهة فهواستعارة، وإلا فهومجاز مرسل إذ يعرفه القزويني على أنّه «ما کانت العلاقة بين ما استعمل فيه وما وضع له ملابسة غير التشبيه كاليد إذا استعملت في النعمة».
 [22]

ویتمیز المجاز المرسل عن الاستعارة بأنَّ المعنيين فيه يرتبطان باکثر من علاقة. وابرزهذه العلاقات التي اتّضح فيها المجاز المرسل في السورة المباركة هي:
1. المسببية: بان يذكر المسبب ويراد السبب كما في قوله تعالى کما فی قوله تعالی«إنَّ النَّفس َ لأمّارَةُ بِالسوءِ».
 [23]

فــ«أمارة» مجاز، لأنَّ النفس لا تأمر بالسوء إلا بسبب وهوالإسراف في طاعة رغباته ونزواتها حتی تتحوّل بتلك الطاعة لها من مأمور إلى أمر ومن منفذ إلی موجه واجب الطاعة. وإنّما أطلق المسبب ليدلّ من خلال ذلك أنَّ الإنسان إذا أسرف في تلبية رغبات النفس سوف تکون علیه کالأمر المطاع الذي لا يناقش في شیء.

ويذكر المسبب(امارتها بالسوء) مع قصد السبب يكون التعبير أبلغ وأكثر تأثيراً فيما يدلّ على أنَّ النفس لا تأمر بالسوء إلا إذا أطيعت وأسرف في تلبية رغباتها الشيطانية. فأعطانا المجاز هنا خلاصة الفكرة في أنَّ النفس لا تكون أمارة بالسوء إلا إذا أطيعت في كلّ شئ. فكأنها إخبارٌ غير مباشرعلى أنَّ لا تطيع نفسك في كلّ شئ ولابدَّ أنْ تحكم العقل قبل البدء في أيّ خطوة كي لا تعطي للنفس فرصة أن تسيطر عليك.
2. الكلية: أنْ يطلق الكلُّ ويراد الجزء كما في قوله تعالى«... وابیَضَّت عَينَاهُ مِنَ الحزنِ...».
 [24]

«نعلم من علم الطب أنَّ القسم الظاهر من مقلة العين مؤلف في الأمام والمركز من طبقة شفافة تسمي (القرنیة) وفي وسطها دائرة مفرغة تسمي (الحدقة) ومن وراء الطبقة القرنية والحدقة، طبقة أخرى تحيط بالحدقة ذات لون أسمر، أوبني، أورمادي، أوأرزق، أوعسلي، أوأخضرتسمى(بالقزحية) وهي التي تعطي العين الصفة المميزة لها، ومن حول القرنية يأتي بياض العين الذي يؤلف القسم الاكبر من مقالة العين ويسمى (بالصلبة)؛ وعلى ذلك فيكون المراد من القول في (أبيضت عيناه) هوالقسم المركزي الملون من العين، أي أنّه عبر بلفظ الكل وأراد الجزء».
 [25]

وإنّما ذكر الكلّ وهو(ابيضاض العين) لما يحمله ذكر الكلّ من دلالة يفتقر لها ذكر الجزء مباشرة. فابيضاض العين في الآية الكريمة يدلّ على شدة الحزن الذي يولد البكاء ومن ثمَّ يؤدي ذلك الى القلب سواد العين إلى بياض فكأنّما انمحت معالم عينه بسبب كثرة البكاء وشدته وتحولت إلى قطعة بيضاء لا ترى فيها شيئاً من معالم العين. ولوعبرت الآية الكلام على حقيقته بان يقال(ذهب الله ببصره) لما دلـّت هذه شدة الآلآم والعذاب الذي عاشه نبي الله يعقوب(عليه السلام) على ابنه. إذن فالآية قصدت الجزء المركزي للعين الذي فيه يمكن البصر، وإنّما أطلق البياض من باب المجاز لما في ذلك من دلالة على ما كابده يعقوب(عليه السلام) من أحزان والآم على فقده إبنَهُ الحبيب، وإنّه ما فقد بصره إلاّ من كثرة الحزن والبكاء عليه. فكأنّما ابيضاض العين مرتبط بالبكاء الشديد المصحوب بالعبرة والآلآم وهذا ما كان عليه حال النبي يعقوب(عليه السلام). والذي یبدولي أنَّ بياض عين يعقوب(عليه السلام) حقيقة لا مجازلأنه من كثرة البكاء نزل في عينه الماء الأبيض فصارت كلُّها بياضاً أيْ «صارت فی عینیة غشاوة بيضتهما».
 [26]

وقیل إنَّ الابيضاض« کنایة عن العمى فیکون قد ذهب بصره(عليه السلام) بالكلية واستظهره أبوحيان بقوله تعالى «فارتدّ بصيراً» وهويقابل بالأعمى».
 [27]

وعليه فالابيضاض يدلّ على شدّة الحزن الذي يولد البكاء ومن لم يؤدي ذلك القلب سواد العين إلى البياض، فكأنّما انمحت معالم عينيه (عليه السلام) بسبب البكاء الشديد وتحولت كلها إلى قطعة بيضاء. والله اعلم.

3. الجزئية: إذ يُطلق الجزء ويُراد به الكلّ كما في قوله تعالى«... يَخلُ لَكُم وَجه أَبيـِكُم...»
 [28]
فــ ( وجه أبيكم) يعنى ذاته فقد أطلق القرآن الکریم في الآیة الكريمة الجزء وأراد الكلّ وعبر عن الذات بالوجه لما في لفظة الوجه من دلالات توحي بتوجهه (عليه السلام) لهم وانشغاله بهم.

4. اعتبار ما سيكون، أي تسمية الشیء بما سيؤول اليه في المستقبل كما في قوله تعالى«... إِنـِّي أرانِي أعصِرُ خَمراً... »
 [29]

فاالمجاز في(خمراً) فهوأطلق الخمر وأراد العنب لأنَّ الخمر لا يٌعصر وإنّما الذي يُعصر هوالعنب الذي سيتحول الي الخمر في المستقبل. وحسبي بأنّه جاء بلفظة (الخمر) تناسباً مع عمل الساقي صاحب الحلم.
5. المحليّة: أيْ أنْ تطلق المحل وتريد صاحب الحال كما في قوله تعالى« واسأل القرية...»
 [30]

فالمجازواقع في السؤال الموجه للقرية، والحقيقة أنَّ السؤال موجه إلى أهل القرية وليس للقرية، وعدل عن الحقيقة الى المجاز لما في ذلك المجازمن تأكيد، فهم أرادوا أنْ يؤكدوا لأبيهم أنَّ ما یقولون عن أخيهم بنيامين حقيقة ومن صدقهم ومصداقيتهم في الخبر الذي يحملونه لأبيهم ينطلق الجماد ويشهد لهم بالصدق، فهنا المجازحمل معنى التأكيد والاثبات لكلامهم إذ وجّه فيه السؤال إلى ما لا ينطلق، فكأنّما إذا سألت ما لا ينطق سيجيبك دلالة على صدق الخبر الذي حملوه لأبيهم.

وعليه يكون ما محذوف المجاز الجملة من باب المجاز وذلك لغرض يقصده المتكلم في نفسه وهوأنْ يصدقهم أبوهم ويقتنع بكلامهم، وهذا ما نجده عند الجرجاني إذ قال «إِنَّ الكلام إذا امتنع حمله على ظاهره حتى يدعوإلى تقدير حذفٍ أوإسقاطٍ مذكور ٍ على وجهين: الأول أنْ يكون امتناع تركه على ظاهره لأمرٍ يرجع إلى غرض المتكلم، كما في (واسأل القرية)، الثاني: أنْ يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بحذف أوزيادةٍ من أجل الكلام لا من حيث غرض المتكلم مثل (فصبر جميل) ».
 [31]

والظاهر أنَّ المجازهنا في الآية الكريمة (اسأل القرية) قد غيّر الحكم الإعرابي للكلمة(القرية) من مضاف اليه مجرورالی مضاف بعد حذف المضاف (الأهل) المنصوبة فأعربت (القرية) إعراب (أهلَ)، ومثلما غير الحكم الاعرابي للكلمة، اجتاز حدود الحقيقة في أنَّ السؤال وقع للقرية وهذا ليس بالحقيقة فهي لا تنطق فكيف يوجه اليها السؤال؟.

وبهذه الآية أجتيزت حدود الحقيقة بتوجيه السؤال إلى مالا ينطق خدمة لغرض المتكلم ومقاصده فكأنّما المتكلم دفع الخيال إلى تصور استنطاق الجماد تأكيداً وتصديقاَ للخبر الذي نقلوه لأبيهم فيشهد لهم بذلك حتى الجماد الذي لا يتكلم.
أيْ يمكنه أنْ يسأله فيُجيبه تأكيداً لصدق القول. وعليه فالمجاز«هوتعبير مبني على السعة والتجوز وليس مبنياً على حقيقة الكلام».
 [32]
فهویعطي للغة القدرة علی أن تتسع وتتجاوز حدود الحقیقة. والغایة من المجاز في هذه الآیة هوالتأکید علی صدق ما نقلوه لأبیهم.

المجاز العقلي:

إن کان المجاز المرسل یحدث فی الکلمه المفردة، فان العقلي تبقی فیه الالفاظ علی حالها ویکون في الاسناد فهو«اسناد، الفعل أومعناه، الی ملابس له، غیر ما هوله، بتأوّل وللفعل ملابسات شتی، یلابس الفاعل، والمفعول به، والمصدر، والزمان، المکان، والسبب».

 [33]
أي انك فط المجازالعقلي تسند الفعل الی غیر فاعله، والحاکم علیه هوالعقل فعندما تقول( انبت الربیعُ البقل) تجد الجمله في ترکیبها صحیحه لکن في معناها شیء لا یُعقل فالربیع لیس هوالذي ینبت البقل، بل ان البقل ینبت في وقته فأسند الفعل للزمن مجازاً ومبالغة في الامر، وعلیه تکون علاقته الزمانیة.
وجاء المجاز العقلي في السورة المبارکة فی موضع واحد وهوفي قوله تعالی «يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجافٌ...»،

 [34]

فالاسناد هنا مجازي وعلاقته الزمانیة، لأنَّ الفعل أسنِد إلی السنین. والحقیقه أنَّ السنین لیست هی الآکلة بل الناس هم الآکلون فیها. وعندما یعطي السنین صفة من صفات الإنسان وهی الأکل ففي هذه الحالة یکون قد شخّص السنین وعدّها بمثابة إنسان یأکل، وهذا مجاز لأنّ العقل لا یمکن أنْ یصدق بأنَّ السنین هي الآکلة. فعندما أسنِد الفعل لها مجازاً فذلك لقصد التأثیر فی السامع علی قساوة تلك السنین التي ستستمر علیهم وکأ نّها تتحول إلی إنسان یأکل ما حوله.

فانظر الی براعة التصویر القرآني فی مجازاته عندما شخص السنین وعدّها إنساناً لما ذلک التعبیر المجازي من دلاله علی قساوة تلك السنین وحدتها في القحط لتتحول هي الی الآکل بدلاً من المأکول فیها. وواضح مما تقـدم ان علاقة المجاز العلقي هنا الزمانیة.

بلاغة المجاز:

وهکذا یجتمع المجاز المرسل والعقلي في إيصال بأكثر تأثير وأبلغ تعبير حتّى تكاد أنْ تظهر للوهلة الأولى بأنّها حقيقة. ففي المجاز ترسّخ الفكرة في ذهن المتلقي وتصل إلى القلب وتحرّك المشاعر والأحاسيس لديه؛ لأنَّ المجاز هوالمعنى الباطن للكلمة أوللعبارة، إذ يجعل الكلمة أوالجملة تدلّ على معنى آخر غير معناها الحقيقي وكأنّه يعبر عن المعنى بطريقة غير مباشرة. فعندما يقول (اسأل القرية) لم يقصد بذلك السؤال نفسه بل المقصود الى مَن وَجه السؤال؟ وکان موجهاً للقرية، ولكن هل القرية تتكلم؟ بالتأكيد لا تتكلم. ومن ثم فإنَّ استنطاق الجماد يحمل في طياته مقاصد وأهم مقصد كما تقدم هولتأكيد الكلام المُساق فيه المجاز. وعندما یقول (يَأكُلُهُنَّ سَبعٌ عِجافٌ)، فالسنون لا تأكل ولا تشرب وانما هي مأكول فيها وعندما يُسند للسنين الفعل فتكون الجملة قد حملت معنى وهوالشدة والقساوة التي ستكون في تلك السنين حتى كأنّها هي التي تأكل من قساوتها وشدة الجدب والقحط فيها.

أفلا يدل هذا المجازعلى معان ٍ كانت مختفية وراء الكلمات والتراكيب الإسنادية ولا تصل إلاّ بعد أن تشغل الفكر وتُطيل النظر بتأمل وتستعين بالعاطفة والاحساس الأدبي وحينها تصل الى معانية المختلفية وراء الألفاظ. فلا غريب إذنْ ان نقول إنَّ المجاز عقل وعاطفة معاً، يشتركان في تحليل النصوص.
ويبقى للمجاز أثر في اتّساع اللغة وشموليتها وأثر في تصوير العبارة بحسب ما يقتضيه المعنى والغرض لدی المتكلم. وعلى الرغم من قلـّته بنوعيه فإن له أثراً في بيان الجانب البلاغي في السورة.

المصادر:
1- القرآن الكريم.
2- إبن جنی، أبی الفتح عثمان: الخصائص.
3- ألوسی البغدادی، شهاب الدین السید محمود: روح المعانی ج12/ج13/ دارالطباعة المیزیة، دار احیاء .
4- الجرجاني، عبدالقاهر بن عبدالرحمن: اسرار البلاغة.
5- سامرائی، فاضل صالح: الجملة العربیة تألیفها وأقسامها.
6- السكاكي، لابى يعقوب یوسف بن ابي بكر محمد بن على: مفتاح العلوم.
7- السيد، شفيع: التعبير البياني.
8- الصغیر، محمد حسین علی: الصورة الفنیة في المثل.
9- طبانة، بدوی: البیان العربی.
10- العلوى: سيد الإمام يحيي بن حمزه بن على بن ابراهيم: الطراز، ج1.
11- الغزي، عبدالله: مؤتمر تفسير سورة يوسف، ج1.
12- القزويني،الإيضاح: ج2.
13- المصري، ابي الاصبع: بديع القرآن.
14- مطلوب، أحمد : البلاغة العربية.
15- الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة.

PAGE

PAGE 18


[1« ابن جنی، ابوالفتح عثمان: الخصائص، ج1،ص33»

[2« الجرجانی، عبدالقاهر بن الرحمن: أسرار البلاغه، ص324»

[3«السکاکی، لابى يعقوب بن ابي بكر محمد بن على: مفتاح العلوم، ص619»

[4« القزويني: الإيضاح، ج2، ص268، وانظر: السكاكي، لإبي يعقوب يوسف بت ابي بكر محمد بن على: المفتحاح، ص171، والعلوى ، سيد الإمام يحيي بن حمزه بن على بن ابراهيم: الطراز، ج1، صص51-55»

[5«العلوى، سيد الإمام يحيي بن حمزه بن على بن ابراهيم: الطراز، ج1، ص45.»

[6«الجرجاني، عبىالقاهر بن عبداارحمن: أسرار البلاغة، ص325»

[7«السكاكي، لابي يعقوب يوسف بن ابي بكر محمد بن على: مفتاح العلوم،ص170»

[8«العلوى، سيد الامام يحيي ابن حمزه على بن ابراهيم: الطراز، ج1، ص45»

[9«المصدر نفسه، صص644- 345»

[10«المصري، إبن ابي الاصبع: بديع القرآن، صص176-177»

[11«الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة، هامش ص291»

[12«الصغير، محمد حسين على: الصورة الفنية في المثل القرآني، ص152»

[13«الزلزلة/2»

[14«الهاشمي، أحمد: جواهر البلاغة، هامش ص291»

[15«السيد، شفي: التعبير البياني، ص115»

[16«قد ور، أحمد محمد: الدلالة والتطور الدلالى، ص132»

[17«الصغير، محمد حسين على، الصورة الفنية في المثل القرآني، ص153»

[18«الجرجاني، عبدالقاهر بن عبدالرحمن: أسرار البلاغة، ص376»

[19«السكاكي، لإبى يعقوب بن ابي بكر محمد بن على : مفتاح العلوم، ص172»

[20«مطلوب، أحمد : البلاغة العربية، ص208»

[21« طبانة، بدوي: البيان العربي، ص23»

[22«القزويني،: الإيضاح، ج 1، ص270»

[23«یوسف/53»

[24«یوسف/84»

[25«الغزى، عبدالله: مؤتمر تفسير سورة يوسف، ج1، صص1153- 1154»

[26« الآلوسی، شهاب الدین السید محمود: روح المعانی، ج13،ص40»

[27«الآلوسی، شهاب الدین السید محمود: روح المعانی، ج13،ص40»

[28«يوسف/9، والسيد، شفيع،ص123»

[29«يوسف/36»

[30«يوسف/82»

[31«الجرجاني ، عبدالقاهر بن عبدالرحمن: أسرار البلاغة، صص 387- 388»

[32«السامرائي، فاضل صالح: الجملة العربية تأليفها وأقسامها، ص115»

[33«القزويني،: الإيضاح، ج 1، ص22، وانظر: لاشين، عبدالفتاح: المعاني في ضوء اساليب القرآن، ص146»

[34يوسف/43


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى