الثلاثاء ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
عرط حمد نزال:
بقلم كمال الرياحي

السخرية السوداء تطال النص وصاحبه

يمثّل الكاتب والمترجم الأردني الفلسطيني حمد نزّال واحدا من الكتّاب العرب القلائل في جيل الشباب الذي انتزع حضورا لافتا منذ سنوات عبر وجوده النشيط بالشبكة العنكبوتية وما يقدمه من نصوص أدبية وترجمات أشاد بها كبار الكتّاب والمتابعين للشأن الأدبي. مكنته تجربته الحياتية ببلاد المهجر من أن يثري عالمه الإبداعي بعين جديدة جعلته يمتلك ناصية أسلوب أدبي خاص. أقام بواشنطن سنوات قبل أن يتجه إلى الخليج ليقيم بالأمارات العربية المتحدة ولكن تلك الإقامة لا تبدو نهائية فهو سندباد إبداعي لا ترسو له سفينة.

دار ترافلينغ للنشر التونسية استطاعت أن تتعاقد معه لنشر كتابه الجديد وهو كتاب أنيق صدر منذ أسبوع تحت عنوان غريب "عرط". كتاب يكسر عمود السرد بنصوص قصصية تشكل رواية قصيرة وقصائد بالعامية والفصحى وترجمات لنصوص نثرية وشعرية من الإنجليزية وإليها.

والعرط كما يعرّفه صاحب الكتاب في آخر المصنّف “يضم أجزاء متشابكة من الحقيقة والكذب والمبالغة والغرور والخيال والحلم…”وبأننا جميعا نتباهى ونزعم ونعرط: “من لم يعرط يوما، فليرمني بالرصاص.”

وهكذا يستبق الكاتب نقّادة باتهامه بالعرط فيسمى كتاب "عرط".

الكتاب قائم على أسلوب ساخر سخرية جديدة يقتحمها الكاتب في السخرية من لأسلوب نفسه. يقول مثلا "لم يبق من العمر سوى رمق...قلت لروحي وأضفت:"ثلاثون عاما مرت بي لم أذق فيها طعم الاستقلال ولم أعش بروحي يوما. وبعد سنة أو ربما اثنتين سأتزوج ولن يكون بمقدوري أن أسبر) من سبر بمعنى اكتشف، لاحظ أنها كلمة قوية وفاخرة(أغوار نفسي، أن أعش حرا في مكان خاص بي يسمى منزلي أو بيتي أو شقتي."ص13 ، وتمثل تقنية فتح الأقواس استراتيجية كتابة عند نزّال إما للتعليق أو للسخرية أو للتفسير أو لتقض المسرود وهو بذلك يفتح أفقا جديدا لاستخدامات القوسين. فالهامش يصبح جزءا رئيسا من النص لأنه يحاوره ويجادله ويكذبه كقوله:"أثبت أني قادر على الاستغناء عن 99,99 بالمائة ) ليس لهذا الرقم أي مدلول سياسي( من علاقاتي الاجتماعية. صرت أخترع النكتة أقولها لنفسي وأضحك مع نفسي"ص 16

نصوص حمد نزّال لا تنزل في مكان فهي تركض في مناخات متعددة بين أمريكا وبلجيكا والأردن وفلسطين . تحكي رحلة عين كاتبها وتجاربه وخياله لتقول جديدا سرديا وشعريا يجرح قصيدته التي وضعها على غلاف الكتاب والتي يقول فيها "

كل شيء قيل
ليس في الأمر جديد،
كل ما قلناه قيل،
لم نزد شيئا بل، نعيد،
كل شيء...
من فنون الحب أو مغازي الخلق...
في أصول الكون، أو سنين العمر,,,
في الشعر/ في اللاهوت في كل العلوم
كل شيء قيل....

هاهو الكاتب أذن يباغت قارئه مرتين مرة في الغلاف الأمامي بوصف نفسه بالعرط والادعاء وفي الغلاف الأخير بالتنصّل من كل جديد لأن كل شيء قد قيل, هذه الجرأة في التسويق العكسي أشبه بعبارة لا تقرأ هذا الخبر التي تجعل الجميع يقرؤونه. هكذا يخاتل حمد نزال ويوقع بقارئه ويسخر من أدائه القرائي الكلاسيكي داخل النص ليعيد معه صياغة عالم الكتابة في نصوص مجنونة متمردة تنتصر لسريالية نصية. تلك السريالية التي تجعل من السخرية التي بدت عليها النصوص بوابة السخرية السوداء التي تضحكنا وتبكينا بعد الانتهاء من القراءة. نصوص تروي بؤس العالم وانقلاب الهويات البشرية وسقوطها في وحشية جديدة.

حمد نزّال الذي عاش في قلب المدن الكبرى و اشتغل في أهم المؤسسات الاقتصادية العالمية يعيش حياة المهمّشين مذكّرا بجان جينيه وميلر وسيلين لا يكاد يثبت في عمل ليتركه إلى آخر شغله الشاغل كيف يستمتع بالحياة ويعيش على نحو شعري في عالم غير شعري. يقول أن العالم يحتاج إلى إعادة توزيع نفسه بما في ذلك البشر فقد ضاق لهم. عالم وصفه في واحد من نصوصه بالمتعمش من الغائط يقول "عندما "يعملها الحوت / ربما مرة كل ثلاثة أشهر تنتعش حيوات عشرات الحشرات والطفيليات والطحالب والكائنات الدقيقة التي تحيا فقط بفضل هذا الغائط. إنه غذاء لا تحيا بعضها بدونه، وهو بيئة لا يمكن أن تنفس من دونه. العديد من الكائنات الأخرى تعتمد على فضلات كائنات أخرى لتحيا وتزدهر. كلها بدون استثناء لا تعس أن سر وجودها هو براز كائن آخر."ص123

الرحلة مع نصوص حمد نزال ممتعة حد الإيلام. كتاب مهم لأنه لا يردد أحدا يكتب نفسه بنفسه مثل براز حيوان جديد سيمر وقت قبل أن يقلّد أو أن تحيا به كائنات أخرى.

مثل حركة الترافيلنغ في عالم السينما يمسح حمد نزال المشهد الأجناسي الأدبي كله وفنون الكتابة ويقدّم كتابا مختلفا يليق بعنوانه عارطا في سماءات الادعاء المستحب ساخرا بينبغيات الكتابة وقوانينها الصارمة مومئا أن الصرامة في التفكير كما في التعبير وفي الفكرة قبل الكلمة. فمن ماعت فكرته فلا خير في لسانه الفصيح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى