السبت ٢٦ شباط (فبراير) ٢٠١١
بقلم عبد الرضا علي

الشعرُ في زمن ِالأوجاع

(لايجوز) أنموذجا ً

لا أدري من أين أبدأ،فأوجاعنا كثيرة، والهمّ ُ ثقيل،والشعرُ لا يقترب منها إلّا لماماً؛وحتّى إن اقترب منها،لا تجدُ فيه ما يؤشّرُ على إنجاز ٍ يمكنُ أنْ يُصبحَ مرايا لهذه الأوجاع التي شكّلت جراحاً ذات أفواه فاغرة بداءةً من سقوط الدكتاتوريّة،وحتّى يومنا هذا.

إذا ارتضينا أنَّ الشعر لم يعد كلاماً موزوناً مقفّى،وإنّما هو نبوءة ورؤيا، إذاً ينبغي على هذه النبوءة ألّا تلوي عنقها عن أهمِّ ما يمرّ ُ به العراق وشعبه في سنوات محنته ِهذه من مخاطر لم يتعرّض لمثلها شعبٌ قبله،كذلك لم يعد الشاعر الحقيقي نظّاماً يرضي ذاته ليس إلّا، إنّما عليه عبء التعبير عن الموقف المسؤول بوصفه مثقّفاً منحازاً يلتزم قضايا شعبه بالمفهوم العام للالتزام،لاسيّما إذا كان الأمر يتعلّق بمعالم حضارته العمرانيّة،وإرثه الثقافي،وما استنبته بعد سقوط الصنم من ديمقراطيّة وليدة (وإن كانت ضعيفة تحبو) قادته إلى حريّة الأداء في الفن والقول والكتابة والعمل،واختيار الرأي الفلسفي الذي يرتضيه بمحض إرادته.

وإذا كان الشعر لم يستطع أن يلاحق ما تعرّض له الشعبُ العراقيّ من فجائع الموت المتلاحق الذي جرى على أيدي التكفيريين الدمويين َ من الإرهابيين َ وميليشيات القتل العديدة التي طالت الأسواق،والجوامع، والأضرحة والكنائس،والحسينيّات والزوّار،والمسافرين،لهولِ بشاعتِها اتّساعاً؛ فإنّه ليُسأل عن غيابهِ المخجل حين فجّرَ الإرهابيّون (في الخامس من آذار سنة 2007م) شارع المتنبّي بوصفهِ رئة بغداد الثقافيّة،ومعلمها المعرفيّ الجميل . فهل يُعقلُ أن يسكتَ الشعراءُ عن هذا الوجع الذي حلَّ بالثقافةِ والمثقّفين َ من غير أن نقرأ لهم نصوصاً فنّيّة ً توظّفُ هذا الحدث،وتتناول هذه الفاجعة رمزيّاً ؟ كيفَ لهم أن ينسوا ما كان لهذا الشارع من أثر ٍ في تكوينهم الثقافيّ والمعرفيّ والنفسيّ ؟
ألم يتنفّسوا ضوع أوراقه المضمّخة بأريج حضارة وادي الرافدين يوم حلموا أن يكونوا من مبدعيه،فتعرض دواوينهم الشعريّة فيه جنباً إلى جنب دواوين عباقرته: المتنبّي والجواهري والسيّاب،وغيرهم؟ أليس هذا عقوقاً عظيماً؟

ثمَّ أين كان الشعراء حين نسف المجرمون التكفيريّون جسر الصرّافيّة،أو ما يُطلق عليه بـالجسر الحديدي (صبيحة يوم12/4/2007م) الذي ظلَّ ماثلاً في ذاكرة البغداديين المعماريّة والوجدانيّة لأكثر من ستين سنة،وتغنّوا به،وجعلوه شاهدهم على ما كان يغزل في مواعيدهم من حبائل المحبّة وعهودها في مواقيت العصرينِ.

ثمَّ أين كان الشعرُ حين توافق الحقدُ على تفجير صينيّة الملويّة في سامرّاء،وأين كان يوم الجمعة(ا فبراير/ شباط 2008م) حين اختلطت دماء البشر بدماء الطيور والحيوانات في سوق الغزل الكائن في شارع الجمهوريّة الذي أسماه العراقيّون بـ(سوق الجمعة) لبيع الطيور والأسماك،وأين كان يوم(31/10/2010) حين اقتحم القتلةُ كنيسة النجاة،وقتلوا الناس وهم يؤدّون الصلاة...أسئلة كثيرة ولا نجدُ لها من إجابات لدى الشعراء،سوى استثناءات قليلة حضرت لقاعات المواقع الرقميّة،أو أوراق المجاميع الشعريّة وهي خجلى من قلّة العدد [1]

ومع أنَّ موجة الإرهاب قد بدأت تنحسرُ هذه الأيّام ،وتلفظ أنفاسها الأخيرة لأسباب عديدة لا مجال لذكرها،فإنّ هجمات أخرى قد بدأت تلاحق العراقيين وتزيد في أوجاعهم،لكنّ مصدرها هذه المرّة هم الأخوة الأعداء من الضالعين في نشر العَتَمة،فهؤلاء لا يحبّون ما في الكون من جمال،ويكرهون الفن،ويستخفّون بنصف المجتمع الأول وليس الثاني،ولا يعترفون بأهميّة المسرح في نشر الوعي ،وبناء الإنسان،ويُحرّمون سماع الأغاني،ويمنعون مهرجانات الموسيقا التي تقام في المحافظات التي يحكمونها،ويحجّمون دراسة الفنّ التشكيلي لأنّه يهتمّ ُ بالأنصاب(كما يزعمون)،وينادون بعزل البنين عن البنات في الجامعات ويتدخّلون في مقاسات أزيائهنَّ باسم الاحتشام. ويبدو أنَّهم نسوا ما قاله الجواهري لوزير الداخليّة العراقي صالح مهدي عمّاش أيّام جمهوريّة الخوف سنة 1969م،أثر الحملة الشرسة التي شنّها على أزياء النساء في العراق في قصيدته (رسالة مملّحة) التي منها هذه الأبيات:

نُبّئـتُ أنّكَ توســـــــعُ الـ
أزيــــــاءَ عتّاً،واعتسافا
تقفو خطـــى المتـأنّقــــا
تِ كســـالِكِ الأثرِ اقتيافا
أترى العفاف مقاسَ أقــ
ـمشـةٍ؟ظلمتَ إذن عفافا
هو في الضمائـرِ لا تُخــا
ط ُ،ولا تقصّ ُ،ولا تكافى
من لم يخف عُقبى الضميـ
ـرِ فمِن سواهُ لن يخـــافا

فكان لوقعها الأثر الفعّال في السخرية من وزير الداخليّة،ومن محافظ بغداد آنذاك خير الله طلفاح(سيّء الصيت)،وكأنَّ التاريخ يعيد اليوم نفسه للأسف.

وقصيدة عارف الساعدي " لايجوز" التي كُتبت هذه المقالة احتفاء بها،تعالجُ هذا الوجع الجديد الذي بدأ يستشري،وتتصدّى لأفكاره على نحو ٍ ذكيّ محبّب ليس فيه ما يخدش الآخر، أو يقدح بشخصيّته،لخلوّه ِ من أيّ تشنّج،أو مصادرة أواستهانة،وإليكم النصّ :

شَعَرُ البناتْ [2]
لأنّكَ لم تعشقِ امرأةً
أو تداعب ضفيرتها ذات َ ليلْ
لذلكّ تكرهُ شعرَ البناتْ
وأذكرُ أنّكّ تضربُ كلَّ الصغار- الذينَ اشتروا بدراهمهم شعر كلِّ البنات-
وتطردُ بائعهُ من محلّتنا
وتقول:
إنَّ شعرَ البنات ْ
قد يذكّرُكم بالحياة ْ
لأنّكَ لم تبصرِ الصبحَ
حين يسيلُ على صوتِ فيروز
ولم ترَهُ
وهو يفرُكُ عينيه في لذّةٍ
هكذا أنتَ
صباحُكَ حافٍ من الأغنيات ْ
صباحُكَ تسحلُهُ الشمسُ متعبة ً
صباحُكَ يبدأ ُ خطواته كالعجوزْ
لذلك َ تنسى
جميعَ الأغاني
وتبقى تُردّدُ في عطش ٍ:
لا يجوزْ
لا يجوزْ
لا يجوزْ.

القصيدة كُتبتْ(كما يبدو) بعد جلسة نقاش حامية بين شاعر منفتح على الحياة،وآخرَ مِن المنغلقين عليها الذين لا يرونها إلّا مِن خلل منظارهم الملبّد بالضباب الذي يجعل على أبصارهم غِشاوة،إلّا ما يرغبون في رؤيته.

فهم يكرهون كلّ ما هو جميل بدواعي شتّى تصل أحياناً إلى التحريم،وربّما لا يتورّعون مِن اتّهام مخالفيهم بالكفر والزندقة إن اقتضى الحال،فيتزمّتون في آرائهم إلى الحدّ الذي يجعل الآخر حائراً في معرفة ما ينبغي عمله،وما لا ينبغي.
وهذه الراديكاليّة المفرطة تفرض على المجتمع آراءها بسلاح التفويض الإلهي،وعقليّة الانغلاق الكهنوتي الذي يؤمن بالاستبداد الفكري،ويشيع طغيان الرأي الواحد،ويحجّم الحريّة إن لم يرفضها. لكنَّ الشاعر لم يقل هذا مباشرةً،لأنَّ الشعرَ حين يكونُ مباشراً يخفق في امتحان الفنّ،فضلاً عن أنّه سيزري بقائله.

فكما كانت الثقافة موقفاً لصانعها قبل أن تكون إنشاءً،فإنّ الشعر هو الآخر موقف يتصدّى به صانعه لكلِّ مَن يريد فرض ما عشّش في مخيّلتِه من عَتَمة ٍعلى الفكر التنويري الذي يؤمن بتلاقح الأفكار،وصولاً لتحقيق ما هو أنفع وأحلى وأجمل،وهي مواقف يُمتحنُ فيها الرجال كما قال الجواهري العظيم:
وتُمتَحنُ الرجولة ُ في محكّ ٍ

يُمازُ بها المزيّفُ والأصيل ُ

ولاشكّ، فإنّ عارف الساعديّ كان مقتدراً في مناقشة الآخر المتزمّت حين ابتعدَ عن دائرة المباشرة في أدائه الشعريّ كما ألمعنا ،لأنّ المباشرة عيبٌ،لهذا عِيبَ على عمر بن أبي ربيعة قوله:

ثمَّ قالوا تحبّها؟قلتُ: بهراً
عددَ النجم والحصى والترابِ

لأنها صورة عاديّة،في حين كان البردّوني عبد الله(1929-1999م) سامقاً في تصوير حبّه لصنعاء على نحو ٍ غريب،لابتعاده عن المباشرة في قوله:

طلبتُ فطورَ اثنينِ قالوا: بأنّني
وحيدٌ، فقلتُ: اثنينِ إنَّ معي صنعا!

فقد قالت المفردات القليلة في هذا البيت كلاماً كثيراً في حبِّ البردّوني لصنعاء،فهو حبّ ٌ لا يعادله حبّ ٌ آخر،لكونه لصيقاً به أينما سار وحلَّ،ولن تحلّ المدن الأخرى بديلاً عنها مهما كانت جميلة وعريقة،سواء أكانت دمشق(كُتبت القصيدة في مطعم فندق دمشقيّ) أم غيرها من المدن،لأنّها تعيش في روحه ووجدانه وقلبه...إنّها القرين الروحي الذي يستبطنه،فكيف له أن ينسى هذا القرين؟ [3]

وهذا ما فعله الساعديّ عينه،ابتداءً بالعنوان "شعَر البنات" الذي يُشير إلى نوع مِن الحلوى التي يعشقها الأطفال في العراق ويسارعون إلى شرائها،وانتهاءً بكلمة (لايجوز) التي أنهى بها القصيدة،فقد كانت هذه القصيدة قصيرة جدّاً،ومفرداتها معدودة،لكنّها قالت الكثير.
لقد جرى اختيار العنوان بدقّة بوصفه مدخلاً لما ينويه الشاعر من كشف ٍ يتعلّق بالمتزمّت،وما يضمره من كرهٍ لكلِّ ما في الحياة من مذاق ٍ لذيذ مطلوب،فهو لم يقل له :إنّكَ تكره المرأة مباشرةً،لأنّه لو فعل لأخرج التورية من مجازها،إنّما ترك المتزمّت يقول:

إنَّ شَعْرَ البنات ْ
قد يُذكّركم بالحياة ْ

وهذه(الحياة) تورية عن المرأة لكونها عنواناً للخصب ِ والجمال وتجدّدِ الحياة، لهذا فإنّ طرد المتزمّت لبائع الحلوى من المحلّة، وعدم السماح له ببيع شعر البنات للصغار ترميزٌ لما يقوم به بعضهم من طرد الجمال عن المجتمع، وفرض الأفكار السوداويّة عليه.

وحين أراد الشاعر أن يُشيرَ إلى تحجّر المتزمّت وانغلاقه في عدم جواز الاهتمام بالمسرح والموسيقا والغناء،وما له علاقة بالفنّ الذي يجعل الحياة مستساغة في ظلّ هذه الأوجاع،فإنّه لم يقل له مباشرةً :إنّ أفكارَكَ رممٌ بالية مغرقة في رجعيّتها إلى حدِّ النخاع،لأنّه لو فعل ذلك لجعل النصّ كلاماً عاديّاً يدور فيه حوار سوقيّ،وأخرجه من دائرة الإبداع،إنّما قال:

لأنّكَ لم تُبصر الصبحَ
حينَ يسيلُ على صوتِ فيروز
ولم تره
وهو يفركُ عينيه في لذّةٍ

كما أنّ الصبحَ كان هو الآخر تورية ً أو ترميزاً لما في الدنيا من سحر ٍ يشكّله صوت الموسيقا المصاحب لصوت فيروز الملائكي الذي يخاف سماعه المتزمّتون من أمثال مانع بيع شعر البنات مع سبق الإصرار والترصّد.

طوبى لهذا النصّ الجميل الذي شكّل موقفاً لشاعر شاب لم تخفه فوبيا الراديكاليّة، فقال ما يجب قوله في زمن الأوجاع الجديدة.

هوامش

(لايجوز) أنموذجا ً

[1باستثناء قصيدة سعيد جاسم الزبيدي "ذلك الجسر" في مجموعته" صوت بلا صدى" وقصيدة عبد اللطيف أطيمش "توابيت عائمة" في المجموعة التي حملت عنوان القصيدة نفسها ،وقصيدة عبد الرزّاق الربيعي «كاتم صوت»، وقصيدة سامي العامري «سيّدة النجاة وإكليل العيد».

[2قرأها الشاعر في الأمسية الشعريّة التي أقيمت يوم الثلاثاء 14 ديسمبر 2010م،في قاعة الجمعيّة العمانيّة للكتّاب والأدباء في مسقط/سلطنة عمان،وحين نزل الشاعر من المنصّة طلبتها منه،فكتبها لي بخطّه مشكوراً.

[3تنظر مقالتنا: بنية القصيدة التقليديّة،ص188.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى