الجمعة ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

الخميسى يكتب عن يوميات صنع الله إبراهيم فى الواحات

عن دار المستقبل العربى صدرت "يوميات الواحات" للكاتب الروائى صنع الله إبراهيم فى ثلاثمائة صفحة، منها مئة صفحة هوامش. ويوحي عنوان الكتاب بأن صنع الله يسجل فى الأساس تجربة معتقل الواحات (1959–1964) الذى شهد أبشع عمليات التعذيب للشيوعيين واليساريين المصريين عبر التاريخ، لكن صنع الله قبل ذلك يسجل سيرته وتطوره ككاتب قبل التجربة وخلالها وبعدها، بحيث تبدو التجربة لحظة طويلة وشاقة لكنها تظل لحظة في حياة الروائى. وقد كتب الكثيرون من قبل عن تلك التجربة بدءا من طاهر عبد الحكيم وكتابه "الأقدام العارية" مرورا بالسيد يوسف فى "مذكرات معتقل سياسى" وانتهاء بفوزى حبشى وكتابه "معتقل لكل العصور". وفى كل ذلك كان التركيز على الجانب الموضوعى من التجربة المرئية بعين "معتقل سياسى" وهو الجانب الذى ركزت عليه أيضا بعض المحاولات الروائية والشعرية. لكن صنع الله يقدم لنا هنا جدلا وتكاملا وصراعا بين عالمين لكل منهما الحق في المساحة نفسها من الوجود: الكاتب، والسجن. ولذلك ترتسم في أذهاننا في نهاية العمل صورة للفرد بكل قدراته وضعفه وقوته، وصورة أخرى للمعتقل بكل ظروفه ومعناه وطغيانه. كأننا نسمع، أو نشاهد، أو نقرأ حوارا بين الفرد والجبل، بين الفرد والمجتمع بكل تياراته السياسية والثقافية والكفاحية. فهذه ليست يوميات الواحات بالمعنى المعروف، لكنها يوميات فرد، كاتب، روائى، داخل، وضد، ومع، يوميات سجن ضخم ثقيل الوطأة. وبذلك فإننا إزاء عمل أشبه بكونشيرتو كمان وأوركسترا، وأقرب إلي عزف منفرد، داخل، وضد، ومع أوركسترا المعتقل ببطولاته وضعفه. يرسم صنع الله لوحة عريضة لثقافة جيل كامل والكتب التى أثرت فى ذلك الجيل: سارتر، ومالرو، وهنرى لوفافر، وجوركى، وألبرتو مورافيا، وفرجيينا وولف، وتأثير السينما الجديدة فى الكتابة، ويقدم لنا أيضا لوحة للعلاقات المتشابكة التى ربطت بين أبناء تلك المرحلة من شعراء وسياسيين وكتاب، والتيارات الفكرية التى كانت سائدة، والمأزق التاريخى! لمن وقفوا مع وضد النظام السياسى، ومأساة انهيار النظام. ولكن اليوميات التى سجلها صنع الله داخل الواحات، وهربت إلي خارجه، تصور في الأساس عملية خلق وتطور الكاتب، بكل التعقد الاجتماعى والذاتى والعام والخاص لذلك الخلق. ولهذا تحفل تلك اليوميات ليس بتفاصيل حياة السجن، لكن بتفاصيل الكتب التى قرأها صنع الله وراء السور، ومقتطفات من الشعر، وتجربة كبار الأدباء مثل همنجواى، وتولستوى، وسومرست موم، واضطراب صنع الله بين المدارس الأدبية المختلفة، وإدراكه للواقعية باعتبارها مذهبا يشتمل على اللاوعى والأحلام، وحيرته بين اتجاهات النقد الأدبى، وتأمله في نشأة الطبيعة والوراثة، ودور الكاتب، وعلاقة الفنون ببعضها، ولهذا يسجل مقتطفا مأخوذا عن ألبرتو مورافيا يقول فيه الأخير: "كان بلزاك يحتاج لعشرين صفحة ليعطيك صورة مرئية، الآن تفعل السينما ذلك فى دقيقة واحدة، ولذلك لابد من البحث عن طرق جديدة فى الكتابة". وللمقتطفات التى سجلها صنع الله قيمة فى حد ذاتها، لكنها تعود لتكتسب قيمة أخرى لأنها أصبحت تعبيرا عن صنع الله نفسه.
ويبدو الكتاب ذلك الممتع والهام بكل ما يتفجر في أفقه من شظايا الروح والتفكير أشبه بسطح بحر تسبح فوقه مئات الشموع المنيرة، يخطف نورها البصر إلى كل الأماكن، ومع ذلك يظل مشهد البحر العريض محسوسا دوما، قاتما، ومؤلما: السجن الذى بدأ في مقدمة الكتاب وظهر فى الخاتمة. وخلال ذلك كله تلوح الكتابة عند فرد معذب كوة وحيدة مفتوحة فى الزنزانة على العالم الحى فى الخارج. ولهذا يتساءل صنع الله: "إني واثق أننى أعرف الكتابة.. ولكن الذى يكاد يحطمنى هو إلى أى مدى سأكون كاتبا". إنه سؤال مسجون، داخل سجن. وفى تلك الأثناء يستشهد صنع الله في يومياته بعبارة للشاعر يفتوشنكو تمثل مسيرة هذا الكاتب الكبير: "لا تكتب إلا الحقيقة فقط.. ابحث عنها فى نفسك وقدمها للشعب.. ابحث عنها فى الشعب وضعها فى نفسك".
إلا أن الكتاب يثير لدى القارئ الشعور الدائم بأن ثمة رواية أجهضت فى الأفق، ربما للتخلص من عبء تلك المادة الشعورية، كما يترك الكتاب شعورا آخر بأن تلك اليوميات قد جرت عليها إعادة صياغة وانتقاء أسقطت التفاصيل اليومية الصغيرة. وعلى أية حال فقد قدم صنع الله مزيجا ساحرا من السيرة الذاتية والتأريخ والرواية والأمل الإنسانى فى هزيمة الجحيم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى