الأحد ١٩ تموز (يوليو) ٢٠٢٠
بقلم هاتف بشبوش

الدكتورة كريمة نورعيساوي، الشجن الكوني والتهكّم...

كريمة نور عيساوي ساطعة في الأناقة الشعرية والمظهرية، مرصعة بالحب والوفاء، تتوسد على القصيد في صعابها، إستثنائية في ماتحمله من ثقافة وإختصاص في علم مقارنة الأديان فهي دكتوراه بهذا الخصوص قبل كل شيء. شاعرة من اللازورد وزهر الكولونيا، هي المرأة العصرية التي إنبثقت من رحم الأنوثة، ولم لا فكان في الزمن السحيق مايسمى بالعصر الأمومي قبل أن تنتقل السلطة الى الرجال والنظام البطرياركي. إتسمت الثيمات الشعرية لكريمة بالإعجوبية والتشميل والحداثة والبنية المورفولوجيّة أما التيماتيكية فتنتمي الى الحكائيّة وجمال صورتها. أما الصنع الشعري لديها فكان ينهل من النثر وقصيدته التي تعتبر اليوم هي الأرقى من بين كل أجناس الشعر فالقافية والشعر العمودي أصبح في سلة الوهن الشعري المقبور لدى الغرب وكل العالم المتحضر قبل أكثر من مئة عام (الشعر هو النثر وهوالذي لايمكن أن يعطي معنىً وجدانيا وفكرة نوعية الاّ به..أوكتافيو باث) لأن القافية تعتمد على المظهر الشكلي الذي لم يبق منه شيء في عالم الحداثة اليوم التي تعتمد على جوهر النص ودرّته الهدفيّة. العرب فقط هم من بقوا متمشدقين بالقصيدة العمودية ولذلك نراهم بقوا رجعيين و متخلفين وماضويين في كل شيء. الحداثة لاتعرف التبعيض وإنما هي في كل التصرف الوجودي إبتداءً من سلوك المرء الى طريقة تفكيره وإعتقاده بالسماء ورفضه للعقل الباطن المكتسب، الى الفن بشتى ضروبه الى السياسة، الى الرقص الى تشكيل النص الشعري المموسق حتى ظهرت تجلّيات الحداثة العظيمة في الكثير من الأغاني العالمية والعربية فماجدة الرومي غنت العديد من النصوص النثرية لشيخ النثر العربي (أنسي الحاج) وكانت كلها أغاني في غاية الإمتاع. الأغنية العالمية المعروفة كانت من قصيدة النثر والتي حصدت الإعجاب العالمي على مدار سنوات وحتى اليوم وهي أغنية (لازلت على قيد الحياة I am alive) للمغنية الكندية الشهيرة (سيلين ديون). وما آخرها الأغنية الأسبانية الجديدة التي فاقت كل الأغاني على مدى التأريخ من ناحية الإعجاب الجماهيري الواسع وهي أغنية (ديسباسيتو Despacito) للشاعروالمغني الأسباني (لويس فونسي Luis Fonsi). وأما الشعر الغنائي لليوناني الشهير (يانيس ريتسوس) في الخمسينيات وهو الأب الشرعي للأيروتيك، أصبح يترنم به عمال الموانيء والصيادون وسائقوا العربات والمفكرون فهو الآخر شعرٌ حداثيٌ مطلقٌ.

كريمة من اللائي قدمن الكثير في ذلك الدرب المؤلم وماعانته المرأة من خنق لحرية الإبداع ومنهن جورج صاند الأديبة الفرنسية التي كانت تكتب بإسم رجل مستعار لأن البيئة الإجتماعية أنذاك وسلطة الكهنوت قد وضعت المرأة في المكانة الدونية فلايحق لها خط إبداعها علنا حتى وصلت الى ماهي عليه في الحب إبداعا وممارسة دون أي خوف من العواقب وأصبحت صديقة لأشهر روائي فرنسي وهو (جوستاف فلوبير) الذي أبهر العالم برائعته (مدام بوفاري) التي تنقل لنا معاناة إمرأة ايضا تعاني من عواطفها المهزوزة وسط بيئة إجتماعية تنظر للمرأة من انها خطيئة حتى ينتهي بها المطاف بالإنتحار بعد تخلي الأصدقاء عنها وتركها في محنتها المؤلمة وقد مثلت الى فيلم عظيم في غاية الأسى والحزن عن إمراةٍ كانت ضحية لتقاليد مجحفة مميتة بحقها. كريمة نور عيساوي واحدة من آلاف المبدعات اللواتي أعطنّ الكثير حتى وصلت المرأة الصانعة للشعر والإبداع الى طريق الجرأة في قولها ونقلها لمعاناتها عن طريق قلمها ومنهن الروائية الفرنسية (كوليت collet) والتي مثلت حياتها الى فلم درامي جميل من إنتاج 2018 تأليف ريشارد كلاتزر Richard Clatzer، تمثيل الفاتنة المتخصصة بأفلام الرومانس (كيريا كنيكتلي Keria Knightly) أما وزوجها الكاتب (ويلي) مثل دوره الممثل القدير دومينيك ويست Dominic west. هذه الروائية كوليت إنحدرت من عائلة ريفية لايمكن لها أن تقف بوجه الرجعية ونظام الكنيسة وسلطة الرجل فكانت تكتب بإسم زوجها (ويلي) الذي إستغلها مادياً فكل ماتصدره ويباع في الأسواق كان يذهب الى جيب زوجها الأديب الذي نال شهرته من إبداع زوجته لكنه كان مقامرا وضيعا وسارقا لأدب زوجته وزير نساء حتى إكتشفته وطلقته واستمرت تكتب حتى مماتها وأنتجت أكثر من ثلاثين كتاب حتى مماتها. (كوليت ولدت في 28 يناير 1873 بسان سافور في بويساي بيون. توفت في 3 أغسطس 1954 في باريس. انتخبت عضوة في أكاديمية غونكور عام 1910 بعد وفاة زوجها المنافق. كانت راقصة مسرح واتهموها بالفساد الاخلاقي ورموها بالشتائم اثناء أدائها الرقص. رفضت الكنيسة الرومانية الكاثوليكية القيام بمراسم دينية في دفنها بسبب طلاقها. هناك العديد من الشواهد على النساء المبدعات وماقدمنه في هذا المضمار الصعب وسط عوائق إجتماعية كلها لاترغب في بزوغ شمس النساء.

من يقرأ كريمة يرى بانها المتوجة بتاج الشعر المرصع بأزاهير بوحها المنتقاة، يرى الحروف المخلوقة من قوة النساء تارة ومن ضعفهن في أماكن أخرى من هذا العالم المليء بالغبن بحقهن. شاعرة شجاعة والشجاعة هو ان ترمي بنفسك من ارتفاع شاهق كي تمسك بزمام القصيد والشجاعة تتطلب الثقة بالنفس وما الثقة سوى أنها لمجّرد ان تقول لك امك حين كنت طفلا انّ هذه هي الكعكة الحقيقية نفسها التي تأكلها كل يوم وانت صدقتها حتى لو لم تكن هي الكعكة ذاتها في نظرك وتأكيدك. الشجاعة تعني أنني حينما أحلم لابد لي أن أجسّد هذا الحلم الى واقع قدر مستطاعي وإمكانيتي حتى لو فشلت مثلما كان يفعلها اليوناني العظيم زوربا والذي مثلت شخصيته الى فلم راقص حالم في تغيير مايريده المرء في القفز الى عالم النجاح وكان من تمثيل (أنطوني كوين) ونخبة من نجوم التمثيل العالمي. ولذلك نرى الشاعرة كريمة كانت تتأرجح في حلمها المنشود يعني انها غير واثقة من التغيير لكنها المحاولة التي لابد منها في الإنطلاق نحو تغيير حيثيات الشعوب والمرأة على وجه الخصوص في عالم يتربص الى إبداعها كي يجعلها تدور حول نفسها لكنها إنطلقت في حلمها هذا كما في النص (أرجوحة الحلم):

أيها القابع في داخلي تحرر...
احملني واقذف بي من قراري
أبعدني عن زماني
اللقمة كحل في عيون الثكالى
الخمر دم قاسي تجمد
على جثة وليد
يوم العيد
وجهه...
رغيف على شرفة الأمل
ولبن على أرجوحة الحلم

(من يسير مع الجموع لن يذهب لأبعد مماتسير به هذه الجموع،أما من يسير وحده فسيجد نفسه غالبا في أماكن لن يذهب لها أحد من قبل....ألبرت انشتاين)..

لذلك نرى الشاعرة كريمة إتخذت من مناشدة الحرية بمثابة ثورة على الروح الجامدة، إعصار من شأنه أن يزيح كل ماهو عائق في دروب التمني والإنطلاق نحو عالم حر خالي من الإستغلال بشتى أنواعه، إتخذت صرختها المنفردة من بين كل الحشود فقالت هذه الكلمات الخارجة من حشرجة النزع المؤلم (إبعدني عن زماني) ولم هذا الترجي والذهاب عن زمان هو زمانها مهما جاهدنا في إزاحته لكنها إمرأة حالمة لاتريد الوقوف في الزمكانية المحددة للنيل من إبداعها وحياتها التي لابد أن تكون مثلما تريد ومايريده المتحضرون في عالم يحترم المرأة إسوة بزميلها في الجنس البشري الا وهو الرجل.

(سلفيا بلاث selvia plath) كاتبة وشاعرة أمريكية كانت في غاية الجمال إتخذت منهجا في أن تسير وحدها لتحقيق ما تصبو إليه والخلاص من أوضاع ورجال خونة لكنها للأسف تنتهي منتحرة وسط دوامة التفكير الذي شل عقلها وعواطفها ولكنها مهما يكن من أمر راحت ضحية بيئة غادرة مناهضة لإبداعها فماتت وهي في ربيع عمرها الثلاثيني، مثلت قصتها في فيلم رومانسي جميل من تمثيل Gwyneth Paltrow كينث بالترو بدور (سيلفيا) مع الممثل الشاب دانييل كريك Daniel Craig بدور زوجها الشاعر البريطاني المعروف (تيد هوك) وإخراج Christine Jeffs كريستينا جيف. ماتت سيلفيا في لندن حيث يسكن زوجها بسبب أوجاعها الإجتماعية التي أحيانا لايمكن تحملها لدى بعض الآخرين بينما هناك من يمضي مع الألم ويتحداه في تحقيق إبداعه وإنجازه حتى لو ظل يمشي على عكاز آلامه مثلما نقرأ الشاعرة كريمة في شذرتها البديعة من نص (تخوم الوجع):

لن أمشي على الصدر اليانع
وأستسلم...
دعني...
دعني...
أخضب أيامي بألوان التعب
علها تصيرني زنابق من نور....
أستجمع ترياق الوجد

الحب لدى المرأة أنطولوجيا، يبدأ من تفتح العقل ويستمر مهما طال الزمن وهنا ليس فقط حب العواطف بين الجنسين وإنما حب الأوطان أو الفكر أو لغاية هدفية تنطلق من التصميم والإصرار، التأريخ ينقل لنا الكثيرون ممن ساروا على هذا الدرب الأليم درب المشاعر والأحاسيس التي تنخر بنا الما لذيذا فألم الحب هو الوجع الوحيد الذي يدخل في نفوسنا النشوة بدلا من الأنين والصراخ، فنكون كمن يبكي لكنه يضحك بما نطلق عليه بالجذل وفي غالب الأحيان يكون الحب هو سراب الأمل ولذلك قال نزارقباني (متى ستعرف ياأملا.. أبيع من أجله الدنيا ومافيها). في رواية عشيق الليدي شاترلي Lady Chatterley,s Lover للروائي (ديفيد هربرت لورانس) الذي كتبها 1927 وقد مثلت هذه التحفة السردية الى فلم رومانسي مثير الذي جابه الكثير من الإعتراضات والرقابة السينمائية في ذلك الوقت لمافيه من مشاهد فاضحة وعارية للعشيقين اللذين إذا ما إجتمعا فوق فراش اللذة إنفجرت الطاقة العاطفية الى أقصى مداها من التقبيل والتنهيد والإرواء الجسدي والعناقات اللذيذة التي تبدأ بشهقةِ إنتشاء وتنتهي برعشة النرفانا، مشاهد قلّ نظيرها في بقية الأفلام. الفلم من إنتاج عام 2007 ومن تمثيل مارينا هانس Marina Handsمع القدير جين لويس Jean Louis وإخراج pascal Ferran. في الفبلم نرى كيف تلك السيدة الإرستقراطية عشقت الحوذي الذي يعمل في حديقة قصرها بينما هي متزوجة من رجل نبيل ثري. وقد وصف الروائي البديع (ديفيد هربرت لورانس) في روايته هذه ماهو الإصرار والتحدي من قبل هذه السيدة العاشقة في تحقيق ما أرادته حتى طلّقت زوجها الثري وإتجهت لمن تحب وقد إستخدمت كافة الوسائل المتاحة وغير المتاحة في سبيل حبها حتى تزوجت من تريده وعشقته ولذلك قال رابندرنات طاغوت (المرأة كما النهر الهادئ في معظم أوقاته ولكنه في حالة هيجانه يجرف كل شيء أمام سيوله العنيفة). هناك نساء نذرن أنفسهن في سبيل حب الأوطان والفكر ومنهن الجزائرية (جميلة بحيرد) التي ناضلت ضد الإستعمار الفرنسي، (جان دارك) تلك الصبية التي مرّت في أتعس ظروفها وهي ترى أمها تموت أمام عينيها وأختها تغتصب من قبل الجنود البريطانيين حتى تقتل طعنا بالسيف مما حدا بهذه البنت الصبية أن تنشأ نشأة مغايرة في الدفاع عن وطنها وعن نفسها بكونها إمرأة تستحق التقدير وإتهمت من قبل الكنيسىة بكونها الساحرة الشريرة بعدما حققت لفرنسا العديد من الإنتصارات ووقفت متحدية الجميع وهي تحرق من قبل الكنيسة في أبشع طريقة حرق عرفها التأريخ. وبعد مضي اربعمئة عام رد لها الإعتبار وأعتبرت إمرأة قديسة حكيمة فشيّد لها نصبا كبيرا في فرنسا يزوره الملايين اليوم. ولذلك نرى كريمة تستجمع عصارة الوجد بشتى ضروبه العاطفية او الإنسانية المكافحة فتنطلق في بوحها المثخن بجراحات النساء على مدى العصور السحيقة في نصها (خيوط البوح).

يتبـع في الجـزء الثانـي


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى