الأحد ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٢

الحكاية: إشارات وامتدادات في «الطيف لا يشبه أحدا»

رشيد أمديون

تمهيد

هذه أسئلة رافقتني وأنا أبحث عن مشترك نصوص مجموعة «الطيف لا يشبه أحدا»، وقد أنتج هذا البحث في المضمرات قراءة مقترحة تعيد بناء المعنى عن طريق إشارات المحكي وما نتج عنها من أسئلة متوالية تسير في خط حلزوني باحثة عن أجوبتها.

بدائية التواصل

«ما أحوجنا إلى بدائية التواصل وكم جميل أن لا يغزو الحرف قبائلنا فيخترق أحد أسرارنا الجميلة»2. في هذه العبارة، ثمة معنى مفاده أن التقنية الحديثة بقدر ما أبدعت أنماطا من التواصل للتقريب بين العالم، بقدر ما أوجدت فجوة عميقة، نقلت العالم إلى إنسانية مجزءَة بين جزر يغالبها الانفراد. لا نستطيع بذلك أن نجزم بأن الإنسان بالوسائل الحديثة اهتدى إلى ربط جسور تواصل أفضل مع مجتمعه مقارنة بالأزمان السالفة. وذلك وإمعانا في خلق علاقة مبنية على الرقة والوداعة3 بفضل الحوار والإقناع ووضع التصورات والعناية بالمِخيال الذي أثر في الوجود الذاتي والاجتماعي للإنسان.

يأخذ التواصل أشكالا متعددة منها: الحديث والمحاورة والاتصال.. كما تختلف وسائله التي تتمثل في اللغة وشكل ونمط الحروف والصوت ووسائل التقنية الحديثة... إضافة إلى العلامة والرمز، إذ تمثل بدورها وسيلة للتواصل، وقد تكون أبلغ من كل الوسائل الأخرى المبتكرة، صبغت في الزمن الموغل حياة الإنسان. نقرأ في قصة "فنجان السبت"4، أن علامات ورموز وألوان الزربية التي تنسجها المرأة في قبائل الجنوب، كانت وسيلة العروس لمخاطبة أمها والتواصل معها بعد عام من الفراق. نمط تقول عنه الجدة في القصة: «طقس غريب وفاتن. كتلة من الكلمات والجمل مغموسة في اللون ومرشوشة في أشكال بدائية. الفتاة هناك تقطف من كل خطوها طوال العام حرفا، قصص أولى، حكايات جريحة وعتيقة، والريح التي تهب، تصنع منها جميعها حكاياتها على "المنسج" زربية ستحملها مع أشياء أخرى، الحناء في الغالب واللوز والتين المجفف في أول زيارة لأمها بعد الزواج...»5. حياكة الزربية يعادل حكاية الهموم والأسرار والمسار أيضا. بعد إنصات للزمن، وخروج من حالة التلقي/ الالتقاط، تبادر العروس إلى حالة الخطاب الرمزي. إشارات تقول عنها الجدة: «كل لون رحلة، تلك العقد في طرف البساط خلافات بسيطة لم تدم طويلا. النقش الدائري حركات البيت. التدبير ودور الزوجة. والنقط السوداء المحاطة بالأحمر سرٌّ. عادة ما يكون كلاما عن المعاشرة الزوجية..»6. تفك العروس عزلتها عبر الرموز والألوان والأشكال.. التي تعد وسيلتها: «إنها رموز للتواصل. مع الأم بالخصوص»7. حكي بدائي قديم، تختزن رموزه أسرارا يقرأُها من يتقن فن الإنصات، ويدرك قيمة التواصل الحقيقي. فالزربية مساحة حكايات تخاطب من يلتقط إشاراتها، ويترجم مضمونها بأبعادها الخيالية.

نقرأ أيضا أن الجدة في القصة تبدو في حالة من العزلة: «عالمها خاص جدا، تصنعه وحدها. وتعيشه وحدها..»8. لكن لمَّا ذكر السارد أمامها الزربية، انتقلت من حالة العزلة إلى حالة التواصل. أي ربطت تواصلا مع جيل السارد الذي غزت حياته التقنية الحديثة، فعرَّفت بالزربية وما تضمره خطوطها الرمزية من حكايات وأسرار.

نستنتج إذن، أن قصة "فنجان السبت" لا تستحضر التواصل البدائي (بقيمته التي يمثلها للأجيال الماضية)، إلا لتقابله بالتواصل المعاصر عبر وسائل حديثة وتقنيات سريعة انغمس فيها الإنسان نفسيا واجتماعيا. وقد أشار القاص إلى هذا الجانب، إذ لمَّا تناول السارد هاتفه، وبعث رسالة قصيرة إلى "ساميا" قال فيها: «ما أحوجنا إلى بدائية التواصل وكم جميل أن لا يغزو الحرف قبائلنا فيخترق أحد أسرارنا الجميلة»9. فهل كانت هذه الأمنية نتاج ملل وسأم - هذه الشخصية - من العزلة التي أوجدتها تقنيات التواصل الحديثة التي لم تحقق الجوهر وإن كانت أوجدت الشكل؟

لابد أن رسالةَ الساردِ جوابٌ مُضمر، يشير إلى أن هذه الوسائل ما حققت الدفء والأمان بل أوجدت ما يشبه عزلة وانطواء، وحدودا اجتماعية ترسم جزرا إنسانية متباعدة، لا تبيح نقاط الالتقاء، ولا يستشعر الإنسان فيها جوهر الحياة الذي هو الـتآلف والوحدة وتحقيق الحوار والتبادل المفضي إلى السلم النفسي والاجتماعي.
الإشارة

الإشارة «تغني عن العبارة»10، كما تغني –أيضا- عن عناء التصريح. وهذا ما قرأناه في قصة "فنجان السبت" على لسان الجدة وهي تردد حكمتها: «سرّْ تحْكيهْ الغيمة لسكة المحراث»11. فأسرار الحياة توجد في التفاصيل. إشارات تختزن حكايات قديمة أو آتية.

الإشارة أداة استئناس تجلب الألفة. تقرب المتباعدين. تحقق مقدمات التواصل. وتؤثث فضاءَ التلاقي. وهذا ما دفع السارد في قصة "الطيف لا يشبه أحدا" إلى التوسل بلعبة الإشارة الضوئية ليربط تواصلا مع طيف إنسان يراه من نافذة بيته. يقول: «أمعنت النظر فبدا لي ما يشبه طيف إنسان، وفكرت أن نافذتي وحدها مضاءة قبالته، فأطفأت النور، وانطفأ ضوء النافذة البعيدة أيضا، ثم أشعلت الضوء وأطفأته، فاشتعل ضوءها وانطفأ..!!»12. الإطلال من النافذة يعني الانفتاح على الخارج. وهي الرغبة في التبادل والرغبة في معرفة الآخر.

قسم الكاتب القصة إلى نصين، نص "من هنا" ونص "من هناك". شخصية النص الأول تراقب شخصية النص الثاني. هناك شبه بينهما: «الوجه الذي يشبهني كصرخة متكررة تسلل مثل طيف، يلتمس الخلاص خارج هذا الصباح المقعد»13. الشبه المتكرر يكمن في المسارات والمصائر والمواقف وأنماط العيش، لكن بشكل منفصل وبحواجز مانعة للتواصل تفرض عزلة على سكان المدينة. السارد /الشخصية عالج وحدته بابتكار لعبة الإشارة الضوئية. يقول: «أعجبتني اللعبة فأعدتها بتقطع وتكررت.. وكانت دعوة مبهمة لصداقة مبهمة، وفهمت أننا صرنا صديقين، وأنها تحية أولى وحوار بالغ التكثيف»14. إشارة أفضت إلى حوار بالغ التكثيف. حوار متخيل، وتجاوب متخيل. إشارة من طرف واحد، غير أنها بعثت الطمأنينة والرضا في نفس السارد/الشخصية، وحقق من خلالها تواصله الافتراضي مع "الطيف" الذي يشبهه.

في قصة "اللوح غير المحفوظ"15، أهدى الفقيه "السي محجوب" برتقالة للطفل. إشارة تأذن له بالانصراف. يفك الطفل عزلته، وينطلق إلى اللعب، منفلتا من فضاء ضيِّق إلى الفسيح... ومن عزلة الكُتّاب الموحشة (في نظره) إلى رحابة جوار النهر حيث يلعب أقرانه...

وإلى جانب كون برتقالة الفقيه إشارة للطفل بالانصراف فهي أيضا إشارة تختزن حكاية لم تقلها القصة، قد تكون حكاية المرأة ذات الرداء الأبيض مع الفقيه "السي محجوب" اللذان اختفيا خلف «الباب الضيق المفضي لغرفة الجلوس والأكل والنوم..»16 ثم خرجا بعد ذلك... حمل الفقيه برتقالة إلى الطفل ومسح على رأسه ليطمئن. والنص خال من الحوار بالكلام. عوضته الإشارات والحركات. نتخيل ماذا قال الفقيه للمرأة.. ماذا فعلا في الغرفة؟؟ الحكاية هنا تكمن خلف هذه الحركات والإشارات. الحكاية هي النص الحاضر والغائب في القصةـ تتشكل وتمتد في ذهن المتلقي.

نقرأ كذلك في قصة "أصبع الحرب" إشارة تمثلها «علامة استفهام غير منقطة وثلاث نقط أفقية»17. بها حققت شخصية النص التواصل مع المجتمع في دائرة وحَّدته مع الكثيرين وانتشلتهم من عزلتهم، يقول السارد: «بعد أسابيع صارت الدائرة تكبر، وسرّه أنها أضحت تتواصل. في خطوات بطيئة وإيقاعية، عكس عقارب الساعة-حتى بعد عودته للبيت، فثمّة على مدار اليوم مناوبون... رسموا على لوح خشبي علامة استفهام غير منقطة وثلاث نقط أفقية، ووضعوا اللوح في مركز الدائرة»18. بطل النص جندي أضاع كل شيء في حرب قديمة. ورث منها أصبع حرب معقوف كحكاية حرب من زمن اختل فيه التوازن والتواصل. أصبع حرب يشبه علامة استفهام تجر أسئلة كثيرة: ما الجدوى من كل ما حدث؟ وما الغاية من الحرب؟ وما النتيجة؟ فأما النتيجة فكما قال السارد: «محنة إشعاع وحطام داخلي.. وخواء»19. تصوير بالغ الدقة للإنسانية المحطمة بفعل طاحونة الحروب التي لا تبقي ولا تذر. حروب على مدار الإنسانية تحكي المآسي. والحكاية تتكرر...

من خلال هذه الإشارات التي التقطناها نخلق بدورنا مع النصوص علاقة تواصل تلغي الهوة المفترضة بين الباث والمتلقي، لكون «وظيفة السرد هي إعادة التوازن لعلاقة مختلّة»20. لماذا علاقة مختلة؟ لأن النص يحتاج إنصاتا وتتبعا لتحصل الألفة. وتأتي الألفة من الاستئناس بالإشارات المقروءة حال التقاطها. وهي متفرقة، كما تفرقت أشلاء جثث الجند في صحراء الحرب في قصة "ما لم يحكه لي أبي كي أنام". على القارئ والمتلقي أن يجمع هذه الإشارات لينسج المعنى ويتواصل مع ما يسعى الكاتب إلى بثه من حكايات ظاهرة ومضمرة. حكاية الإنسان في عالم متناقض. ينزع إلى الحروب، وفي نفس الآن ينادي إلى السّلم والحقوق وكرامة الإنسان.

إنسانية بين رصاصتين

قديما قال الشاعر: «فإن النار بالعودين تذكى * وإن الحرب أولها الكلام»21. انعدام الحوار والتفاهم يفضي إلى العدوانية والعنف واندلاع الحروب. والكلام سلاح ذو حدين يمكن أن يحقق التواصل والحوار والسلام، كما يمكن أن يرفع راية الحروب في العالم.

في قصتي «أصبع الحرب» و«ما لم يكن أبي يحكيه لي كي أنام» تتجلى رغبة القاص في تحقيق الوعي بسلبية الانفصال الذي يخلفه العنف. سرد يوقظ الوعي لإدراك القطيعة التي تنتجها الحروب حالا ومآلا، نقرأ: «مرت خمس وثلاثون سنة ونيف على الحرب القذرة، وما تبقى: محنة إشعاع وحطام داخلي.. وخواء.»22. الحرب تربك وحدة التواصل في الكون والعالم، تخلخل نظام الوجود وتوقف سيمفونية النغم وتبعثر نوتاتها. يحمل السارد السؤال كعلامة أصبع الحرب التي تؤرقه كما يؤرقه الجواب: «كيف انفرطت خطوط النغم في الكون؟»23. سؤال وجودي، لأن الوجود بالأساس قائم على إرساء مفاهيم التواصل والوحدة (من التواحد والتماسك)، والبشرية تنزع بوعي أو بغير وعي إلى الحروب والقتال رغم الهدنة البادية أكثر مما تنزع إلى السلم والاتصال، نقرأ: «تحكي (الساردة): كان الجاران يرسمان خيطا متصاعدا على مدى ثلاثين سنة باتجاه الأزمة آنداك، ولم تكن الحالة آنئذ حالة انفجار حربٍ معلنة ولا كانت حالة سِلْمٍ، بل كانت شيئا آخر بين هذه وتلك، فيها من كل حالة ملامح كثيرة»24. علاقة لا لون ولا شكل لها. بما يعني أن شرارة حقيرة قادرة على تأجيج العلاقات –الرمادية- حين يفقد الإنسان عموما أساليب التواصل القائم على التبادل بغاية تعمير الأرض، «وحين يصير التبادل مستحيلا لا يبقى إلا العنف ولغة القوة»25. والحرب أولها كلام، لغير اتفاق. كلام للخلاف والفرقة والنزاع. وما الحرب حقيقة إلا قضاء على إنسانية الإنسان، وهذا ما أبدعت في طرحه قصة "ما لم يكن أبي يحكيه لي كي أنام". تقول الساردة وهي تحكي للبنية التي تبحث عن قبر والدها في الصحراء: «نجمع أشلاء الحرب، ونضم أطراف الأجساد إلى بعضها كي تكتمل الجثة من قطع اللحم. نضعها في صندوق الخشب بلا غطاء. وفيما بعد-بوسطات دولية- يتبادل الطرفان جثث الجنود ويحتفي العالم والإعلام بلحظات التبادل.. أما نحن فما كان علينا غير ترتيب الأجزاء وسط نزيف الغربة والخوف والشوق إلى البلاد. وفي رؤوسنا عمل دائم وتفانٍ، وألف سؤال، و...»26. نتأمل عبارة "التبادل" الواردة في النص. نطرح سؤالا، هل التبادل دليل على بداية التواصل؟ لكنه تبادل للجثث! بما يعني أن هذا التواصل متأخر جدا، قام على جثت القتلى وكرامة الإنسان، أيعتبر هذا انتصارا حضاريا، أم دليلا على الانحطاط؟

الحرب تربك نفسية الإنسان وتعتم الجانب المضيء فيه، خاصة الذي عانى فقدان المقربين منه وشهد موتهم. و« زمن الحرب دائما زمن موجع»27، زمن يحكم على الإنسان (مآلا) بفراغ حياته من المعنى. وحين نعود إلى الجندي في قصة "أصبع الحرب"، نجد إنسانا ينوء بحمل كبير وبحزن عظيم من جراء ما شهده في زمن الحرب.

حياته صارت بلا معنى، يقول السارد: «فعبرت أمام عينيه سريعة لحظات كان الرفاق فيها يتشبثون بدمائهم، فيما الحياة كانت تذوي شهقة شهقة، والأرض تترف بالقتلى»28. خرج الجندي من حالة عزلته وحزنه وضيق وحدته برسم دائرة كبيرة يدور على خطها عكس اتجاه عقارب الساعة، يقول السارد: «كانت الساحة تبتعد عن خرسها وتتربص بالعابرين والزوار خطوة خطوة، وكان رجل هناك يدور سائرا على الخط تماما إلى الخلف وعكس اتجاه عقارب الساعة، كان يسير ببطء كما لو يقلد مشي حيوان ضخم عجوز»29. المشي إلى الخلف وعلى خط دائري يفيد رغبة الجندي في رجوع الزمن إلى ما قبل الحرب (خاصة وأنه يسترجع لحظات قاسية)، يتمنى الرجوع، لعل كل شيء يختلف حين يتواصل الإنسان مع أخيه. رسم تلك الدائرة التي تمثل وحدة اتصال بينه وبين المجتمع، هذا حتى يعثر على كينونته وإنسانيته ويحقق جوهر التواصل بين الناس. ثم إن الدوران هو بحث عن الجواب المقنع لسؤال الحرب والموت واللامعنى، أليس هو الذي يحمل علامة استفهام غير منقطة؟

تيمة الحرب في القصتين إشارة إلى بئر الضياع الإنساني. هاوية تبتلع كل القيم الحضارية. أسبابها غالبا ناتجة عن انفصال وغياب طرق التواصل والحوار، نقرأ: «وكانت الساردة تحكي عن زمن الانفصال والحرب التي اشتعلت والأسر التي مزّقها النزيف والجدار»30. وهذه لوحة من لوحات البؤس الإنساني الذي يتمثل في يقظة الجانب الوحشي في الإنسان، ويصير كائنا ينزع إلى العنف والدمار والقتل، بدل تعمير الأرض...

كل الحروب لغة واحدة. الدمار/الخراب، وما هي بلغة التواصل والتقارب !! فـ« ما أقسى حكاية الحرب بين رصاصتين» رصاصة من هنا ورصاصة من هناك تنتجان الضياع في صحراء مظلمة يمتد فيها الصمت والليل في عالم بشع عنيف يحكي حكاية حرب، ويمجد بالكلامِ السلام المزعوم.

شغف المعرفة

في قصة "ما لم يكن أبي يحكيه لي كي أنام" تتجلى حكاية الموت الدائرة مع رحى الحرب التي تقضي على ذاكرة الإنسان وحياته وإنسانيته. الحكاية في هذه القصة بدت متناثرة، موزعة كأجساد الجنود المنشطرة بالألغام والقنابل في تجربة اللامعنى (الحرب). حكاية تجمع تفاصيلها شخصية "البنية". تروم بذلك ربط تواصل مع الماضي عبر ما تحكيه لها المرأة التي شهدت زمن الحرب: «البُنية تجمع شتات الزمن القديم في قبضة..»31. هذا الالتقاط يساعدها كي تعيد تشكيل حكاية يأتلف فيها المعنى وتتجلى فيها الحقيقة بدل تلك العزلة التي أوقعتها في صحراء الغموض والتيه، تجر خطواتها باحثة عن القبر الحقيقي الذي يضم رفات أطراف جسد والدها -كما أخبرتها المرأة- هذا الجمع للتفاصيل أفضى بالبنية إلى أن تقول (في النهاية) خلاصة ما وصلت إليه: «لم يكن القبر قبر أبي، ولا ذكراه. كان القبر تاريخ كتائب الجند وأشلائهم، وكان القبر تاريخ مرحلة بقطع كثيرة»32، ذلك لأن قبره لم يعد إلا رمز مرحلة إنسانية سقطت في الهاوية وخلفت أوجاعها للحاضر. جمعت البنية شتات الحكاية لتبصر المعنى وتستخلص الحكمة بدافع من شغف المعرفة.

البنية تقتفي أثر الحكاية وهي خلف المرأة ذات الملاءة. القارئ بدوره يهرول وراء هذه القصة ليجمع الشتات، في عملية تواصل مع النص. يحتك أكثر بالتفاصيل التي تبدو هنا كشظايا متناثرة تقتضي مواصلة القراءة للقبض على المعنى، فيما يشبه الاستدراج والانتقال.

ينمو شغف المتلقي إلى الوصول إلى مغزى القصص في المجموعة حتى يربط معها تواصلا بدل عزلته في أرض الإيحاءات أو الإحساس بالانفراد والغربة بين سياقات السرد العجيب. يتجلى هذا بشكل كبير في القصة الأخيرة "عودوا غدا" التي تبرز شغف الملتقي بالحكاية التي يرويها الراوي ولم يكملها حيث أجّل البقية إلى الغد. ولكن المستمع مستعجل لمعرفة ما وراء الباب الثاني و"العتبة المكثفة"، وماذا سيختار سلمان (شخصية النص)، في تلك الحكاية المرجأة.

السر والامتداد

لكل حكاية أسرار تتجلى في التفاصيل والفراغات التي تستمد منها المادة الحكائية قوة التوهج. تمتد عابرة في الخيال تنتقل من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر.

في قصة "رجل ينتظر ماما دْوُويا"، تدور حياة البوهالي في دائرة الانتظار. يحمل حكاية (وهي مركز الدائرة) ليمنحها يوما ما لزوج أخته الذي أبحر قبل سنوات طويلة. يعني أنه انتقال بالحكاية من زمن إلى زمن، إضافة إلى انتقاله بين مكانين: مكان للإنصات (حيث يعتزل في شاطئ البحر، وتحديدا على صخرة تدعى صخرة الخضر). ومكان للحكي، (النادي حيث يتواصل مع الناس).

داخل هذا الانتقال يحمل البوهالي حكايته التي يسردها. والحكي بالنسبة إليه سبيل إلى الوعي بالفقدان، (فقدان: زوجته، ابنته، أخته) يبوح بألمه للآخرين، ويؤثث تفاصيل جمعها من الذاكرة، وبسردها يحقق كينونته ببعض من الألفة، قبل أن يعود إلى عزلته والخمرةِ، فيما يشبه الدخول في مرحلة الانطواء على الذات.

حكاية البوهالي يكتنفها غموض ممتع. هي بلا بداية، كما تفتقد إلى نهاية. لماذا؟ لأن البوهالي لم يتحدث عن السنوات العشر التي قضاها في السجن، يقول السارد: «وفي ذلك اليوم، لم يتحدث عن السنوات العشر التي قضاها في السجن»33، وهذا أحد أسرار الحكاية التي تُنبت الحيرة وترخي ظلال الأسئلة، وتحير السارد/الشخصية، حيث قال: «فقد كدت أسأله من أين أتى هو، وترددت»34. ولهذا تبين أن الحكاية تحتفظ بأسرار تجر خلفها أسئلة مفترضة، مثل: من قتل ابنته التي وجد جثتها على الشاطئ؟ وأين ذهبت زوجته وأخته؟ وهل فعلا سيعود زوج أخته من ابحاره؟ إضافة إلى كون البوهالي شخصية غامضة، تثير بدورها جملة من الأسئلة، بداية من الاسم "البوهالي" وهو صفة تطلق على الأشخاص الهائمين في الأرض كالمجاذيب، لهم عوالمهم الخاصة. كغرباء بين الناس، لا يتواصلون إلا قليلا.

تعتبر الأسئلة التي اقترحناها، أسئلة المُحكَى له، ينتجها المتلقي في تواصله مع حكاية النص ويفترض لها أجوبة. أسئلة يُقلق بها القاصُ القارئ فتزداد حكاية القصة إغراء ولا ينطفئ وهجها. تمتد ولا تتقلص. تمتد لأن البوهالي ينتظر زوج أخته أن يعود ليمنحه حكايته كاملة، وبما أنه سيظل ينتظر فسينسج حتما خيوطها بالسر والسحر. ونهاية الحكاية لن تكون إلا بعودة زوج أخته من جهة البحر، وهذا يعني أن الحكاية مرجأة، لأن الأسئلة التي طرحناها –وهي نفس الأسئلة التي نشترك فيها مع السارد ضمنيا بصفته متلق أيضا- تظل إجابتها مرهونة بعودة غائب النص (زوج أخت البوهالي) وبالتالي يصير الإرجاء جزءا من النص، مشغِّلا –إلى جانب المكونات السردية الأخرى- لمتعة التلقي35.

كلما أعدنا النظر في النص، فلن تكف الأسئلة في التناسل، لهذا تقابلنا وبالتتالي وفي «الخط الحلزوني اللانهائي»36، أسئلة منها مثلا: لماذا اختار البوهالي الجلوس على صخرة تدعى "صخرة الخضر"، أليس لهذا الاسم دلالة ترتبط بقصة موسى وفتاه حين نسيا حوتهما وعادا إلى الصخرة فوجدا عندها الخضر، فتم اللقاء الذي كان يرتجيانه؟ وأين تتجلى علاقة هذا الاسم بقصة موسى، هل في اللقاء الذي تم بين موسى والخضر أم في العودة؟ ثم لنتمهل ونسأل أيضا: عودة من؟ هل المقصود هو عودة موسى إلى الصخرة أم عودة الحوت إلى الماء؟ أي هل يمكن للحوت أن يعود إلى الصخرة في قصة موسى بعدما «اتخذ سبيله في البحر سربا»؟ إن كان هناك وجودٌ لاحتمال قديم، أن يتم ذلك، فيمكن أيضا لزوج أخت البوهالي أن يعود بعدما اتخذ سبيله في البحر على متن سفينة وامتد غيابه لأعوام طويلة؟

إن صخرة الخضر بالشاطئ (مجلس البوهالي) لها رمزية تدل على العودة (كما عاد موسى وفتاه إلى الصخرة، فوجدا الخضر). بالنسبة للبوهالي فإنه يعتبر العودة حدثا سيقع لا محالة، لهذا يظل مرتقبا على صخرة الخضر التي تقع بين عالمين مختلفين، البر والبحر (كالحاضر تماما). البر يمثل له الماضي، والبحر يمثل له المستقبل (الغيب) الذي يتشوف إليه. البَرُ شَرٌ يحكيه ويحمل عنه حكايته المرجأة، والبحر خيرٌ ينتظره أو هو نجاة وخلاص، لهذا فهو يتشوف إلى معرفة المسار القادم (زوج أخته كمفتاح لهذا المسار).

إن لغز الحكاية من أسباب إنتاج الأسئلة وتناسلها، ويتحمل المتلقي مشاكساتها، لأن التلقي يتولّد من عملية متوترة تشكل الدهشة الأولى. وهذا ما حققته حكاية هذا النص عن طريق إشارات وامضة هي إشارات المحكي، التي تؤسس عند المتلقي نصا افتراضيا يعبر به نحو عالم الألفة مبتعدا من عالم الغرابة إنْ هو التقط الإشارات وأوَّل المضمرات وافترض للأسئلة إجابات مؤقتة، يفترض فيها الإشباع الدلالي والفني.

هناك احتمال آخر يفرض نفسه ولا يجدر تجاوزه (وهو أيضا من أسرار الحكاية). ربما حكاية البوهالي التي يرويها في نادي المرسى هي محض خيال يأسر بها عقول مستمعيه ويؤثر على مشاعرهم ليحصل على مشروب الخمر (وهذا نوع من التبادل). البوهالي «يشرب كثيرا» (قد يشرب لينسى أو ليتخيل). وتدفعه حاجته للخمر وفك العزلة إلى الاحتيال بهذه الحكاية وإيهام الناس بواقعيتها. في مقامات الحريري، نجد شخصية أبي زيد السروجي تتقن الاحتيال، لأنها تتخذ الحكي سبيلا إلى إبهار المتلقي والـتأثير عليه قصد الحصول على المال كما حدث في «المقامة الكوفية»37. فالحكاية عند السروجي ليست إلا لبلوغ مراده. ونجد أن السارد الذي هو الحارث بن همام، لما علم في آخر المقامة أن الحكاية التي رويت له هي محض وهم أيقن أن السروجي احتَال عليه، فقال: «فنظر إلي (أي السروجي) نظرة الخادع إلى المخدوع. وضحك حتى تغرغرت مقلتاه بالدمع»38. إن الذي أخبر الحارث بن همام بحقيقة الأمر هو نفسه صاحب الحكاية المحتالة. أما في قصة «رجل ينتظر "مامبا دْوُويا"» فالذي صرح بعدم صدق حكاية البوهالي هو أحد جلساء النادي من البحارة، قال: «من يصدق حكايات البوهالي يا رجل..؟!»39، أما البوهالي فدوره أن يحكي ليحصل على غايته، ثم يعود للجلوس على صخرة الخضر ممعنا في الخيال. ثم لنلاحظ أنه قال «حكايات»، بدل "حكاية". أيكون للبوهالي سلسلة من الحكايات وهذه واحدة منها؟ هنا يقع القارئ في مأزق، التصديق أم التكذيب، وهي منطقة وسطى بين الخيال والواقعية. إيهام جميل كونته الحكاية التي تلتبسها الغرابة. وفي سعي إلى إبراز خاصية الاحتيال، نجدها في أول حكاية في الوجود نسجها الشيطان بالاحتيال والخيال، مصورا لآدم وحواء حكاية الخلود ﴿أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين﴾40 «وصدقها آدم وافتتن بها»41.

بناء على ما سبق يتضح أن للحكاية مسالك. و«في الحروف متسع، ومسلك شاسع للعبور»42 نحو أرخبيل الخيال. لكل خيال امتداد يحتفظ بالحكاية المرجأة، يتوسل السارد إلى الراوي (في قصة «عودوا غدا»): «ماذا سيحدث خلف الباب الثاني؟ أريد أن ألج الباب الثاني، العتبة الكثيفة..»43. وكما حدث للبوهالي الذي أرجأ حكايته الغريبة إلى أن يعود زوج أخته. نوع من التمديد لزمن حكاية متنقلة، متوهجة و«موقنة بالسر وبالسحر»44 تندهش العقول وتنشدُّ إلى المعنى وإلى الحدث البعدي، تتلمس مسلك العبور إلى الحكاية التي تمنح متعة الإغراء والتشويق، والإغواء والإيهام بواقعيتها.

خاتمة

"الطيف لا يشبه أحدا"، التقاط فني ودلالي لصورة الإنسان داخل عوالم مشحونة بالقلق والتوتر، تزج به في بوتقة الانطواء والغربة. حالة مسببة للخوف الذي يأخذ منحيين: الأول الخوف من الوحدة التي تؤثر على كينونته وتمس حقه في الوجود. والثاني الخوف من المجتمع/العالم البشع العنيف الذي يهدد استقراره وتوازنه النفسي. هذه الحالة نتاج انعدام عنصري المبادلة والحوار المحققان للكرامة الإنسانية، ورغم كل الوسائل العصرية الـمُنادية إلى بناء جسور التواصل والسلم (وجوائز نوبل للسلام) فالعالم ينحدر إلى سياقات تشير إلى ازدواجية في التفكير تتحكم في كائن مريض بالعنف والتملك والتسلط، لم يرق بعد لتعمير العالم...

كل مادة حكائية خزان لحكاية الإنسان البدائي الأول الذي أراد يوما أن يحقق التواصل مع الوجود والعالم حوله بالرموز والعلامات فأنتج خطابات رمزية منحوتة على الصخر أو غيره.. تماما كحكاية الزربية الأمازيغية عند قبائل الجنوب. كل أثر رمزي حكاية إنسان، إما تروي سيرته أو ترمز إلى حقبة من العنف أو السلم أو البين بين...
وبانتقال الحكاية من الرمزي ثم إلى الشفهي... أقامت بعد ذلك في النص القصصي كمكوّن أساسي. وخارج النص، أقامت في ذهن المتلقي وفي دهشته وحيرته وبين أسئلته الحارقة التي لا تؤمن إلا بالأجوبة الحارقة والمتعددة في عملية تخيل المسارات القادمة عبر التقاط الإشارات والرموز، بشغف معرفي وتطلع نحو القادم. هذا لأن تلقي الحكاية هو رحلة افتراضية للعبور من وادي الغربة إلى وادي الألفة حيث الخيال يمنح التصورات، وتتشكل بنى التواصل والتبادل والانفتاح، كشهرزاد التي عبرت بها الحكاية إلى ضفة النجاة حين تخلَّص شهريار من عقدته بعد الحكاية الألف في الليلة الأخيرة. العبور إلى ضفة النجاة (الألفة) هو العبور أيضا إلى الحكمة ودائرة الخلاص، وإيقاظ الوعي (مثل حكايات "بيدبا" الفيلسوف لدبشليم الملك. الحكمة تمثل النجاة، هدفها صيانة الحياة المشتركة بين الأفراد والمجتمعات وبعث الوعي بالخلل أو الضياع أو حتى المأزق الذي سقط في دوامته الكائن الإنساني في رحلة بحثه في الأرض، فسار في مسارب التيه والتناقض (بين العنف والسلام)، يتَمثَّل لنفسه من بعيد كطيف لا يشبه أحدا، لأنه يشبه الإنسانية (البدائية والمعاصرة) في مساحة حكاية ابتدأت بالخيال وبالإيهام (بالخلود) ولمّا تنتهي في الواقع بعد، على هذه الأرض، لأنها حكاية مرجأة تمتد نحو الأمام إلى أن يأتي من يكملها، أو يضيف إليها تفاصيل أخرى تحمل شيئا منه أو من خياله الإنساني السليم أو المريض.

الهوامش:

1 حسام الدين نوالي: الطيف لا يشبه أحدا، منشورات ديهيا، ط.1، بركان 2015.
2 حسام الدين نوالي: الطيف لا يشبه أحدا، ص: 40.
3 عبد الفتاح كيليطو: الحكاية والتأويل، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط.1، 1988، ص: 32.
4 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 35.
5 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 39.
6 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 39.
7 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 39.
8 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 36.
9 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 40.
10 محيي الدين بن عربي: الفتوحات المكية، ضبط أحمد شمس الدين، ج.8، دار الكتاب العلمية بيروت، ص: 80.
11 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 37.
12 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 49.
13 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 47.
14 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 49.
15 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 53.
16 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 55.
17 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 33.
18 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 33.
19 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 30.
20 عبد الفتاح كيليطو: الأدب والغرابة، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط.2، 2006، ص: 117.
21 ابن عبد ربه: العقد الفريد، تحـقـ: مفيد محمد قميحة، ج.1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م، ص: 86.
22 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 30.
23 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 31.
24 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 81.
25 عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة: السباق، ص: 119.
26 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 83.
27 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 81.
28 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 30.
29 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 31.
30 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 88.
31 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 88.
32 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 88.
33 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 63.
34 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 64.
35 حسام الدين نوالي: العقل الحكائي، دراسات في القصة القصيرة بالمغرب، فالية للطباعة والنشر، ط.1، 2017، ص: 115.
36 حسام الدين نوالي، العقل الحكائي، السابق، ص: 120.
37 مقامات الحريري: دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1978، ص: 40.
38 مقامات الحريري: المقامة الكوفية، ص: 46.
39 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 73.
40 الأعراف، الآية: 20.
41 حسام الدين نوالي، العقل الحكائي، ص:9.
42 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 92.
43 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 94.
44 الطيف لا يشبه أحدا، ص: 91.

رشيد أمديون

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى