الخميس ٣٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٠

الفقيدة نرجس

رشيد حنكوس

شَجَرٌ صَامِتٌ بِلَا حِرَاكٍ،
وَمَا مِنْ شَيْءٍ بِبِنْتِ شَفَةٍ يَنْبِسْ.
حَتَّى زَمْهَرِيرُ الْأَصِيلِ الرَّقِيقِ غَابَ،
وَمَا مِنْ رِيحٍ تَعْزِفُ لَحْنًا؛
تَتَمَايَلُ عَلَى إِيقَاعِهِ مَا نَشَرَتْهُ مِنْ مَلَابِسْ.
كَانَتْ لِوَحْدِهَا تَجْلِسْ؛
وَفِي كَفِّهَا مِنْدِيلُ انْتِظَارٍ.
وَأَلَمٌ يَحْضُنُهَا بِكُلِّ شَغَفٍ، وَكَآبةٌ إِيَّاهَا كَانَتْ تُجَالِسْ.
كُلُّ شَيْءٍ أَرَاهُ قَدْ خُطَّ حُزْنًا عَلَى ذَاكَ الْمُحَيَّا الْعَابِسْ.
لَمْ تَكُنْ لِي جُرْأَةُ الاقْتِرَابِ،
لَمْ أَكُنْ مُعْرَبًا فَأَدْنُوَ مِنْهَا؛
بَلْ وَقَفْتُ مَبْنِيًّا كَالْجِدْعِ الْيَابِسْ.
لَوَّحْتُ لَهَا بِكَفٍّ مُشْفِقٍ يَئِسْ.
فَرَدَّتْ سَلَامِي بِانْحِنَاءَةٍ ذَابِلَةٍ؛ كَما تَذْبُلُ نَظَرَاتُ الْعَرَائِسْ.
رَسَمْتُ بَسْمَةَ جِدٍّ عَلَى مُحَيَّايَ وَنَادَيْتُهَا: يَا "مِسْ".
فَقَامَتْ بِكُلِّ فُجَائِيَّةٍ، وَكَفُّهَا خُشُونَةَ الْجِدَارِ تُلَامِسْ.
قَامَتْ وَقَدْ اِنْقَضَّتْ نَظَرَاتُهَا عَلَى الْفَزَعِ؛
فَاسْتَوَى الْجِسْمُ الْكَئِيبُ وَاقِفًا مُرْتَجِفْ.
وَكَأَنِّي بِقَلْبِهَا مِنْ شَيْءٍ مُرِيبٍ؛ خِيفَةً قَدْ أَوْجَسْ.
مَدَدْتُ نَاظِرَيَّ لِأَرَى، مَا الَّذِي أَحَلَّ الْفَزَعَ مَحَلَّ الْعَبَسْ؟
فَإِذَا بِي أَرْمقُ ضَخْمًا شَارِبِيًّا يَتَرَبَّصُ بِرِقَّتِهَا شَرَّ مُتَرَبَّصْ.
رَأَيْتهُ وَقَدْ رَفَعَ حِزَامَهُ أَعْلَى، وَكَانَ جِسْمُهَا الْهَدَفَ الْمُقَدَّسْ.
أَجَلْ، لَقَدْ كُنْتُ أَرَى ضَرْبَهُ عَلَى جِسْمِهَا كَالنَّجَسْ؛
فَغَدَوْتُ أُحَوْقِلُ عَالِيًا، وَأَقُولُ بِكُلِّ تَعَابِيرِ الرَّجْوِ:
رَجَاءً سَيِّدِي "بَسْ"،
كَفَاكَ عَجْرَفَةً كَفَاكَ قَسْوَةً.
فَحَدَجَنِي الرَّجُلُ بِبَسْمَةٍ، وَكَأَنِّي بِهِ يَرُدُّ: لَا بَأْسْ.
فَابْتَسَمْتُ لَهُ فَرَحَا وَشُكْرًا، عَلَى قُبُولِهِ الْمُلْتَمَسْ.
وَمَا إِنْ رَفَعَتِ الابْتِسَامةُ جَسَدَهَا الْمُثْقَلَ مِنْ عَلَى شَفَتَايَ،
مُحَاوِلاً مُغَادَرَةَ الْمَكَانِ عَبْرَ الدَّرَجِ؛ حَتَّى عَاوَدَ الصُّرَاخُ فِيههَا.
وَرَمَقْتُ تَارَةً أُخْرَى جسَدَهَا النَّحِيفَ بِسِيَاطِ الْقَسْوَةِ يُفْتَرَسْ.
فَهَرَعْتُ مُسْرِعَ الْخُطَى، عَلَّنِي أُنْقِذُ الْفَتَاةَ مِنْ شَرِّ مَا بِهَا مِنْ بَأْسْ.
وَمَا إِنْ وطَأَتْ قَدَمَايَ عَتَبَةَ دَارِهَا،
حَتَّى وَجَدْتُنِي أَمَاَمَ جُثَّةٍ مِنْ نَزِيفِهَا، حِبْكَةُ الظُّلْمِ تُقْتَبَسْ.
ثُمَّ رَفَعْتُ نَاظِرَيَّ وَقَدْ فَاضَتَا دَمْعًا؛
لِأَرَى بَيَاضَ الْمَلاَبِسِ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَرَبَّصَ بِدَلاَئِلِ اِتِّهَامِ ذَاكَ الْمُتَرَبِّصْ.
وَمَا هِيَ إِلَّا لُحَيْظَاتٍ زَمَنِيَّةٍ، حَتَّى بَدأَتْ صَرَاخَاتُ الشُّرْطَةِ،
كَانَ الْكُلُّ أَمَامَ جُثَّتِهَا الطَّاهِرَةِ يَهْمِسْ.
وَبِكُلِّ بُرُودَةٍ مِهَنِيَّةٍ أَحَدُ السَّادَةِ يَنْبِسْ:
حَالَةُ انْتِحَارٍ سَيِّدِي؛ إِنَّهَا الآنِسَةُ نَرْجِسْ.
فَانْدَهَشَتْ جوَارِحِي مِنْ هَوْلِ مَا قَالَ مُسْتَخِفًّا؛
وَدُونَمَا شُعُورٍ صَرَخْتُ: تَبَّتْ يَدُكَ وَشُلَّتْ حَرَكَتُكَ يَا نَجِسْ،
ثُمَّ اِنْصَرَفْتُ وَدَمْعِي قَدْ تَهَاطَلَ كَلِمَاتِ تَرَحُّمٍ عَلَى الْفَقِيدَةِ نَرجِسْ.

رشيد حنكوس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى