الأربعاء ٢٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٢
بقلم هيثم نافل والي

الشهوة

ضرب عبد الرزاق صدره بقبضة يده بقوة، كمن ركبه عفريت أزرق... وهو يصيح: يجب أن أفعلها الليلة!

لم يكن عبد الرزاق سيء الأخلاق؛ بل تخرج من كلية الطب البيطري منذ سنتين، أنهى خدمته العسكرية قبل أشهر قليلة، حاول أن يجد عملاً في تخصصه، ولم يجد؛ فبقي عاطلاً، حائراً، خامداً يسكن مع وحدته التي تعود عليها ويداريها كحظه العاثر، الكسير في غرفة فوق السطوح، شبه عارية من الأثاث والأغراض، قديمة، مهدمة ومتهالكة والتي يكاد يدقها الشهيق والزفير...

كان عبد الرزاق قصير القامة، ناعم العظام، قليل الشعر، أحمر الوجه، وله شارب رفيع، كالخيط، وغالبا ما يخنق نفسه برباط جلدي أحمر اللون، باهت كلون وجهه، مدعاة للسخرية من قبل أصحابه وزملائه في الكلية قبل تخرجه... تلك التي لم يجن منها سوى الوحدة والفراغ والملل؛ وماذا كان ينتظر من دراسته تلك؟ فمتى كان الإنسان في شرقنا العربي محترماً أو مقدراً أو مراعى؟! ومتى يصير لنا ذلك... عندها ربما يجد عبد الرزاق عملاً يأكل منه خبزاً ويستطيع ممارسته عمله في تخصصه، كطبيب بيطري!

أكثر ما كان يميزه ضحكته التي لها صوت قرقرة( النركيلة ) في فورتها، لا يكملها... يقطعها عند منتصفها، يبتلعها ويدور بجسمه النحيف حول محوره نصف دورة ثم يرجع إلى وضعه الذي كان عليه قبل أن يضحك، فيتراءى لمن حوله في تلك اللحظة، على أنه يمثل دور الساحرة العجوز!

وفي ليل بارد النسمات، استيقظ الشيطان النائم في داخله فجأة، فبدا خارقا، ساديا، جامحا، هادرا ومغرورا، بعد أن نزت أحداقه عن شهوة حارقة... تألقت وتوهجت واحمرت عيناه، ورجفت شفتاه ولعب ودار اللعاب في فمه دون سيطرة أو إرادة. استوحش الأشياء كلها... ولم يعد يطيق الصبر، وكل ما كان يدور بعقله، الذي استخف به طرب الشهوة المتقدة، الحارة، كحرارة جسمه المحموم الذي يكاد ينفجر، كبالونه لا تستوعب المزيد من الهواء، بل أصبح مختلج الشهوة، كمرجل بخاري؛ لقد استولت النزوة على كل كيانه ولم يعد يستطيع الانتظار أو النسيان أو حتى الابتعاد عنها بعد أن ضاعت خطى التراجع، كالدموع عندما تنهمر، لا يمكن إرجاعها إلى أحداقها؛ لا فائدة من العدول، ولم يبق له، إلا تحقيق رغبته، لإطفاء نزوته... هكذا انزلق عقله الباطن، ونشطت ثورته الجامحة نحو الفعل، وهو يخطط بثبات صارم لا يقهر وبعزيمة لا تلين أو تكسر... وبذكاء وحنكة ومكر لا يجرؤ أي شرير جالس في أسفل السلم، للتخطيط له أو لاقترافه!!

انتصف الليل، همد الناس واستسلموا للرقاد، كالقتلى؛ بعد أن هدأت أرواحهم وسكنت حركاتهم، وعم الصمت الحي الذي يقطنه عبد الرزاق كله... إلا من لهاث قلبه وصرخات نزوته وعضات الجوع الذي ينهش جسمه وروحه التي تلوثت وتلونت بلون الخزي وهو يرتجف تحت وطأة حمى الجنس...

يمر الوقت قاسيا عليه وبطيئاً حتى بدا أكثر توثباً، كالمجنون وهو يردد: تلك الحسناء غادة، ما أجمل اسمها وصورتها؛ النائمة لوحدها في عتمة الليل وسكونه، لابد من إنها تكون الآن عارية، كحواء الأولى في انتظاري، بل ستفرح بقدومي وتأخذني بالأحضان، حتى طلوع الفجر وبزوغ الشمس! سأجعلها تسمع طقطقة عظامها وهي تحتي تئن وتنوح... سوف لن يشفع لها شفيع ولا تنفع معها ضراعة... ستعلم عندها، ماذا يعني شبقي إليها ورغبتي فيها، وسأسقط في أذنيها كلمات جنس مكشوفة، حتى أجعلها تحترق، تتلوى، تتعذب، تتموج تحتي، تذوب كشمعة لتكون شيئاً مسحوقاً، ليناً، ذائباً، رقيقاً، كالعجين! سنكون مثل قطرتي ماء عندما تندمجان لتصبحا قطرة واحدة... حينها صرخ دون وعي: نعم، ما أحلانا... سنكون كتلة لحم واحدة!! ثم تابع، لقد سألت عنها، وكأنني أنوي الزواج منها، في كل مكان، وقالوا إنها تعيش بمفردها، لوحدها بعد أن خطفت الحرب الأهلية زوجها، تلك التي اشتعلت بيت القوم على الهوية! قتل زوجها وليس لها أولاد، ثم تشجع، فعلا صوته مجددا، وكأنه يطرب لكلماته: إذن هي مثلي، وظروفها، كظروفي، ماعدا أنها أرملة وأنا مازلت عازبا... لابد من أن جسدها يستعر الآن، كما يشتعل جسدي، وتشتهي الجنس، كما أشتهي، فلهبه يلفح ويحرق أجسادنا كلينا بناره المستعرة، التي تشبه نار جهنم... سنموت حتماً إذا لم نطفئها... ثم صاح بهوس: لابد من أن نطفئها( قال ذلك والزبد يخرج من فمه، كجمل يرغي)

وسط تلك الثورة الجهنمية، نظر إلى ساعته، فلم يستطع قراءتها... دقق النظر، كمن يعاني قصر النظر، فهتف: الواحدة ليلاً... ما أجمل المقامرة والمجازفة والمغامرة... في مثل هذا الوقت!! ثم همس بصعوبة وهو يحاول أن يبلع ريقه: سأضاجعها بقلب صامد لا يهاب ولا يخاف، سأجعل سريرها يهتز من تحتنا، كمركب على سطح البحر في يوم عاصف، يعلو وينخفض ولا يعرف السكون طريقاً له؛ ستكون ليلة مليحة يذكرها التاريخ، بل سأجعلها تتذكر الواقعة، كتاريخ يوم ولادتها!! ثم واصل على نفس الوتيرة: كل شيء فيها مثير ويستثير... عيناها، شفتاها، صوتها الساحر، الآسر، الموسيقي العذب، صدرها العامر الطري الناهض المشاكس، خصرها الضامر، جسمها المرمري الرشيق وحتى... يا لها من امرأة خارقة الأنوثة، كمسرح من الخيال في حلم جنسي رائع، لفتى مراهق...

انحلت أعصابه، بعد أن توترت وفقدت قوتها... انصاعت للرغبة المحمومة بغية الارتواء وكما يقال عند الإغريق القدماء، عندما تتوازن الشهوة مع العقل، يكون المرء حينها سوياً؛ لكن كفة عبد الرزاق انحرفت ومالت نحو الفعل والشهوة ونزقها وبات العقل، شيئاُ منسيا، لا وجود له، بعد أن تجمع شبق الرجال الجياع فيه دفعة واحدة.... فحدث نفسه، كأنما وعى فجأة : متى أنال منها؟! ماذا يرغمني أن انتظر كل هذا الوقت؟! وأنا الذي سأجعلها سكرى دون خمر... بعد أن أسقيها بشفتي قبلات حارة، ملتهبة، كما المطر الساقط من السماء، سأرويها وأجعلها تموت بقبلاتي غرقاً، بعد أن أزرع في جسدها قبلاً! بل ستعترف بأنها لم تتزوج من قبل! ولم تمارس الحب مع رجل من قبلي!!

تردد قليلاً، وكأنه صحا على نفسه وسأل: من الذي يؤكد لي، بأنها تنتظرني؟ بل من يقول بأنها تتحرق شوقاً مثلي؟ أو حتى موجودة لوحدها، كما سمعت؟! ثم ضرب رأسه بقوة وصاح: ما هذه الهواجس النجسة التي قفزت في ذهني فجأة؟! تباً لي ولحظي المنحوس الذي يأبى أن يقف ولو لمرة واحدة بجانبي! ثم تابع بصرامة: لا محل للكلام الآن... إلى العمل، بل إلى الفعل، فمشاعري الجنسية قد استنفرت كل طاقتها ولم يبق سوى الترويح والتنفيس عنها، ولتحيا الغريزة وليصفق لي الشيطان وليموت بعدها كل الأحياء الذين يتبجحون بأقوالهم، ونحن جياع!! عندها نهض مسرعاً واتجه نحو سور السطح الذي يفصله عن حسنائه وغمغم مع نفسه: سأتعوذ بالله واذهب؛ فإما أكون مفقودا أو مولودا... لأن أوصالي المتوترة سوف لن تهدأ إلا بعد أن أتمم الفعل! عندها سأشعر بالراحة والهمود، ونادي، كأنما يدعو: لتتمرغ الكرامة بالتراب، لينتحر الكبرياء، ولتصعق الأخلاق، ليموت الكلام وليبقى الفعل هو سيد الحياة وهدفها... عندها قفز من سور السطح المنخفض، والظلمة تملأ الفراغ وتبتلعه، والنجوم في سمائها عالقة وهي ساهرة، ربما تحب أن تشهد الواقعة؟ وأسطح المنازل خاوية، بأحجارها، القديمة والآيلة للسقوط، والقمر يبتسم... تسلسل عبد الرزاق ، كالفدائي... وسعى ينساب، كالثعبان وهو يفح ويلهث ويردد دعاء، كمؤمن بعد الصلاة: رعانا الله وحفظنا، أنت الحي القيوم.

عالج شباك غرفتها، كالسارق، بأيدي مرتجفة، خائفة ففتحه ولم يتوقع أن تسير معه الأمور بهذه السهولة... فتشجع وهو يلتهب من السعير الذي يتلجلج بداخله، وهو يتابع السطو؛ وما أن حطت قدماه الأرض، حتى جفل بالصرخة التي انطلقت من غادة، كصرخة وحش والنوم مازال عالقاً في جفنيها وفي ذهنها بقايا من حلم مخيف، مرعب لم ينته بعد:

قف عندك!! لا تقترب أكثر... أحذرك! فأسناني حادة، قاطعة، كحافة السكين التي أحملها، ثم تابعت بحزم وصرامة وبقلب شجاع، وكأنه متدرب على هكذا مواقف، تأكد بأن سيكني مجربة وموثوق منها!! سأقتلك ولن أندم، بل سأكون راضية تماماً... ثم عدلت من هيئتها، وغطت صدرها بقميص النوم الملقى على السرير، وبحركة بهلوانية، سريعة وخاطفة فتحت النور، وألقت نظرة خاطفة إليه... كان عبد الرزاق واجما، ساهياً وواقفاً كجذع شجرة، صامتاً كصخرة الجبل، لا يحرك ساكنا، بعد أن صدمته المباغتة التي لم يتوقع حدوثها... ثم حاول أن يرسم ابتسامة بريئة على وجهه، فخرجت بلهاء، لا معنى لها، كأنها ندت عن رجل متورط، مجنون جاء للسرقة، فوجد أصحاب الدار في انتظاره!! (( وهو يردد في سره، وبإيمان حقيقي خالص: أراهن على إنها تحتقرني... آه يا ألهي، أشعر بأن الخجل يمتصني، يغرقني في بحره العميق، وكأنني أقف أمامها عارياً، فأخجل من عريي؛ كم غريب هذا المخلوق الذي يدعى أنه إنسان! تراه في لحظة، مارد كالوحش، وفي ذات الوقت، مسكينا، كالطفل اليتيم... ثم استطرد في همسة- وهي تتأمله من فوق إلى تحت- وهو يتابع ترجمة هواجسه التي تحطمه في تلك اللحظة، لم أعد أشتهيها!! لقد زالت النزوة فجأة، هدأت، بعد أن تلوت وهاجت ومن ثم ناحت وبكت وذرفت الدموع ونامت! نعم، لقد نامت الشهوة في داخلي كطفل بعد الشبع... ولكن هل شبعت يا ترى حقاً؟! تباً لي وعلى هذه المغامرة الحقيرة، الدنيئة التي لا يرتكبها شرير من نسل إبليس ))

 استفاق على صوتها الملائكي وهي تسأله بحدة: من أنت؟ وما الذي جاء بك وبمثل هذا الوقت؟

 بهدوء مريض لا ينم عن عاقل في موقف كهذا، قال: أنا الطبيب البيطري عبد الرزاق، ثم تلكأ قائلاً، جئت... في الحقيقة، أقصد... جئت لأحضنك!!

 ماذا؟ وهي تصرخ ضاحكة!

 أجابها بنبرة تقطر أسى وخذلانا: قلت( وهو بالكاد يحاول بلع ريقه الناشف ): سأقبلها، كما يفعل البحر مع الرمل على الساحل! بل ذهبت إلى ما هو أبعد، حيث تراءى لي بأن البحر يترك رغوته وزبده على الشاطئ... ويرجع فرحاً بإنجازه العظيم!!

 كلامك يدخل قلبي سريعاً ويستقر فيه، فهو ينم عن عقل راجح، مثقف ويفهم في عالم وأسرار المرأة؛ ثم استطردت بدهاء وحنكة، كعهد المرأة عند الشدائد: علاقة البحر والرمل... لا تعرف الخفاء أو الخجل، فهي علاقة واضحة، صريحة وتمارس تحت نظر الشمس والقمر والناس... دون خوف أو تردد!!

 ارتاح قليلاً لجوابها، وردد في سره(( هكذا هي الأنثى، تريد ولا تريد، وعندما ترغب، ليس من المحاولة الأولى، لكنها لو تأبى، ليس هناك من قوة تستطيع أن ترغم المرأة على العطاء... إذ يمكن لك أن تسحقها، تهشم رأسها، تغتصبها، تزرع في جسدها ما شأت... لكنك لن تنتزع منها شيئاً هي لا تريد إعطائه!! ثم واصل همسه بشكل قاطع، تأكدت الآن بأنها ليست حسناء فقط، بل سريعة البديهية، متقدة الذكاء كالظن، ومهيبة كالغابة، ومخيفة كالجحيم وكلماتها جاءت نافذة وسريعة، كالطلقة)) ثم تباطأ في الرد مجبراً، عندها أجاب بنبرة متوسلة، كأنما يسترضيها: ما هي شروطك إذن؟

قالت بصوت مطمئن، ناعم ومتناغم مع أنوثتها المتدفقة سحراً وجمال: أن نكون مثل البحر والرمل! ثم لاطفته مازحة، بعد الشر عنك... ثم صمتت وحسبها انتهت ، لكنها تابعت بحرص: أقصد بالحلال يا هذا، ولكن بعد أن نتعرف على بعضنا البعض جيداً، ثم استطردت وهي تغمز بخبث، الخبرة والتجربة تقول ذلك، وليس أنا! وأكتم السر، فإذا تجاوزنا، شاع!! وتابعت كلامها الهادر الصريح، بغية إحراجه، ولكن، لم تقل لي بعد... ماذا عن سلاحك؟!

 كان الرمح منتصباً ثم مات! واستطرد، أقصد... بكى وذرف الدموع ثم وهن وخمد ومات! وواصل بجرأة شبه مصطنعة، لن يعاود الكره مرة أخرى وعلى هذه الشاكلة...

 أجابته بحسم: الشطر الثاني من جوابك، أؤيدك فيه وأقول، لا تجعله يقظاً في أنصاف الليالي... حذار أن تفعل ذلك ولا تخف، فالخوف تحت الضغط يولد الجنون، والعياذ بالله! وأنا لا أريدك جثة ولا مجنونا، ثم سألته وكأنها تسأل نفسها: العمى، لماذا لا يريد أن يفهم، هذا الذي أقتحم عليّ غرفتي فجأة هكذا، كالقضاء والقدر؟! ثم أدركت قائلة، كأنما تذكرت ما تريد قوله، ماذا تقول؟ لقد بكى وذرف الدموع!! إذن احترس على ما تبقى! وإلا ستسقط من سجلات الرجال! وتابعت كلامها بثقة واعتداد، من الظاهر أنك لم تسمع بأن المشنوق يفعل الشيء ذاته عندما يشنق! ثم أردفت، أدركت قائلة: أدركت العوض على سلامتك! ولكن، قل لي قبل أن أنسى، من الذي أمات رمحك؟ ( بابتسامة شيطانية) عفواً، أقصد سلاحك؟!

 الخزي والشرف!!

 عجباً، شيئان نقيضان لا يتفقان أبداً، كصراع رجلين على امرأة واحدة في غابة، وهي عارية كما خلقها الله... تماماً كالخجل والجسارة، لا يتفقان أبداً، ولابد لك أن تطلق أحدهما، لكي تنعم بالراحة مع الأخرى!!

 قال مقتضباً، بعد أن تورم قلقه وكبر خجله ولم يعد يطيق الصبر: هو كذلك، عواء الغريزة واللعنة مقابل العفة والطهارة مضافا لهما الجمال والحكمة... لذلك سأعود كما أتيت.

 ابتسمت راضية وهي تقول: إذن فكر فيما قلته لك...

 ماذا تقصدين؟

 تسلل، فالليل ستاراً للهرب، وأغلق الشباك من ورائك!! ولكن لا تنس بأنك أتيتني جثة بلا روح! وأنا لا أحب التعامل مع الأموات!! تعوذ بالله وارجع سالماً...

 أجاب بحيرة وبنكد وبوجه مربد: لقد تعوذت بالله قبل أن آتي، وكما ترين لم ينفع التعويذ وربما حتى الصلاة!! جئت أطلب الحياة على يديك وأتذوق السعادة، فوجدتك حسناء بعقل نبي!! ثم أردف متسائلاً: ولكن ماذا تقصدين، جثة بلا روح؟!

 قالت بغنج فاضح: أقصد، أنك جئت جسداً لا شعور فيه، يعني، جثة ( ثم تغلب الخبث الذي فيها على طيبتها وسحرها ) ربما لأنك فقير ومعدم وعاطل عن العمل يا... وهتفت: ماذا قلت لي؟ ما اسمك؟ وتابعت بفخر صادق وبرصانة وحرص، هأنت تعترف بأننا معشر النساء أفضل منكم عقلاً ودينا، ثم أردفت، عليك في المستقبل أن تكون بارعاً، خارقاً وأكثر حذرا... وإلا سيصادفك موقف هذه الليلة البارد، وكما ترى ابرد من الثلج وأقسى من الموت ذاته! وكما يقول أحمد شوقي" الغواني يغرهن الثناء" وأنا لست بغانية كما رأيت. عندها عدلت من وقفتها، وبانت أكثر جمال رغم تعبها ونعاسها، وقالت، ستذهب ولكنك لن تستطيع النوم... وهي تردد، في الشرق، الواحد منا يحتاج إلى معجزة كي يستطيع أن يعيش!! لا بتعويذة بريئة!

 هل تعلمين الغيب أيضاً؟! ثم همس في سره: يفعلها الله أن أراد!

 كلا، بل أعلم بأن أصحاب الوجدان مثلك، لهم حساسية دقيقة، نبيهة، متفتحة... وهؤلاء يصعب عليهم النوم، فهم مشغولون بقضايا أكبر من همومهم الشخصية.

لملم ما تبقى في داخله من بقايا إرادة... لم يتمرد أو يحتج، ولم ينبس... انسحب بهدوء، كالظل، بلا صوت، كالسارق، خفيفاً، كالريح التي تقبل وجهه وتدفعه برفق باتجاه غرفته...

خرج يعبر سور السطوح، فبدا وسط الظلمة وهو يتسلل، كالشبح... قافلاً إلى غرفته القديمة، المتهدمة الآيلة إلى السقوط والتي يكاد يدقها الشهيق والزفير... ثم جلس على حافة السرير وحاور نفسه خجلاً، من غير كلام: لماذا؟ هل ألأنني حلمت حلماً كبيراً؟! أم لأنني لم أكن مؤمناً بقدرتي وشجاعتي بما يجعلني أفوز بما أريد؟! آه... أشعر بالقهر والهزيمة والعار، لقد عمدني العار، فخرجت منه وأنا شيئاً أشبه باللعنة أو كالمحكوم بالنذالة، لقد تحول خجلي إلى عار بعد أن تعمدت به! يجب أن أتحمله وأتعايش معه، كالفقر؛ علي أن أنتصر عليهما، ولكن كيف؟! وأنا الطبيب البيطري العاطل عن العمل، الساكن فوق السطوح والذي لا يعبأ به أحد... بل أكاد أجزم بأن الدولة لو أرادت أن تحصي سكانها، سوف لن تعثر علي!! بل لن تتصور بأنني أسكن في غرفة كهذه!! سوف لن يتجرأ أحد على الصعود، سيخاف ويهاب الموت، بل سيقول بأن المدعو عبد الرزاق ميت، مفقود، لا وجود له، لا يحمل هوية تثبت شخصيته، بل ليس عراقياً!! وقد أكون إرهابيا في نظرهم... لأنني أسكن وأتخفى هنا!! ثم تمدد على السرير بغية النوم... لكنه ظل قلقاً، حائراً متخاصماً مع نفسه، يتقلب في فراشه، كسمكة خرجت من الماء لتوها وهي تقاوم الموت، سعياً في الحياة؛ ثم بكى بتشنج مربك من العار الذي يرفضه حتى الذليل، وصاح بيأس:

لقد صدق حدس الحسناء العجيبة، لقد فسرت فصدقت وها أنا أتقلب ولا أعرف للنوم طريقاً، فيَّ قهر ولوعة لجوع البطن والجسد وكلاهما قاس على الإنسان؛ لقد قالت لي غادة دون رياء، جسد بلا روح ولم يبق لي إلا أن أتوارى في حفرة... عندها شعر وفي تلك اللحظة بالذات، بأنه غريب، منبوذ، كاليتيم العاجز... ثم هتف بحرقة ودون وعي: ما أقسى أن يشعر المرء بالغربة والوحدة واليتم وهو في وطنه!! في حين أطفأت غادة النور وعادت مجددا تحاول النوم، ولكن النوم جفاها هي الأخرى... رددت مع نفسها بانفعال، وكأنها تنتقم، مازلت لم أبع للشيطان جسدي ولا روحي؛ ثم بكت بألم وبصوت مكتوم، أخرس بلله التأثر...ولم يغمض لها جفن.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى