الأربعاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم أحمد عبد الحي أحمد علي

القصر الأزرق

عَدْنانُ طالبٌ رِيفِيٌّ بالصَّفِّ الأولِ الثَّانويِّ، تَعَوَّدَ أنْ يَسْتيقِظَ على أذانِ الفجْرِ، حيْثُ يُؤدي الصَّلاةَ بالمسجدِ المُجاورِ .. فِي يومِ العُطْلةِ كانَ يَتَّجِهُ بعدَ الصلاةِ إلى الحقولِ، يتجوَّلُ فيها بينَ جنَّاتٍ فَيْحاءَ: بِساطٌ أخضرُ، زروعٌ ناميةٌ، أشجارٌ باسِقةٌ، ثمارٌ شهيةٌ، أزهارٌ جميلةٌ، ورودٌ عَطِرَةٌ .. الطيورُ تشدو، يَتناسَقُ صَوْتُها معَ خَريرِ الْجَداولِ، وهفهفةِ الأشجارِ، في تَناغُمٍ كَوْنيٍّ بديعٍ.

نَسَماتٌ رقيقةٌ مُنْعِشَةٌ تَهُبُّ مُحمَّلةٌ بالأريجِ، فيَفْتَحُ لها صدرَهُ، ويَستنشِقُها في سعادةٍ وبِشْرٍ.

اليومَ بدأَ عدنانُ جَوْلَتَهُ .. الليلُ يُلَمْلِمُ أسْتارَهُ وئيدًا، لِيَسْرِيَ نورُ الصُّبحِ، فيملأَ الكونَ بالبهجةِ والحياةِ. لكنهُ بدا شاردًا .. شيءٌ ما في صدرِهِ أذهلَهُ عمَّا حولَهُ .. حاولَ أنْ يعرِفَ كُنْهَهُ .. أنْ يُدْرِكَ حقيقتَهُ .. أهُوَ خَوْفٌ؟ أمْ هُوَ ضِيقٌ؟ إنَّهُ لا يجدُ مُبَرِّرًا لأيٍّ مِنْهُمَا .. هو لا يزالُ يَهِيمُ على وجهِهِ، لا يَشعُرُ بشيءٍ مما حولَهُ .. فجأةً .. تَعَثَّرتْ قدماهُ بحجرٍ مُلقًى .. الحَجَرُ على جانبِ الطَّريقِ الزِّراعيِّ، ومعَ ذلكَ تعثَّرَ بِهِ .. هنا فقطْ أدركَ أنَّهُ مشغولٌ بما في صدرِهِ .. استعادَ تَوازُنَهُ ونظرَ إلى الأمامِ .. لقدْ تجاوزَ زِمَامَ قريتِهِ .. قطعَ مسافةً طويلةً، ومعَ ذلكَ أَحَسَّ بأنَّ شيئًا غريبًا يَدْفعُهُ إلى مُواصلةِ السَّيْرِ، يا لَلْعَجَبِ! ماذا يرى؟ إنَّ الحقولَ هنا ذابلةٌ مُصْفَرَّةٌ .. الأشجارُ قاتمةُ الألوانِ، تكادُ تكونُ عاريةً إلا مِنْ أوراقٍ قليلةٍ جافةٍ .. أينَ البساطُ الأخضرُ؟ أينَ الزروعُ الناضرةُ؟ .. أينَ الثمارُ الشهيةُ؟ .. أينَ الأزهارُ الجميلةُ؟ .. أينَ الورودُ العَطِرَةُ؟ .. يا لَلَّـهِ! ما هذا الصوتُ؟ .. إنَّهُ أنينٌ .. الأشجارُ تتألمُ .. الزروعُ .. الجداولُ .. حتى الطيورُ تتألمُ .. ماذا حدثَ للكائناتِ مِنْ حولِهِ؟

نظرَ إلى الأُفُقِ، فإذا ضَبابٌ يَتَكاثَفُ بِسُرعةٍ عجيبةٍ، حتى غطَّى الجوَّ مِنْ حولِهِ، وإذا بهِ يَنْشَقُّ عنْ رَجُلَيْنِ فارِعَيِ الطُّولِ، لونُ الواحدِ مِنْهُما كَلَوْنِ الأرضِ .. أكتافُهُمَا ليستْ عريضةً، لكنَّ ملامحَ القوةِ باديةٌ عَلَيْهِما. اقْتَرَبا مِنْهُ، وقالَ واحدٌ منهما بصوتٍ جَهوريٍّ: هَأَنْتَذا قدْ جِئْتَ أيُّها الإنسانُ، هَلُمَّ معنا إلى القاضي. حاولَ أنْ يَنْطِقَ فلمْ يُمْهِلَاهُ، حيثُ أَمْسَكَ أحدُهما بِذِراعهِ الأيمنِ، وأمسكَ الآخرُ بذراعِهِ الأيسرِ، وانطلقا بهِ إلى جِهَةٍ لا يَعلمُها.

شيئًا فشيئًا أَحَسَّ بأنْ قدمَيْهِ ترتفعانِ عنِ الأرضِ، ثمَّ صارَ يُحَلِّقُ في الهواءِ كما تُحَلِّقُ الطُّيُورُ.

مرَّتْ لحظاتٌ يسيرةٌ وَهُمْ على هذهِ الحالِ .. فجأةً ظهرَ أمامَهم قَصْرٌ كبيرٌ، شامخُ البناءِ، أزرقُ اللونِ كَزُرْقةِ السماءِ الصافيةِ، آيةٌ مِنْ آياتِ الفخامةِ والجمالِ.

هنا أَحَسَّ عدنانُ بأنَّهُ يَهبطُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا، حتى لامستْ قدماهُ الأرضَ .. وقفَ الجميعُ أمامَ القصرِ، ثمَّ صَعَدَا بِهِ بِضْعَ درجاتٍ على سُلَّمٍ رُخَامِيٍّ، أَفْضَى إلى قاعةٍ فَسِيحَةٍ مفروشةٍ ببِساطٍ أحمرَ رائعٍ.

كانتِ الأضواءُ خافتةً؛ فأفاضتْ على المكانِ جوًّا مِنَ الجلالِ والسَّكِينةِ.

في آخرِ القاعةِ منضدةٌ عاليةٌ صُفَّتْ خلفَها ثلاثةُ مقاعدَ مُذَهَّبَةٍ، يجلسُ عليها ثلاثةُ رجالٍ طِوَالٍ عِرَاضٍ، سُمْرِ الألوانِ، يلبسونَ ملابسَ ناصعةَ البياضِ.

قُبَالَةَ هؤلاءِ توقفوا، قالَ الذي على يمينِهِ:

ها نحنُ قدْ جِئْنا بهِ يا سيدي القاضي كما أَمَرْتَ.

أشارَ إِلَيْهما فتركاهُ وانْصَرَفا، ثمَّ خاطَبَهُ بصوتٍ مُمْتَلِئٍ بالهيبةِ والوقارِ:

مَا اسْمُكَ؟

تَلَعْثَمَ أوَّلَ الأمْرِ، ولكنَّهُ حينما نظرَ إلى وجهِ الرجلِ رأى ملامحَ الطِّيبَةِ والصَّلاحِ؛ فَشَجَّعَهُ ذلك على الإجابةِ بقولِهِ:

اسْمِي عدنانُ.
وَكَمْ سِنُّكَ؟
خمسةَ عشرَ عامًا.
وهلْ مِنْ عملٍ تقومُ بهِ؟
ما زِلْتُ طالبًا بالصفِّ الأولِ الثانويِّ.

صمتَ القاضي بُرْهَةً، فلعلَّهُ رأى أنَّهُ لا يزالُ في أولِ الطَّريقِ، ثمَّ قالَ:

لَدَيْنا شَكْوى مُقَدَّمَةٌ مِنْ أُمِّكُمُ الأرضِ ضِدَّكُمْ أيُّها الْبَشَرُ.
ولكنني لمْ أرتكبْ جُرْمًا يا سيدي، فهلْ يُمكِنُ أنْ أُعَاقَبَ بفعلِ غيري؟
أَلَسْتَ واحدًا مِنَ البشرِ، تأكلُ مما يأكلونَ، وتشربُ مما يشربونَ، وتفعلُ مثلما يفعلونَ؟
رفعَ الرَّجُلُ الأيمنُ يَدَهُ مُسْتَأْذِنًا، فأَوْمَأَ إِلَيْهِ القاضي مُوَافقًا، فقالَ وقدْ بَدْتْ علاماتُ الغضبِ على وجهِهِ:
لقدْ أسأتُمْ إلى أُمِّكُمْ إساءاتٍ بالغةً: لَوَّثْـتُـمْ ماءَها وهواءَها وتُرْبَتَها، مصانعُكم تعملُ دونَ نظرٍ إلى العاقبةِ، غازاتٌ ضارة،ٌ حرارةٌ عاليةٌ، كوارثُ ضخمةٌ، موجاتُ جفافٍ، حرائقُ غاباتٍ، فَيَضَانَاتٌ، مُدُنٌ تَغْرَقُ، بطونٌ جَوْعى، وأخطرُ من هذا أنَّ مِظَلَّتَها قدْ أصابَها ثُقْبٌ يُهَددُ حياةَ الكائناتِ.

ثمَّ الْتَفَتَ إلى القاضي قائلًا:

يا سيدي إنَّ هذا وأمثالَهُ يَسْتَحِقُّونَ أشدَّ العقوبةِ لبالغِ تقصيرِهِمْ، وعظيمِ جرائمِهِمْ.

قالَ القاضي:

ما قَوْلُكَ يا عدنانُ فيما نُسِبَ إليكم؟

أجابَ عدنانُ والأسفُ بادٍ على ملامحِهِ وفي صوتِهِ:

يا سيدي القاضي إنَّ الحزنَ يَعْتَصِرُني لِمَا سمعْتُ، وقدْ رأيتُ آثارَ هذا بالفعلِ في رحلتي هذا الصباحَ، لقدْ كنتُ أعلمُ شيئًا عنْ هذا الأمرِ مِنْ قبلُ، لكنِّي لمْ أكنْ أتصوَّرُ أنَّ خُطُورتَهُ تصلُ إلى هذا الحدِّ، أمَّا الآنَ فإني أعدُكُمْ بأني سأكونُ ابْنًا بارًّا بأُمِّنَا الأرضِ.

وكيفَ يتحققُ ذلكَ؟

الكلمةُ أيها الأفاضلُ .. إنَّ للكلمةِ الصادقةِ أثرَها .. سأشاركُ فِي جماعةِ الصَّحَافةِ بمقالاتٍ تُكتبُ في مَجَلَّاتِ الحائطِ، سأحاولُ عبرَ كلِّ وسائلِ التواصلِ أنْ أُبَيِّنَ تلكَ المخاطرَ، وأنْ أُحَذِّرَ منها، سأتعاونُ مَعَ رفاقي وكلِّ مَنْ تصلُ إليهم أفكاري، لِنُكَوِّنَ رأيًا عامًّا، يهدفُ إلى صيانةِ أُمِّنا الأرضِ، لتظلَّ دائمًا خضراءَ، عذبةَ الماءِ، نقيةَ الهواءِ.
انْبَسَطَتْ أَسَارِيرُ القاضي ورفيقَيْهِ، بعدَ سماعِهمْ لهذهِ الكلماتِ الطيبةِ التي نطقَ بها عدنانُ، ورفعَ الرَّجُلُ الأيْسَرُ يَدَهُ، فَأَذِنَ لهُ القاضي فقالَ:

أيُّها السيدُ المُبجَّلُ، إنَّ مَلَامِحَ عدنانَ لَتُنْبِئُ عنْ خُلُقٍ نبيلٍ، وإنَّ لَهْجتَهُ لَتُفصِحُ عنْ صدقٍ وعزيمةٍ، لذلكَ فإني ألتمسُ نظرةَ رِفْقٍ تُجَدِّدُ لَدَيْهِ الأملَ، وتمنحُهُ القدرةَ على البرِّ والإصلاحِ.

وهنا اعْتَدَلَ القاضي في جِلْسَتِهِ، واتَّجَهَ ببصرِهِ إلى عدنانَ قائلًا:

قَرَّرْنا إخلاءَ سبيلِ عدنانَ مَعَ تمنياتِنا لهُ بالنجاحِ في مَسْعاهُ.

تلقَّى عدنانُ هذهِ العبارةَ؛ فانْتَفَضَ مِنْ شِدَّةِ الفرحِ، وهُوَ لا يكادُ يُصَدِّقُ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ انْتَبَهَ فإذا هُوَ على سريرِهِ، وفي حُجْرتِـهِ، وإذا بأذانِ الفجرِ يَنْسابُ إِلَيْهِ عَذْبًا نَدِيًّا، فأخذَ يُرَدِّدُ مَا يَقولُهُ المُؤَذنُ وهُوَ يَبْتَسِمُ، وقَدِ امْتَلَأَ صدرُهُ رِضًا وصَفَاءً

= انتهت =


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى