الاثنين ١١ تموز (يوليو) ٢٠١١
بقلم أنوار الأنوار

الصّورة الرابعة.. كلّنا قتلنا عثمان!

الصورة الأولى لفتىً بنظرة لهفةٍ إلى الحياة وعينين تفيضان بريقَ ابتسامٍ وأمل، وضحكةٍ بريئة تتدفق من ملامحه. الصورة الثانية لذات الفتى مسجّى قتيلاً على طريقٍ ترابيّةٍ مع تشويشٍ لملامح الوجه فقط، واستباحة ما تبقّى من الجسد المطعون والحذاء المنفلت على الأرض الممرّغ بالتراب (في زمنٍ باتت الكوارث سبقاً صحفيّاً والخصوصياتُ كلها مستباحة )، فيما الصّورة الثالثة لأمٍّ مكلومة تجري مصعوقةً في الحقل لتتعرّف على جثّة ابنها وحولها أناسٌ بأفواهٍ مفغورةٍ وشهقاتٍ تكاد تنفذ من الصورة لنسمعها ورَجُلين سعيا أن يسنداها فاندفقت منهما صرخةٌ نضحت بصعقة.
هذا هو ملخّص الصّور التي رافقت الخبر الذي احتفت به المواقع الإخباريّة المحليّة نهايةَ الأسبوع الماضي، والذي يفيد بالعثور على جثة الفتى عثمان نصّار ابن الثلاثة عشر ربيعاً، مقتولاً على هامش طريقٍ ترابية في مدخل قرية عرابة الجليلية ، ثم وبعد ساعاتٍ قليلة اعتقال زميلَيه في المدرسة، ومن ثمّ اعترافهما بالتخطيط مسبقاً لقتله وإعادة تمثيل الجريمة، والسبب خلافٌ مع أحدهما على تعليقٍ في صفحات الفيسبوك!
لم يعد أطفالنا أبرياء إذن، ولم تعد خلافاتهم تنحسر بالخصام ساعاتٍ أو أيّاماً، ولم يعد مجرّد خلاف بسيط حول تعليق بالفيسبوك أمراً هيّناً.. ولم تعد نزاعاتٌ بسيطة بين الأطفال والفتيان بريئةً نقيةً وعابرة ولا صدق المثل الفلسطينيّ "قاضي الأولاد شنق حاله".. فالأمر يتّسم بسماتٍ خطيرة..

إذن فالصورة الرابعة التي لم تظهر في الخبر ولكنها تجلّت بوضوحٍ من كلّ الحادثة هي صورتنا جميعاً، إذ نسقط عميقاً في غيابات عنفٍ لن "يلتقطنا منها بعض سيّارةٍ ولن ينقذنا منها حُسن الدعاء". إنها صورتنا نتهاوى نحو سيادة الجريمة وانتصار العنف، واغتيال البراءة والإنسانية، وتدنيس الطفولة وتمريغها بوحل الجريمة البشعة, وبشكلٍ خاصّ حين ننتبه أنّ هذه ليست الجريمة الأولى من نوعها في قرانا الفلسطينية التي لطالما عُرف عنها الهدوء والطمأنينة ولطالما سادتها أجواء اجتماعية صافية.

ففي الشهور الأخيرة يكاد لا يمرّ أسبوع إلا وترجّنا جريمةٌ تسابق أخرى على درب الفظاعة، مرّةً لزوجٍ يطعن زوجته فيرديها قتيلةً لمجرد أنها رفضت معاشرته، أو لكونها طلبت الطلاق فرآها تخرج من تحت جناح رجولته المريضة، وأخرى لأخٍ يقتل أخاه لخلافٍ حول لعبٍ في الساحة المشتركة، ولأبٍ يقتل ابنته لأنها أرادت أن ترتبط بمن لم يرغب به صهراً له، وعاملٍ حرق زميله إثر خلافٍ على تشغيل ماكنة وغيرها من البشاعات التي لا تعكس إلا انعدامَ إنسانيّـنا وضياعَها في غياهب الأنانية والعنف وموت الحوار.

والسؤال الذي ينبغي أن يلحّ علينا إذن: ما الذي دفعنا إلى كلّ هذا السقوط؟ وما الذي قاد أبناءنا ليفقدوا براءتهم وليصبح أحدهم مجرماً بمجرد اختلافٍ بسيط في الرأي لا يسعى إلى حلّه إلا بالعنف المتزايد؟

لن أتحدّث هنا عن مساهمة السياسة والتساهل في القوانين بتسويق الجريمة ، إذ لا تكاد روح إنسانٍ -إن إُزهقت- تساوي بضع سنواتٍ يقضيها المرء في سجنٍ أشبه بالفندق، أو في مصحّةٍ سياحيّةٍ ترفيهيّةٍ بدعوى الاضطراب النفسيّ، فيما ينال مخصّصاتٍ وراتباً له ولعائلته ثمّ يخرج بعد أقلّ من نصف المدّة متعطّشاً للدماء أكثر، ولن أغوص فيما لعبته الكثير من وسائل الإعلام في شرعنة العنف وتحويله لأمر اعتياديّ مستساغٍ ومقبول، ولا بدَور المدارس والمؤسّسات التربويّة التي اختزلت طلابنا بعلاماتٍ وتحصيلاتٍ علمية بعيداً عن القيم والمبادئ والأخلاق. وكم يبدو من الرهيب الحديث عن دور الأسرة الذي ضاع منذ تسلّمت الحواسيبُ المسمومة والقنواتُ التلفزية المدجّجة بالتفاهة والتسطيح تشكيلَ وعي أبنائنا بعيداً عن الحوار أو النقاش البناء.. ولكن أشير فقط إلى مساهمتنا جميعاً في الترسيخ للجريمة والعنف، بثقافة الإلغاء السائدة فينا، إذ نسعى لحريتنا ونخنق حرية الآخر، نتشبث بحقوقنا ونمنع حقوق الآخرين..

نعم ، إنها ثقافة الإلغاء التي سادتنا، إنه انعدام الحوار ورفض التعددية والاختلاف. فالمتدين يباهي بتكفير العلمانيّ في كلّ محفلٍ حتى لنجد شيوخَنا يتربّصون بكاتبٍ أو فنّانٍ ذكر عبارةً ما كي ينصّبوا أنفسَهم محامين للدفاع عن الله ودينه وإنكار الإيمان على من خالفهم، وذاك ينكر على المتدين عقلَه وفكرَه ويستهزئ بإيمانه ، والحزبُ السياسي لا يجد طريقاً لتسويق نفسه إلا بتعداد مثالب غيره وعيوبه..
أما المثقفون فهم الطامة الكبرى. فمثقفونا هم عرّابو الإلغاء بامتياز. يكفي أن تختلف مع أحدهم في رأيٍ أو رؤيةٍ لتجد أنّ حروباً تُدار نحوك، وأنّ من رآك بالأمس مبدعاً يكفر الآن بإبداعك، وأنّ من باهى دوماً بالحوار يفتقره ويتنكر له مع أول موقفٍ يتطلبه، وأنّ من أوجعه أن يرى نفسه في مرآتك سيسعى بكلّ ما أوتي لتهشيمها وتحطيمها. وحتى الثورات العربية تمارس القمعَ والقتلَ بما يعدّه البعض من قوائم سوداء لفنانٍ لم يناصر الثورة أو لكاتبٍ رأى الأمر بصورةٍ مغايرة.

نحن إذن لا نؤمن بالحوار ولا بتقبّل الاختلاف، وهذا ما نورثه لأبنائنا. نحن نريد للعالم أن يكون لنا، أن يكون مساحتنا فقط، أن يفرغ من كل من لا يشبهنا. نحن نربّي أبناءنا أننا الوحيدون على حقّ في هذا العالم، ولا نكاد نبذل جهداً ولو ضئيلاً لتفهّم الآخر واختلافه عنّا. نرسّخ للإلغاء ورفض الآخر وتكفير مبادئه ورؤاه ورفض وجوده إن اختلف عنّا. يبدأ الإلغاء فكريّاً أو دينياً ثمّ ينتهي جسدياً.. فإلى أين نسير؟
وإن كان قد بلغ الأمر أن يقتل الطفل زميله لمجرد خلافٍ معه حول تعليقٍ بالفيسبوك، فأية صفعةٍ نحتاجها بعد كي نستفيق وننتبه إلى ما نزرع من شرٍّ وسواد؟؟؟

ماذا نقدّم كي ندعم اتّساع الأرض للجميع؟ وكم نمارس الحوارَ لئلا نئد من يخالفنا؟؟
وهل نحدّق بصدقٍ في صورتنا كمجتمعٍ ونرى أية عتمةٍ غلبتنا إذن؟ ثمّ أيّ مستقبل نبني لأبنائنا إن كان علينا أن ننشئ ابننا إمّا كمجرمٍ قاتل أو كمستسلم انهزاميّ يخشى التعبير عن نفسه كيلا يسقط في أيدي القتلة؟؟

أسئلة تتقافز صارخة من صورتنا وتلحّ بأننا ما لم نتخذ مبادراتٍ حقيقية وصادقة وممنهجة لترسيخ أسس الحوار وتقبّل الاختلاف فكلنا حقاً قد قتلنا عثمان، وكلنا سنقتل من يليه من ضحايا الإلغاء والأنانية وضيق الأفق!

أنوار سرحان- كاتبة فلسطينية من الجليل.
06-07-2011


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى