الثلاثاء ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمد نادر زعيتر

العواطف الإنسانية

اليوم هو نهاية العام 2010 وثمة من يحتفل بميلاد العام التالي.
ومن مصادفة غريبة أنني في هذا اليوم بالذات شاء الله أن يأحذ لكنفه بالموت القاهر والد أحد أصدقائي الأعزاء، وقد شاركت في تشييع الجنازة، تأثرت إذ رأيت صاحبي يلحد أباه بيديه، وهو يمطر العبرات الحرى من مقلتيه، وقد مسحهما بكفيه فبدا على خديه أثر من تراب غور القبر، ورأيت شيخاً يقترب منه ينهاه عن البكاء لأن الرجال لا تبكي!!!! بل ويحرِّمه، تأثرت لبكاء الباكي، ونهي الناهي، وكتبت من مداد القلب ويراع العاطفة الجياشة ومن سخاء المشهد الماساة التعبير التالي:

العواطف الإنسانية

ما يميز الإنسان عن الحيوان أن الأول له مشاعر وعواطف، ثم اكتشف أن الحيوان لديه مثل ذلك، ثم اكتشف أن النبات يتأثر أيضاً، وإن كان كل من هؤلاء بنسبة متميزة عن الآخر.

إني أحترم كل من يعطي الأحداث حقها فلا يكبت شعوراً ولا يخفي مشاعر، وأدعو من يرزأ بمصاب أن يواجهه بالبوح العاطفي المستحق، كما يهزنا الفرح طرباً، يجب أن نبدي الأسى للترح، وكما نستقبل حياة الوليد بالبهجة يجب أن نودعه وهو متوفى بالبكاء، وقد فعل ذلك رسول الله (ص) حين كان يقبر ابنه ابراهيم، "إن القلب ليخشع، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك يا إبراهيم لمحزونون"

أحترم المشاعر الصادقة، وإلا ما معنى البعاد والفراق والوداع؟ وما معنى البر والوداد والإخلاص والوفاء ؟ أعظم القيم والفضائل ونوازع البشرية.

لكل حدث ذائقته، توفي والدي فبكيت عليه في حينه مستذكراً كيف رباني صغيرا، كيف كنت أرافقه ليشتري لي لباس العيد و يؤثرني على نفسه، كيف كان يسهر ويتابعني في الدراسة! كان أحيانا يكتب وظيفتي بخط يده ويطلب مني أن أنقلها بخط يدي، وينتظر الجلاء المدرسي بلهفة، لا أزال كمن يشهد فيلماً حياً أتذكره وأنا طالب في الثانوية، وجرى احتفال برأس السنة الميلادية حضره بعض المسؤولين ولفيف من الأهالي وكان لي إسهام إذ حفّظني والدي حينذاك قصيدة من إنشائه ألقيتها بالمناسبة شخصياً، أذكر منها للآن ( ولا أطيل ) الأبيات التالية التي تعبر عن حالة انحدار الأمة:

دنيا تموجُ بها الشرورُ وعالمٌ
تطغى على جنباته الآثـــــــامُ
لا الحلُّ حلٌّ في شـرائع أهـلهِ
عند القضاء ولا الحرامُ حرامُ
عبث الصهاينةُ الجناةُ بقدسـِهِ
وأهملتهُ العُرْبُ والإســـــــلامُ

آه كيف كان يفرح وأنا شاب وهو يفخر بي إذ أمشي بقامتي الهيفاء إلى جانبه ويعتز بي وباجتهادي! كيف كان يتشاور مع أمي حول تزويجي! كيف اغتبط حين علم أنه رزق بالحفيد! كيف كان وهو في محنة المرض العضال يسأل عن صحتي! لقد شعرت إذ فقدته بمرارة اسمها "اليتم "على الرغم من أنني كنت قد تخطيت الخمسين من العمر، كيف وألف كيف.. كل الكلام أصبح مقرونا بفعل "كان" وهي فعل ماض ناقص مضاف إليها عبارة تقليدية مؤثرة "رحمه الله" وآه، كم بكيت بمرارة واغرورقت مقلتاي بدمع غزير وتنهد من الصميم حين سمعتها يوم وفاته تلفظ نحوي لأول مرة وناح قلبي قبل المحيا في سري و في علني ولا أزال تحت وطاة فقدان الوالد الحاني كلما نادى – حتى الطفل – بابا إذ حرمت للأبد من هذا النداء، إنه شعور صادق من حنايا النفس وأغوار القلب ولا يزال طالما ثمة ابن وأب في الوجود، ولا أعتقد أني أنفرد بذلك بل إنني أمثل حالة إنسانية عامة، هي ما يسمى بالوفاء، وهو قيمة تحبك آحاد الأهل والمجتمع وتدبّج منهم نسيجا روحياً رائعاً نادراً في هذه الأيام، إني أرى فيمن ينكر الوفاء لأهله وأصحابه أنه غير جدير بالمصاحبة. ولا يستحق التعاطي معه، أية حياة مع من لا وفاء له زوجاً كان أم أخاً أم ابناً، أم سميراً أليس ينعار المرء في مجتمعنا إذا أودع أحد والديه عند أرذل العمرفي ما يسمى المبرة أو دار العجزة وبإمكانه أن يؤويه ويسعفه؟ أليس جحوداً من يتجاهل صحبة الماضي إذا تحسّن حاله دون من كان حوله آنفاً إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا* من كان يألفهم في المنزل الخشن" حتى الحيوان فيه وفاء،

رأيت ذات يوم – والله – منظراً شدهني: رأيت صرصوراً (أجل صرصور) متهشماً يتلوى من الإصابة وحوله صراصير صغيرة تقترب منه وهي تتعامل معه كأنها تعالجه، ونجحت في مسعاها، أليس ذلك نوعاً من الوفاء والمودة؟ ( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضة) أما رأيت غصن الشجرة يتأوه بل تتأوه الشجرة إذ يقطع منها؟ حتى الصخر له ما يتصور أنه وفاء! أما رأيته لا يود أن يفارق موضعه إلا بصعوبة.
من هنا كان لعناق الأحبة الخلّص معنى الوفاء، وكان للمصافحة مغزى العهد بالأمان والوفاء، وكان للابتسامة في وجه الآخر جزاء الصدقة إنها عربون مودة ووفاء إنساني، وكان لتذكار القرابة والصداقة والمبادرة الإيجابية عند الاقتضاء مثال الوفاء، وأشدها حين يفتقد المرء قريباً أو عزيزاً سواء في بعاد بسبب سفر أو رحيل نحو المنتهى. وأدناها أن يتعاطف معه عند الملمة.

إني أقدر الإنسان ذا المشاعر الفياضة يعبر عنها بالحسرة أو التذكار أو بالقلب أو اللسان أو بالقلم،
كم أحترم الشاعر الرومي المشهور بالتشاؤم وهو يرثي ابنه الأوسط فينضح شعراً خالداً " محمد: ما شيء تُـوُهِّم َسلوة ً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ" ،

ومن قبله ألم ينثن قلب الخليفة الجبار عمر لاستعطاف الحطيئة له مبدياً الحنو ل "زغب الحواصل لا ماء ولا شجر"،

ألا تتردد عبر الأجيال مقولة جرير الخالدة ينشد زوجه الراحلة " ولّهت قلبيَ إذ علتني كبرة وذوو التمائم من بنيك صغار"،

ألم تخلد أميرَ الشعراء شوقي فاجعةُ زلزال مسينا في عهده: "رب طفل قد ساخ في باطن الأرض ينادي أمي أبي أدركاني، وفتاة هيفاء تشوى على الجمر تعاني من حره ما تعاني". هذا شاعر لم أدركه لكنني أحترمه جداً لأنه أبدى عاطفة آدمية هي الوفاء للإنسان الأخ، ما أروعه!

أليس من رموز الوفاء أن يستمع الصاحب لشكوى صديقه فيشاركه على نحو ما ويصبّره! أليس من تلك الرموز أن يناجي خل خله بالروح وهما في تناء! أليس من الوفاء أن يسأل قرين عن قرينه إذا استبطأه في التواصل!

أنا لا أريد أن أنكأ الجراح أو أثير الشجن أو أدعو إلى اجترار المآسي إنما أبغي أن تترطّب القلوب وقد استمرأت الجفاف، فغدت كل العلاقات وقد سيطرت عليها المادة والمصلحة وتبخرت القيم ومنها أبجدية كانت في القاموس القديم وهي " الإيثار" ، لقد انتهى قصد الآية الكريمة "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، أناشد بقيةً من الوفاء للأحياء بالمودة الحقيقية وليس بالمعايدة الحديثة السارية بواسطة رسالة بالهاتف الجوال أو عبر الإلكترون، أو صلة الأرحام بالهاتف أو بالمصادفة.

أبغي الحب الذي تكرر في القرآن الكريم ذكره – عدا مرادفاته – أربعاً وثمانين مرة. والله هو الودود وهو الحنّان وهو المثل الأعلى للإنسان الخليفة في الأرض، الذي أسبغ علينا من أسمائه وصفاته بضعة منها بوساطة روحه التي بثها فينا، حتى أن الإسلام جعل الحب من الإيمان " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وفي الأناجيل "الله محبة" تتردد على ألسنة قوم سيدنا عيسى،وفي كل الشرائع كان الحرص على إشاعة الحب العالمي والأخوي.

لا نكابر – نحن الآدميين - ولو كبرنا، إن الحنين إلى حضن الأم وعناية الأب شعور وجداني لازم، والركون إلى مودة القربى وكذلك التآخي "رب أخ لك لم تلده أمك" غاية وليس وسيلة وهو صنو الإنسان الإنسان، ومن لا يتمثل ذلك فإن له من صخر البراري قرين.

أحترمك سيدي العاطفي، صاحبي الذي غيّـب أباه بيديه إلى حسن المآب ، فكان ما شهدته واستطرد بي البيان هنا إلى هذا التعبير – ربما الكئيب -والذي ألجأني – وأنا سعيد بذلك – إلى هذا البوح القلبي الحميمي، وقد هيجت يا صاح أشجاني، وأنعشت ذكرياتي، وجادت عيناي بعبرات على من كنت أنا قد فقدت وعلى من سأفقد قبل أن أغادر إلى الأبد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى