الأربعاء ٢٤ آذار (مارس) ٢٠١٠
في الذكرى العاشرة لرحيله:
بقلم أحمد مظهر سعدو

الدكتور جمال الأتاسي

عشر سنوات مضت على رحيل المفكر القومي الديمقراطي الكبير الدكتـور جمال الأتاسي .. عشر أعوام أفلت، وفكره النير المبدع باقٍ فينا، وتفكيره العلمي القومي الناصري ما زال يعبق به المكان والزمان، فجمال الأتاسي ذاك المفكر العربي الذي نفتقده كثيراً هذه الأيام، بينما فكره الحداثي النقدي يعم الحالة الفكرية السياسية الآنية، وينهل من معينه كل من عرفه أو قرأه أو عايشه .. حيث يمتاز هذا الفكر الإبداعي بالحداثة والتجدد، والحداثة والمعاصرة: وهي نمط حضارة مميز، يتناقض مع نمط التقليد وهي التي تتمحور كذلك حول المستقبل، في حين أن التقليد يتمحور حول الماضي، حسب تحديد ياسين الحافظ رفيق عمر الأتاسي.

في إطلالتنا اليوم على فكر الدكتور جمال الأتاسي السياسي والنقدي المتجدد أبداً، نحاول الإمساك ببعض ما أنتجه على هذا الطريق، في محاولة منا لأن نلج معه في مضامين الفكر السياسي الناقد، والنقدي، وهو من عرف عنه أنه ذو فكر يرتكز إلى مقولة «النقد المزدوج طريق للاستيعاب» حيث كان جل فكره يتساوق بالضرورة حول هذه المقولة المنهجية التي أفرد لها أبحاثاً وصياغات، معتقداً بعقل، أن لا سبيل للتطور الفكري، ولامناص من التطلع نحو المستقبل إلا بهذا النقد المزدوج الذي يستوعب الحالة العربية، ويقرأ معطياتها، ويسبر غور ماهيتها، باتجاه إعادة صياغة الفكر السياسي العربي على أسس تاريخانية كما (العروي) وديمقراطية قومية كما المشروع العربي النهضوي، الذي حمل لواءه جمال الأتاسي والياس مرقص وياسين الحافظ والكثير من هذا الجيل المتنورالذي ما زلنا ننهل من معين فكره هذا، وهو الذي سيبقى للأجيال القادمة جيلاً بعد جيل.

في ذكراه العاشرة نطل على فكره النقدي وتستوقفنا بعض محطاته الفكرية النقدية التي نتوخى من خلال تناولها أن نكون قد أعدنا طرح ما كان قد طرحه جمال الأتاسي،لنحيي فكره المستقبلي،الذي يصب في أتون الفكر الناصري، وقد أرسى قواعده القائد جمال عبد الناصر.

العقليــة النخبويــــة:

يقف الدكتور جمال الأتاسي بجرأة وصراحة، ليوجه نقده للعقل النخبوي الذي ساد في مرحلة الستينيات حيث يقول:

((قد تكون إحدى ثغرات جيلنا والتي كنـا نغفلها .. أن العقليـة السائدة هي (العقلية النخبوية) فهذا القصور يتمثل في التصور الصوري للمسألة.. فما دمنا نمتلك الوعي ونمسك بالحقيقة ونخلص للقضية فـإن الشعب سوف يندفـع وراءنا .. ولم ندرك أن هذا الشعب أسير ومكبل بميراث واقعه الاجتماعي والثقافـي .. وأنه لن يتجاوز هذا إلا إذا ارتبطت به الطليعة ارتباطاً عضوياً، وأن تساعده على شعوره بامتلاك إرادته وتحديد هدفه .. لقد بدأ هذا الجيل – جيل الثورة – حركة وعي واستيعاب وجهد نضالي، لكنه لم يستطع أن يصل إلى تحريك وقيادة الكتلة الشعبية والقاعدة الجماهيرية، ومن ثم لم يستطع أن يبني حركة تاريخية أو ثورة آنذاك، لقد استطاع عبد الناصر أن يحقق الارتباط العضوي بينه وبين الشعب، ومن ثم استطاع أن يخلق كتلة شعبية واسعة وعريضة شاركت معه في صنع الدور التاريخي والتغييرات الكبرى بالمنطقة والعالم «..ثم يضيف الدكتور:ومن عجائب الأمور أننا كنا نظن أنفسنا طلائع متقدمة فكراً ومعاناة ونضالاً عن عبد الناصر في البداية، ثم وجدناه أمامنا ومتقدماً علينا، وشعرنا بما صنعه للجماهير وبالجماهير... إن الجماهير في الوحدة والانفصال تحركت عضوياً، والقيادات التقليدية والعشائرية كانت هي الأكثر ارتباطاً بها، بينما القيادات الوحدوية بمعزل عنها وأسيرة عقليتها النخبوية».

حيث نلحظ من خلال نقده هذا للعقلية النخبوية كيف استطاع الدكتور الأتاسي أن يكون ناقداً للذات بوعي عقلاني قومي ديمقراطي، بهدف إنتاج حالة فكرية سياسية ناصرية من خلال أفق منفتح ومختلف.

تخلف القيادات أثناء الوحـــدة:

استوعب الدكتور الأتاسي الماهية الفعلية لتركيبية القيادات السياسية أثناء فترة الوحدة بين مصر وسورية ( 22/شباط/ 1958 –28 أيلول /1961) ووسمها بالمتخلفة عن عبد الناصر، حيث أكد وبكل صراحة " أن هذه القيادات كلها كانت تأخذ صفة القيادات الوحدوية بينما معظم هذه القيادات لا أستطيع أن أضعها ضمن جيل الثورة، لأنها في حقيقة الأمر ركبت الموجة، أما جيل الثورة فهو جيل آخر ، جيل يحيط ويستوعب ويمثل القدوة والنموذج، هذا الجيل دخل في صراع مرير مع هذه المجموعة من القيادات في سوريا، وقد عانينا طويلاً من هذه المسألة، بالإضافة إلى أن كل القيادات – كما أكد الأتاسي - كانت متخلفة جداً عن عبد الناصر، وبينما كان هو القيادة والدولة في مصر، فإننا في سوريا كنا نعاني غيابه عن الدولة وحضوره كقائد .. لقد كانت المشكلة بالنسبة لنا منذ البداية هي كيفية صياغة حركة تستوعب التفاعل بين زعامة تاريخية تستقطب الجماهير وبين عملية تأطيرها واستيعاب وجدانها، إن هذه الجماهير كانت عيونها معلقة على القاهرة ودولـة عبد الناصر وكانت هـذه الدولـة غير ثوريـة( الصراعات بين الأجهزة – العقلية العسكرية التي تريد أن تسطير – القوى القديمـة .. الخ) وكانت قيادة عبد الناصر الثورية لا يمكنها أن تكشف كل شيء أمام الجماهير إلا فـي حينه، ومثلما غاب الوسيط – التنظيم – الثوري بين القائد وشعبه في مصر .. مثلما كانت المشكلة أفدح هنا في سوريا، لغياب الوسيط، ولتواجد القيادات هنا وهناك، التي تركب الموجة وتتدعي الانتماء لفكر وثورة ناصر.

ولكأن المفكر الأتاسي كان يشير إلى أمثال عبد الكريم النحلاوي و الضباط الآخرين،عصاصة، الكزبري، وسواهم الذين صنعوا الانقلاب الانفصالي اللعين، فيما بعد، أو الذين كانوا أقرب المقربين إلى السلطة أيام الوحدة وللراحل عبد الحكيم عامر في تلك المرحلة .. وهوما تؤكده الآن افتراءات النحلاوي عبر قناة الجزيرة، من خلال عمليات الابتزاز القذرة التي يستجره إليها الإعلامي الحاقد أحمد منصور لا فض فوه.

غياب عبد الناصر وسد الفراغ:

الدكتور جمال الأتاسي من القيادات الناصرية والمفكرين القوميين الذين أدركوا ومنذ البداية حجم الغياب الكبير لقيادة بمستوى جمال عبد الناصر، وتلمس الحاجة الماسة لقيادة تملأ الفراغ الذي تركه، لكنه أبداً ليس من الذين يتعلقون بأشخاص كبدائل لعبد الناصر .. بل كانت له نظرة سياسية عقلانية متميزة، تجاوز من خلالها كل من سبقه من المفكرين الناصريين الذين دأبوا على إعادة إنتاج قيادة ناصرية أخرى بحجم عبد الناصر.

حتى أن البعض منهم، ومن القوى الناصرية في الوطن العربي وفي الساحة اللبنانية على وجه التحديد، وبدلاً من سد الفراغ- كقيادات وطليعة- راحوا يبحثون عن المخلص المنقذ وبدأ الكثير منهم مع بداية السبعينيات يأمل خيراً في السادات وراحوا يراهنون عليه، حتى بعد أن كشف مخططه وتآمره منذ أيار / 1971/.

لكن الأتاسي أكد أنه «لا يمكن سد هذا الفراغ الكبير إلا بقيادة قوى طليعية .. جيل ثوري متماسك له هدف وإطار ناظم، ولهذا فإن الجيل الذي نشأ بعد النكسة وبعد حركة الردة، ونشعر به يتحرك في أرجاء الوطن العربي، منوط به هذا الدور، إنه جيل يتحدى اليأس أيضاً لأننا رجعنا لمواقع ما قبل الثورة وإن كان بصيغة أخرى: فالإقليمية عادت والمصالح الضيقة برزت.. ويعاد صياغة نمط جديد من الرأسمالية ينهب الداخل ويصب للخارج، مستعمرين من داخلنا بسيطرة واستبداد النظم، ومن الخارج بالتبعية الثقافية والاقتصادية. ثم يتابع الدكتور قائلاً :» هذا الجيل الجديد مطالب بتحدي اليأس وهو يحمل إرادة التغيير ودور جيلنا أن ننقل له الوعي بتجربتنا، وننير له حقائق المرحلة التي عاصرناها مع عبد الناصر بسلبياتها كما نراها نحن لا كما تراها قوى الردة .. وإيجابياتها العظيمة دون أن نلوي الحقائق أو ندعي ما لم يكن" وهو هنا ينطلق من بعد نقدي صريح وواضح، فأن ننقد أنفسنا، وننتقد تجربتنا كناصرين، خيراً من أن ننتظر لينتقدنا الآخر، من موقف العداء، أو التشفي بما حصل بعدها .. حيث يؤكد أيضاً أنه «علينا أن نعطي تجربتنا ونتواصل مع هذا الجيل الجديد لأن الإنسان الثوري لا تنطبق عليه التسمية إلا إذا كان في تواصل ذاتي مع نفسه، وفي تواصل مع الأجيال التالية .. أن ينقل تجربته ومعاناته للجيل الذي يأتي من بعده .. الوضع الراهن لا يمكن أن يتغير بمجرد إصلاحات وتعديلات في هذا الواقع العربي أو ذاك .. بل بحاجة إلى ثورة جذرية .. والشعب الذي أعطى من قبل يمكنه أن يعود ويعطي من جديد».

الصمـــت كموقــف:

خلال استلام الدكتور الأتاسي رئاسة تحرير جريدة (الجماهير) التي كانت تصدر بدمشق أثناء الوحدة، حيث صدرت لمدة /200/ يوم فقط، حاول الدكتور جمال أن ينقد بعض الممارسات الخاطئة للأجهزة، لكن ذلك كان يصطدم دائماً بردات فعل غير معقولة من تلك الأجهزة .. وكان الأتاسي مع الراحل عبد الكريم زهور والياس مرقص وسامي الدروبي، يحللون المرحلة ويحاولون أن لا يكونوا كسواهم، وعندما لم يجد الدكتور من حل اتفق مع عبد الكريم زهور على أن يكون الصمت هو الموقف حيث يقول: ((عندما توصلت مع أخي المرحوم عبد الكريم زهور إلى تحليل المرحلة والمخاطر الخارجية والداخلية، وسيادة عقلية كمال الدين حسين وعبد القادر حاتم وغيرهما في إدارة المجتمع وعلى النقيض من عقلية الرئيس عبد الناصر، وجدنا أن الحل الوحيد المتاح لنا هو الاعتصام بالصمت كتعبير عن الاحتجاج، وبالفعل كتبت مقالـة افتتاحية فـي جريدة الجماهيـر تحت عنوان (الصمت موقف) تتعرض سريعاً للحديث الذي دار بيني وبين المرحوم زهور وما وصلنا إليه من موقف).

لكن ((جماعة الصمت موقف)) لم تقبل بهذا الموقف أي فكرة (الصمت موقـف) وعلى رأسها الدكتور الأتاسي مع حدوث جريمة الانفصال .. حيث كان موقف الدكتور واضحاً في مواجهة الانفصال وزمرته، وقد أكد الدكتور الأتاسي موقفه بعد ذلك من الجريمة التي حصلت في 28/9/1961 وهو من قال: «منذ اللحظة الأولى للانفصال لم نصمت، فالصمت في هذه الحالة قبول بالانفصال وتأييده، فلقد تحركنا بسرعة ودون اتفاق .. تلك المجموعة المتفقة في المواقف والرؤيا وجمعتها صحبة الكتابة والنضال - وبدأنا في حملة ضد الانفصال وضد كل من أيده أو تعاطف معه من رفاق حزبنا القديم - ويقصد حزب البعث الذي كان ينتمي إليه سابقاً -وبدأنا ننشط فكرياً وأصدرنا مجموعة دراسات سياسية ونظرية، وترجمنا، بالإضافة إلى المشاركة مع مندوب الثورة الجزائرية بدمشق.. عبد الحميد المهري وفي إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات عن الثورة بالإضافة إلى تجميع بعض الأطباء للتطوع في صفوف الثورة».

أسباب الانفصال وفشل تجربة الوحـدة:

في نقده لتجربة الوحدة، وحديثه الدائم عن الأسباب التي دعت وسهلت للطغمة والزمرة المجرمة في فعل ما استطاعت فعله من إقدامها على الانقضاض ضد تجربة الوحدة، كان الدكتور الأتاسي موضوعياً وغير مداهنٍ لأحد، بل ينقد من داخل التجربة وليس بعيداً عنها، كما كان جريئاً بامتياز، وهو الذي وقف واضحاً صريحاً ليفند أسباب الانفصال حيث أجملها بالتالي:

غياب التنظيم السياسي الذي يسد الفجوة بين الجماهير والزعيم، فبحل الأحزاب لم تعد هناك قوى منظمة ووحدوية تقوم بهذا الدور، والاتحاد القومي امتلأ بالرجعيين والإقليميين والعشائريين بينما حوصر الملتزمين بقيادة وثـورة عبد الناصر.

تضخم الجهاز الإداري البيروقراطي والأمني دون استيعابه لموضوع الوحدة ومعطياتها وحاجاتها لإقامة دولة، وإذا كانت بعض الإجراءات ضرورة، فإن مجمل نشاطها – أي الأجهزة – كان سلبياً.

الانقسام داخل معسكر اليسار بين الشيوعيين والقوميين خاصةً مع مرحلة الصراع الذي فرضه عبد الكريم قاسم بالعراق، هذا الصراع الذي ألقى بتبعاته على دولة الوحدة.

الانقسام داخل القوى القومية ذاتها خاصة بين الناصريين والبعثيين أنفسهم .. فيما كانت أغلبية القواعد مع عبد الناصر والوحدة، كانت هناك قيادات تتحرك ضد الوحدة.

ويضيف الدكتور إلى ذلك بالطبع القوى الخارجية من استعمار عالمي ورجعية محلية، ومصالح أضيرت للفئات والطبقات التي خضعت للتأميم أو للتحديد فـي الملكية.

الناصرية كفكر جدلــي:

لم يقبل الدكتور الأتاسي القول بأن الفكر الناصري هو فكر تجميعي أو توفيقي أو أنه إيديولوجيا مغلقة قائمة بحد ذاتها وصيغة نظرية جاهزة .. لكن رأيه في الناصرية كان حداثياً متطوراً ومتجدداً على طول المدى .. فقد أكد أن «الفكر الناصري هو فكر جدلي .. وهو الفكر الذي يصل للكلية التي تتجاوز الأجزاء في منظور واحد، وهذا هو الفكر الجدلي سواء في المذهبية الماركسية –المادية الجدلية- أو الهيجلية المثالية الجدلية .. أو حتى في الفكر الكلاسيكي القديم .. فعبد الناصر حاول دائماً في سبيل الوصول إلى ما هو حق وصحيح أن يبحث عن القاسم المشترك في التيارات الفكرية وأن يحاول إيجاد الكلية التي تربط هذه الأجزاء، ولكن ليس بطريقة ميكانيكية أو حسابية، بل بعملية تفاعلية ومتجاوزة، وحاول أن يصب هذا في نهج استراتيجي ومسار تاريخي وفق منهجية في الممارسة، ربط الفكر بحركة الواقع وهو يتغير ومن خلال الفعل في هذا الواقع، ومواجهة صراعاته في موقف ثوري يتطلع دائماً للجدوى والهدف .. لقد حافظ عبد الناصر على التعددية دائماً، لأنه ليس هناك أحد يستطيع أن يقول بأنني ملكت الحقيقة كاملة، لذلك نجده حينما يقيم تنظيم وحدة – كالتنظيم الطليعي – وهو صيغة حزب أصر بالرغم من كل شيء على إبقائه في إطار التعدد».

فــي مفهومــه للعلمانيـة:

هذا المصطلح (العلمانية) الذي دفع بالبعض إلى أن يجردوا بعض من يأخذ به من إسلامه ودياناته .. حيث فُهم على أنه اللادينية .. لكن الدكتور الأتاسي كان له نقده الواضح للعلمانية وتوضيحه لما يعنيه بالعلمانية وهو الذي يعتبر بهذا المعنى أن عبد الناصر كان علمانياً، ولكن كيف ذلك ؟

يقول الدكتور جمال: ((حينما نقول أن عبد الناصر علماني يثير استغراب الكثيرين خاصةً وأنه معروف كرجل مسلم متمسك بالخلق والمبادئ الإسلامية بل وثقافته الإسلامية جزء رئيسي في مشروعه وتطبيقاته .. حقيقة الأمر أنه كان علمانياً بالمفهوم الصحيح لكلمة العلمانية، فنحن لا نقصد بكلمة العلمانية تلك الأطروحات الأخرى التي تطرح خاصة الأطروحة الشيوعية حينما تقوم الدولة باسم العلمانية أي اللادينية – الإلحاد- بينما هي في ذات الوقت نفسه خلقت ديناً جديداً فأصبحت هي ديناً وكنيسة بصيغ ونظم ومقولات وطقوس جديدة للسيطرة" .. ويضيف الدكتور: ((إننا نقصد بكلمة العلمانية: الدولة الديمقراطية، دولة كل المواطنين ولكل الأمة على اختلاف تياراتها الإيديولوجية، ومذاهبها ومعتقداتها الدينية، أي القبول والتأكيد على حقيقة التعداد في الأديان والتيارات والأفكار ووجود صراعات وتفاعلات شتى والاعتراف بأنه لا يوجد من يملك الحقيقة المطلقة في إدارة وتطوير المجتمع – الأمة – الدولة.. وعبد الناصر حينما أخذ صيغة ومفهوم الدولة العصرية، الدولة الوطنية لكل المواطنين، أخذ مفهوم المواطنة – في العلمانية – وقدمه على مفهوم المذهبية، أي ليس بالاعتماد على الانتماء للمذهب أو المعتقد كرابطة تربط بين الناس وبعضها، وفي الوقت نفسه ليس نفياً لوجود هذه المعتقدات، أو محاولة لمقاومتها أو نقد مشروعيتها، فالدولة العلمانية هي دولة كل المواطنين.. ونفي المذهبية .. حتى في العمل السياسي ممنوع المعتقد الشمولي، وفرض الحقيقة المطلقة لفئة أو حزب .. بل لابد من الديمقراطية في العمل السياسي أيضاً)).

لكن الدكتور الأتاسي وفي سياق تطور فكره وتطلعه إلى صيغة في العلمنة لا تثير البلبلة وتؤدي المطلوب منها، أشار إلى أنه وفي هذا الإطار وحتى لا نقـع بالالتباس ((قمنا بتغيير المصطلح .. أصبحنا نقول بديلاً عنه تعبير (عدم المذهبة) فلقد وجدنا في كتاباتنا السابقة أن كلمة العلمانية تثير الكثير من الالتباسات، البعض يرى أنها اللادينية – الإلحاد- والبعض كان يجدها كلمة مستوردة تعبر عن مشكلة الغرب في الصراع مع سلطة الكنيسة في القرون الماضية، وكانت القواعد تطالبنا دائماً بتقديم تعليل وتفسير عن الكلمة، فتوصلنا إلى ضرورة البحث عن كلمة بديلة تؤكد على إصرارنا وفهمنا للمسألة الديمقراطية والدولة الديمقراطية العصرية، ورفضنا فـي الوقت ذاته لصعود التيارات الطائفيـة والفئويـة والانعزالية .. الخ)).

الديمقراطيـــة ليست لباساً نستعيره:

منذ السبعينيات كان هم الدكتور الأتاسي البحث في الديمقراطية وتحديد ملامحها، وتأكيد أهميتها وضرورتها كمسألة حياة للناس، والسياسيين، ومن يشتغلون بالسياسة.. حيث اعتبرها المخرج والملاذ من منطلق أن مجتمعاتنا العربية لا حل لها الآن، ولا مخرج لمعضلة الاستبداد فيها، إلا المخرج الديمقراطي .. وهكذا حدد الدكتور رأيه فيها عندما قال: (( ليست الديمقراطية لباساً نستعيره أو زينة نتزين بها لنقول هل تصلح لنا أو تليق، بل إن السؤال الذي نطرحه اليوم وبإلحاح شعوبنا وطلائعها الثقافية والوطنية هو هل بقي من سبيل للخروج بمجتمعاتنا من حالة التفتت والتخلف والعجز، وهل من حياة كريمة يمكن أن تعيشها شعوبنا في ظل دولة للحق والقانون تقوم وتتأسس على مجتمعات مدنية قائمة بذاتها وتسوسها روح المواطنية والمساواة وقيم الحرية وحقوق الإنسان، وهل يمكن لنا أن نتقدم كعرب وأن نقوى وننهض ونتعامل مع الحداثة وروح العصر، بغير الديمقراطية؟..وبعد كل هذا الذي جرى ويجري في العالم من متغيرات وبخاصة في السنوات الأخيرة، وهذه الدنيا التي تضيق وتصغر على البشرية ويتواصل فيها التفاعل والتبادل بين المجتمعات الإنسانية هل يبقى لنا أن نقول هذا شعب تصلح وهذا شعب لا تصلح له الديمقراطية، فليس من مجتمع أو من شعب جُبل بالأصل على الديمقراطية، بل هي حركة نضج وتقدم في الوعي البشري وفي كل تشكل المجتمعات الإنسانية )).

خاتمـــــــــة:

قبل رحيل المفكر الدكتور جمال الأتاسي بشهر واحد أي في شباط عام/2000/ كتب مقالاً في مجلة المنابر اللبنانية قال فيه «ما هذه إلا نتف من بدايات كانت لنا مع بيروت، وحلنا فيها وترحالنا الثقافي إليها، إنها علاقات وروابط تنامت ثم تنامت ولنا فيها حكايات كثيرة تحكى».

والحقيقة فإن هذه الإطلالة السريعة على الفكر النقدي للراحل الأتاسي ما هي إلا نتف من فكر عريض طويل ومن أفقه الواسع المتسع، لامسنا من خلالها بعضاً من ملامح فكره التحديثي، وهو الذي كان يُحب أن يستمع ويقرأ لكل ما هو حديث وعصري وجديد، إلا أن قدراً من الاستمرارية لرأيه وفكره حاولنا عبره أن لا نبرح المكان، قبل ملاقاته في منتصف الطريق لنتلمس الإشارات الملتقطة منه، من اتصالات القارئ العربي بفكر قومي ديمقراطي قل مثيله في هـذه اللحظة التاريخية.. وإذا كان جمال عبد الناصر من صنع الثورة الناصرية، فإن هناك الكثير من أبناء وجيل عبد الناصر ومن مفكري الثورة الناصرية راحوا يكملون ما بدأه ناصر وعلينا جميعاً تلقى تبعات إكمال الحداثة الإبداعية النظرية التي لا مناص من الخوض فيها ليكون المشروع القومي الديمقراطي العربي النهضوي مشعلاً للأمل الذي لا ينضب زيته، ولا تنطفئ شعلته .. وقد بدأ عبد الناصر المعركة ليكملها الجيل الذي يليه .. وجمال الأتاسي كان واحداً مهماً من هذا الجيل، ومعلماً بارزاً من معالم تلك المرحلة لن ننساه ما حيينا، وستتذكره الأجيال القادمة بالتأكيد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى