الثلاثاء ١٤ آذار (مارس) ٢٠٠٦
بقلم أسماء صالح الزهراني

الفضاء النصي بين (الأسطح) و(السراديب) للأنصاري

بداية ، أجد صعوبة كبيرة في مقاربة نص من نوع ( الأسطح والسراديب ) ، النوع الذي تتعدد مفاتيح تأويله ، وتتوالد أبوابه ، تتعدد المداخل لا لتفضي إلى ممر واحد يؤدي إلى روما ، بل لتصنع ما يشبه المتاهة ، من هنا تبدأ سلسلة المفارقات التي لمحت أولها في إطلالة أولية على الكتاب ، ولذلك أجلت قراءة الكتاب منذ وصلني قدر ما استطعت . يبرز النص عبر لعبة العلامات أطراف خيوط لأكثر من حكاية ، ذلك يجعل القاريء يتوقف مرارا ليتتبعها ويفكك اشتباكاتها ليتعرف على نسيجها واحدة واحدة ، ومن ثم يبدأ لعبته الخاصة في عقدها من جديد .. ليؤلف حكايته الخاصة ..

سأوجز فيما يأتي ما استطعت التقاطه مما انطبع في ذهني من قراءة أولى للنص ، وعدت نفسي بأن تتبعها قراءات يستحقها مثله ..
لا تخفى على قاريء (الأسطح والسراديب) مركزية موضوعة ( ثيمة ) الحرية في هذه المجموعة القصصية ، بداية بالعنوان الذي اختير بعناية ليكون علامة فارقة للمجموعة ، تشترك فيها القصص الأربعة التي تكون المجموعة ، وهي كالتالي :

الأسطح والسراديب

ساطور لأحلام خميس

المتقلب في منامه

يومان في جبل
وابتداءً بالمفارقة التي يصرخ بها العنوان أيضا يلحظ القاريء كيف تنفست موضوعة الحرية في هذه المجموعة عبر علاقاتها بتشكلات الفضاء السردي (المكان) بالتحديد . وعلاقة المكان بالحرية من البداهة بحيث لا يمكن التعبير عن الحرية خارج إطار المساحة والفضاء مهما كان نوعه : معنوي _ مادي ، لكن هذه العلاقة لم تأت في الأسطح والسراديب في شكلها البسيط ، بل امتدت إلى كل جزئيات العمل ووجهت خيوط السرد بحيث أصبح المكان الشخصية الرئيسة في القصص الأربع ، ومن خلال علاقتها بالمكان اشتغلت بقية عناصر السرد ، الشخصيات ، الزمن ، والحدث ، حتى اللغة ذاتها ..

يجرنا الحديث عن المكان لمنطقة غنية بالفعل الجمالي ، تلك هي ما اصطلح عليها بمصطلح ( الفضاء النصي ) ، بما يشمله ذلك الفضاء من تشكلات المكان في مختلف طبقات النص وجزئياته ، مثل ارتصاص الكلمات على الصفحة البيضاء مثلا ، او على شاشة الحاسوب ، وما يستدعي ذلك من اختلاف تقنيات القراءة والكتابة معا .. بما ينعكس على التفاعل بين القاريء والنص ، أو التواصل بين طرفي الكتابة عبر فضاء النص .. .. تشغل هذه المنطقة بسبب أهميتها في تحريك ستراتيجيات التواصل الكتابي الكُتّاب والنقاد على السواء.. والأنصاري من الكتاب المعروفين بالإخلاص للكتابة والعناية بكل تفاصيلها ، فلا غرابة أن ينشغل بهذه الجزئية ويشتغل عليها باحتراف جميل .. وإذن فقد شغل الفضاء السردي الأنصاري منذ تقديمه لنصوصه : نصوص قصصية طويلة .. وكأن الأنصاري يرد مسبقا على قاريء مفترض سيتساءل عن ماهية هذه النصوص التي تقف في منتصف الطريق بين الرواية والقصة القصيرة .. وبالفعل كان الأستاذ الدويحي هذا القاريء حين ناقش إشكالية التصنيف الأجناسي لنصوص المجموعة في ضوء المفهوم المتداول للقصة القصيرة .. حين قال : "الإشكالية الأولى التي اختلف فيها مع كاتب هذا النص هو الفهم الدقيق لماهية جنس فن القصة القصيرة،.....فالنص القصصي القصير، لا يحتمل مثل هذه الإشكاليات، ومرد ذلك إلى زخم العوالم في ذاكرة الكاتب، وعجزه الأتيان بما يريد في الإطار الفني لجنس القصة القصيرة بالمفاهيم التي أشرت إلى فهمي لها"

http://www.al-jazirah.com.sa/cultur...05/fadaat15.htm

يقارب القاص فلسفة الحرية في فضاء يتدرج أفقيا ابتداء من مساحة بين ساقي امرأة في المتقلب في منامه ..
ثم في ساطور خميس وفي محيط خيمة ضيقة ، كنت أتأمل هذه المفارقة وأتلمسها في النص ، وكأني بعيني الكلبية تتلصص على خيمة مزون من قصر منيف في دمشق ، بعينين حاسدتين وتهمس في أذني :
لبيت تصفق الأرواح فيه ……
ثم في مساحة جبل وسفحه في يومان في جبل
ثم بين شاطئي وطن فسيح ، تموج فيه حركة اجتماعية شديدة التركيب والتعقيد ، تم تعميق مقاربتها من خلال العلاقة بين قارتين وثقافتين في الأسطح والسراديب ..

في نص (ساطور لأحلام خميس) تمت مناقشة الحرية الصرفة في أنصع صورها ، عرض القاص الصورة البدائية للحرية في مساحة الجسد حين قوبلت بعبودية الجسد .. وكأنه يتدرج بفلسفة الحرية من مجاهل العقلية الإنسانية البدائية ، التي صنفت حرية الإنسان وفق مقاييس بيولوجية بحتة ، إلى قمة الحضارة العقلية حيث فلسفة الحرية تتصاعد لأعلى طبقات التكوين البشري : حرية الروح والفكر ..وهو شكل آخر لفضاء سردي يتحرك فيه مفهوم الحرية وفق تدرج رأسي ، يتم عبره الحفر في طبقات فلسفة الحرية في الفكر البشري .. يبدأ هذا التدرج في الحفر في عمق فلسفة الحرية من ساطور لأحلام خميس ، ثم يومان في جبل حيث بقايا المقاييس البيولوجية للتصنيف الطبقي إلى ألوان وعرقيات .. ثم الحرية الفكرية والجسدية ممتزجتين في معايير السياسة والمجتمع كما في الأسطح والسراديب ، وأخيرا حرية الروح في المتقلب في منامه .. حيث تجري مقاربة الحرية داخل مساحة الجسد الواحد .. الكيان الواحد ، وهي أعلى درجات الحرية والانعتاق في أعلى طبقات التكوين البشري ..

تتجلى تقنية المفارقة فيما سبق إذا تأملنا كيف أنه بقدر ما ينزل القاص لتفاصيل الواقع البسيطة ، ترتفع أسهم الفلسفة ، يمكن أن نقتص المثال الأوضح من نص : المتقلب في منامه ، حيث مقاربة انعتاق الروح من خلال المفارقة بين تفاصيل تحركات النائم في أبسط تفاصيلها ، ضمن مساحة سرير ، وبين الفسحة الواسعة التي يتيحها الحلم لحركة الروح ، عبر فضاء المدينة الواسع ومن علو يتيح أكبر اتساع لأفق الرؤية ..

كيف أتاح ضيق المكان أوسع قدر من الحرية في مقاربة فلسفة الحرية عبر التركيز ، لن أقول التكثيف لأن هذا المصطلح أيضا أخذ مسارا مختلفا في الأسطح ..

فهو تكثيف تفاصيل الحدث عبر اللغة ، وهو عامل وضوح في البنية السردية ، أي لغة كثيفة بالتفاصيل التي تؤدي الوضوح بدل الغموض بما يتناقض مع ما يوحي به المصطلح كما يتداول في عالم الشعر ..
عامل مكاني جديد في لغة القاص أرجو أن أجد مساحتي الزمنية الخاصة لأتابع الحديث عنه في مرة قادمة بحول الله ...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى