الأحد ١٨ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

الطب الامبريالي

ذاك العنوان ليس سياسياً،والمحتوى ليس قراءة في كتاب (الطب الامبريالي) لدافيد أرنولد، بل لنَقُل إنها متابعة له، وتعقيب، وملحق لما جاء وجاد به.

فالامبريالية أكثر من مجموعة من الظواهر الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بل إنها إيديولوجية تمتد إلى النواحي العلمية والتعليمية والأدبية، وحتى الفنية. بطريقة المزج والتعدد المنهجي الذي يتعامل مع العالم ككتلة واحدة بلا حدود مصطنعة، لكن في سياق لا يبتعد عن الأطر الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

حديثنا الآن عن الطب فقط، بصفته الامبريالية الخفيّة. فالطب الغربي ولا شك أنه حقق انتصارات حاسمة، وكان إلى حدٍّ ما تبريراً ومبرّراً للحكم الامبريالي (وهذا تمّ شرحه بإسهاب في كتاب أرنولد). فالمرض الذي يواجه العالم بدون تمييز، جعل من أطباء الغرب أبطالاً للتصدّي له، وظهور أي مرض جديد في أي بقعة من العالم يجعل سكان تلك البقعة ومهما بلغوا من التطوّر يطلبون النجدة، وينتظرون التعليمات والأدوية والأوامر الطبية أو الصحية من الامبريالية الطبية العالمية، التي هدفها مصلحة الشعوب، ولا أحد يجادل في ذلك!

وحتى أعداء الولايات المتحدة ينظرون باحترام لبرامجها الصحية، وكأنّ الطب منزّه عن السياسة، فهل هو كذلك؟.. ويمكنك أن تصنّع سلاحاً عسكرياً يختلف عن الأسلحة الغربية، أما العلاجات الطبية فلا تزال موحّدة، ويثبت ذلك المؤتمرات الطبية العالمية التي لا عداوة فيها بين الأطباء ولو كانوا من دول متقاتلة، ويأخذون برأي بعضهم لمصلحة الطب فقط والنهوض بالصحة البشرية.

إن المراكز البحثية الغربية صرفت الملايين للتصدّي للسارس الذي ظهر في الخليج، والإيبولا الافريقية، والإيدز الإفريقي، وكلها صارت عالمية. وأخيراً، الكورونا التي سمّتها أمريكا بلسان رئيسها ترامب، المرض الصيني ! وهي نفسها ـ أي أمريكا ـ فاقت في عدد ضحاياها من الكورونا معظم البلدان، إذن لا سيطرة امبريالية، يقول قائل.

صحيح أن منظمة الصحة العالمية هي القائدة للعمل، وهي منظمة مستقلة، لكن اسأل عن السيطرة الامبريالية عليها تمويلاً، وكيف هددوا بسحب الدعم عنها لمجرّد مخالفتهم بالرأي، فهل خالفوهم بالرأي الطبي؟

إن منظمة الصحة العالمية WHO ظهرت كقيادة عليا في التصدي لجائحة الكورونا، وأغلقت المطارات، وأقفلت الحدود على الدول، وفرضت أوامرها تحت رعب الإحصاءات بأرقام الوفيات المتزايدة. وحتى اللقاحات التي صُنّعت في أكثر من بلد، بعضها خضع للرفض وأعطي تقييماً ضعيفاً، إذن هناك قيادة طبية عالمية لا تعترف بالدول..

أعود وأقول، ليست النظرة سياسية أوعدائية، فالشعوب الضعيفة كانت تنتظر كشف المرض من أطباء الغرب، وتنتظر أن يصنعوا لهم الدواء، ليقدّمونه لهم، والبعض ينتظر أن يأتيهم اللقاح مجاناً وإلا فلا قدرة لهم على شرائه.

أين إذن الإمبريالية في الطب؟

أولاًـ ال FDA، منظمة الأغذية والأدوية الفيدرالية، أو USFDA، هي وكالة تابعة لوزارة الولايات المتحدة لخدمات الصحة وحقوق الإنسان، وإحدى الإدارات التنفيذية الفيدرالية بالولايات المتحدة، وإدارة الأغذية والأدوية هي المسؤولة عن حماية وتعزيز الصحة العامة من خلال التنظيم والإشراف على سلامة الأغذية ومنتجات التبغ، والمكملات الغذائية والعقاقير الطبية، والأدوية المباعة فوق الطاولة، واللقاحات والمستحضرات الصيدلانية البيولوجية، وعمليات نقل الدم والمنتجات البيطرية، ومستحضرات التجميل.

الدواء المسجل لدى الهيئة هو عالمي ومدعوم approved، وما يتم سحبه بطريقة withdrawals أو recalls سيسحب عالمياً، والوكالة لها أسبابها، وباقي الدول ستقتنع بتلك الأسباب. وحتى الهيئات الطبية الأوربية ستبدي بعض الرأي، ولكن مؤقتاً وإلى حين.

ثانياًـ الصناعات الطبية النوعية، كالدعامات الشريانية stents والوصلات الوعائية وملحقاتها، محتكرة عالمياً لدى شركات تصنّعها للعالم ككل، وهي التي تقود العمل بها.

ثالثاًـ وهو الأهم، ما يسمى بال guidelines أو المبادئ التوجيهية، وهي مخطط عمل توجيهي لأطباء العالم ككل، في كيفية علاج الأمراض، وهذا الغايدلاينز يخضع للتحديث السنوي، وكل أطباء العالم ينتظرونه ليعملوا به، كقانون طبي، وكل مخالفة له تدل على أنك متخلّف طبياً ولا تلحق بركب الحضارة، لأنه عصارة أبحاث ومؤتمرات طبية عالمية ونحن نقدّمها لك مجاناً فلم لا تلتزم بها؟

وهذه الغايدلاينز تندرج إلى أدوية السرطان والمميعات الدموية ولكل الاختصاصات، ذاك هو الحديث والمعترف به عالمياً والخاضع للتجارب المثبتة.

هذا ويحترم الطب الامبريالي خصوصية الشعوب، فلا يتدخل بالإبر الصينية ولا باليوغا ولا بالمعالجات العشبية، وهذا يجعله مرتقياً عن السيطرة الظاهرة ومهتماً بالمصلحة البشرية للعالم ككتلة إنسانية.

ما سبق ليس نقداً للطب الامبريالي، لأنه يقدّم خدماته للعالم بلا مقابل، والقضاء على الجدري هو نصر عالمي، وظهور الكوليرا في أي بلد يجعل الطب بهيئته الامبريالية يتدخّل علاجياً ودعماً إنسانياً.

إن جهل المجتمعات المحليّة وتخلفها وفقرها، هو الذي جعل الطب الامبريالي يسود ويسود. ولكن (ولا نريد العودة للسياسة) تقول تلك الشعوب المتخلفة إن سبب تخلفنا وفقرنا هو الامبريالية السياسية والاقتصادية والعسكرية، فهل كثير علينا أن يعالجونا ونحن من مستعمراتهم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى