الثلاثاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم سلمان ناطور

الكتابة للطفل والكتابة كطفل

ألقيت في مؤتمر أدب الأطفال لفلسطينيي الداخل، عكا 19 أيار 2006

الطفل الذي فينا لا يموت ولا يكبر معنا. إنه يبقى فينا كما تركناه عندما
انشغلنا في هموم الحياة

لا أعرف لماذا اكتشفت بعد سن الخامسة والأربعين فقط أنني كنت ضحية مثل كل أطفالنا الذين نصورهم ابطالا ومقاتلين ونمجدهم لأنهم يحققون أحلامنا نحن ولأنهم يطيعوننا ويخدموننا ويتوسلون إلينا لكسب رضانا.

باختصار، عندما كنا أطفالا كنا رجالا لكننا لسوء طالعنا كنا نبلغ الخامسة او السادسة او العاشرة فقط، وحين كنا نجلس معهم في الديوان كان علينا أن نتحدث بلغة الكبار أي الأطفال الذين يبلغون الخمسين والستين، فان دخلنا في هرج سياسي فعلينا أن نتكلم بطلاقة، أن نحدد ما معنى تقرير المصير واين تقع فيتنام، وان أكثرنا من الأسئلة لجمونا بنظرة سوطية لأننا نقاطع خطاب الضيف بقلة أدبنا، وان نهرنا أحدهم، ألأب أو الجد وصرخ "فز جيب باكيت دخان يا ولد " فعلينا أن نقفز مثل النمر الكاسر، وعلينا أن نحب الوطن والحزب أكثر من الملبّس مثلا، وعندما يسألنا أحد أيهما تحب أكثر: جدتك لامك أم جدتك لأبيك ؟ فنجيب حسب السائل، فان كانت الوالدة اذن الجواب الأول وان كان الوالد فالجواب الثاني وان كان الوالد والوالدة فالجواب الثاني ثم الأول، ولا نسمع إطراء إلاّ إذا أحسنا الطاعة وتنازلنا عن برنامجنا التلفزيوني المحبب ليتمكنوا هم، الكبار، من مشاهدة مسلسلهم المفضل أو نشرة الأخبار المصورة.

هكذا اكتشفت أنني ضحية ليس لأنني كنت هذا الطفل فقط، بل لأنني لم اكتب إلاّ عن هذا الطفل الذي قد يكون كل شئ إلاّ هو نفسه بطفولته، ولذا فعندما داهمني هذا الهاجس الملحاح. قررت أن لا اكتب للطفل، بل أن اكتب كطفل.
لقد اكتشفت في هذا الجيل المتقدم نسبيا أن الطفل الذي فينا لا يموت ولا يكبر معنا، انه يبقى فينا كما تركناه عندما انشغلنا في هموم الحياة. اعتقدنا أن البلوغ هو تجديد وولادة من جديد، ولم نصغ لهذا المخلوق الغريب الذي هو نحن، ولم نسمح له بالخروج إلى أطفالنا ليلعب معهم، فاستبدلناه بلعبة الاتاري "وسنيورة " الباربي" والحكاية المستوردة، ومشقنا هاماتنا معتزين أننا نخلق جيلا يختلف ولا يكمل .

لا يموت الطفل الذي فينا، بل يبقى محكوما بقوانين الطاعة إلى أن يتمرد علينا فيدفع المغني إلى التهليلة ومواء القطة، والشاعر إلى القصيدة الناعمة، والكاتب إلى الحكايات القديمة، ويعلن انه قادر على الكتابة ونسج المغامرة. وهكذا فأنني اعترف بأنني مدين للطفل الذي في داخلي على القصص الاربع التي كتبتها قبل عشر سنوات وتوقفت، وأنا انتظر أن يعود إليّ ثانية لنكمل الحكاية. أتوسل إليه أحيانا أن يأتي، وهو يعرف كيف يعاقبني على نسياني له، فلا يأتي. ويمضي صيف ولا يأتي، ويمضي شتاء ولا يأتي وها أنا انتظر .

بعد أن كتبت للأطفال صرت أحبهم أكثر،
لأنني صرت اعرفهم أكثر وافهمهم أكثر

نكتب للطفل كل الجغرافيا وكل التاريخ وكل المواعظ، لكن حين نكتب أدبا للطفل يستكتبنا الطفل الذي فينا وهي الفرصة الذهبية التي نمنحه اياها ليعود ثانية إلى حياتنا، وهو الوحيد القادر على تحريرنا من قيود جيلنا، فيطلق العنان لخيالنا الجامح ويمنح الفنطازيا شرعية الحركة التي سلبها البلوغ والكبر. في عملية الكتابة الإبداعية لا يعيدنا هذا الطفل إلى طفولتنا وحسب، بل يفرض حضورها خارج النص أيضا ويوجه العلاقة اليومية بالأطفال الآخرين، واعترف بصراحة أنني بعد أن كتبت للأطفال صرت أحبهم أكثر،حتى أطفالي، لأنني صرت اعرفهم أكثر وافهمهم أكثر، وهذا هو مصدر سعادة الكاتب حين يكتب كي يقراه الأطفال، وحين يرزق الكاتب أحفادا فانه يغلق دائرة طفولته، تعود إليه بكل عنفوانها حتى وان توقف عن الكتابة لكنه لا يتوقف عن التأليف، فالحفيد أو الحفيدة يجعلك مبدعا رغما عنك .

انا لا أريد أن اعلم الطفل شيئا في ما اكتبه له، عنه ومنه، فليتعلم السلوك الحسن من والديه، وحب الوطن من الزعيم، والتاريخ المدوّن من معلم التاريخ. كل ما أريده من هذه الكتابة هو أن يشاركني هذه السعادة وان يدرك أننا متساوون وان حريتي لا تاتي على حساب حريته وان عالمه انقى من عالمي الملوث، وان لا حدود لجنونه الطفولي، وان السماء فضاؤه، وان لا عيب في البكاء ولا في الخوف. وابني معه علاقة تقوم على الأخذ والعطاء، أعطيه كيلا فيعيد لي كيلين،حين يضاعف سعادتي ويعزز ثقتي بنفسي أنني قادر على تامين سعادته. انه حوار متواصل بين الكاتب والقارئ الصغير والبرئ، وهو لا يعرف التملق ولا يتقن المراوغة، ان أعجبه ما كتبت يقول بلا حرج وان لم يعجبه يقول بلا خجل ولهذا فهو يجعل حمل الكتابة للصغار اثقل بكثير من الكتابة للكبار الذين يتفننون في المدح والقدح حتى دون أن يقرأوا النص .

جاء إليّ ابني مراس ليطلعني على
موضوع كتبه للمعلمة: ماذا وراء الحياة ؟

كتبت للأطفال أربع قصص، وأردت أن تكون فاتحة لسلسلة "حكايات جدي ابو سامح" التي أرجو أن تصبح مسلسلا طويلا حين يعود الطفل \ الهاجس إليّ ليحثني مرة أخرى على الكتابة وتتوفر الامكانات للنشر، وقد اخترت الجد بطلا اول لهذا المسلسل لأنه مصدر الحكايات التي نشانا عليها ومن هذا الجيل عرفنا لاول مرة سحر المغامرة ولا نهاية الخيال وروعة السرد، واخترت البطلة حفيدة تعرف كيف تنبش في ذاكرة الجد وتاخذ من حكمته وهي تبني معه عالما من الخيال والفنتازيا، يبدأ بتجربته وينتهي بأحلامها التي لا نهاية لها ولا حدود .

ابو سامح ليس معلما ولا مربيا ولا واعظا، انه صديق يمسح بحكمته وذكائه فارق الجيل ويتنازل عن سلطته الابوية ليمنح الحفيدة حرية الانطلاق واكتشاف عالمه وعالمها لتبحر في فضاء المعرفة ولتبني هي تجربتها في عملية اختيارية نابعة من رغبتها في اكتشاف العوالم الغيبية، وتحول الجد إلى أداة لنسج الأسطورة. لماذا اخترت حفيدة وجدا وليس حفيدة وجدة او حفيدا وجدا ؟ ربما للخروج عن المالوف والاسهام المتواضع في ازالة التمييز بين الذكر والانثى في مجتمعنا وحتى في أدبنا الذي يكرس هذا الغبن اللاحق بالمراة دائما، وأقول "ربما"، لان هذا هو تفسيري كقارئ وليس ككاتب ولأنني لا اعرف لماذا فعلت ذلك، وأقول بصراحة ولا اكتمكم، أنني لا اعرف لماذا اخترت الكثير من المواقف والصور الواردة في هذه القصص، ربما لان من فرضها علي هو ذلك الطفل الذي ادين له بالكتابة.

اخترت اسماء ليست مالوفة ايضا، "فقسوسة" هو اسم الدلع لفقوسة و"دكدوك" هو اسم الدلع للديك و "الشيكي بيكي" هي لغة بقرة السماء و"شرقند" هي بلاد الشرق، هذا المكان الذي انبت الحكاية والخرافة والأسطورة، هو مكان الخيال الجامح والسؤال الخالد: كيف تبدأ الحياة وكيف تنتهي ؟

جاء إلي ابني مراس عندما كان في الثالثة عشرة من عمره ليطلعني على موضوع كتبه للمعلمة حول سؤال يحيره وياخذ باله ]كما يكتب[: ماذا وراء الحياة ؟ كتب عن الحياة والموت وعن الجنة والنار وتساءل :"باية لغة يخاطب الصالحون بعضهم في الجنة إذا كانت محطة كل الصالحين في العالم ومن جميع شعوب الأرض؟" ولم يتوصل إلى جواب، وترك كل الاسئلة مفتوحة، ولأنه أحس انه يتورط ويضيع في متاهات الاسئلة التي شغلت الناس منذ بدء الخليقة، فقد لجأ إلى طفل اصغر منه ليخلصه، هكذا أنهى موضوعه: "هل يوجد جنة ونار؟ سألت طفلا اصغر مني فأجاب: عندما تحضر لي أمي الشوكولاطة اشعر اني في الجنة وعندما تضربني اشعر اني في النار" .

تعلمت مما كتبه مراس قاعدة جديدة في فلسفة الحياة وهي أننا نحن البالغين، عندما نعجز عن الجواب فأننا نلجأ إلى من هم اكبر منا واما الأطفال فيلجأون إلى من هم اصغر منهم، لأننا نحن نبحث عن الحقيقة فقط وهم يبحثون عن الطمأنينة، نحن نريد أن نفلسف الحياة ونعقدها وهم يريدونها بسيطة خالية من التعقيدات، ولذلك فان الكتابة للأطفال والعودة إلى عالمهم هي بحث عن الطمأنينة لا عن الحقائق العلمية .

لماذا لا يحق للطفل أن يخطئ بالإملاء والقواعد
دون أن يشعر انه ارتكب جريمة يعاقب عليها؟

منذ بدات اكتب للأطفال صرت التقي بهم واعمل معهم ووضعت برنامجا للإبداع والكتابة الأدبية وصرت اعمل في المدارس مع طلاب يملكون موهبة الإبداع، وأول ما اكتشفه في لقاءاتي معهم هو انهم خاضعون للصيغ الجاهزة التي تسلبهم حريتهم في التفكير والخلق الأدبي، وأنهم تعرضوا في حياتهم القصيرة إلى عملية قمع في البيت والمجتمع والمدرسة و كان دوري في اللقاءات الأولى أن أ حررهم من هذا القمع، من الاعتقاد أن الكتابة الإبداعية هي مجرد انشاء لغوي للحصول على علامة في نهاية الفصل وان لا كتابة صالحة إلاّ عن المدرسة وحوادث الطرق وقريتي ومعلمي وكل ما يكتب هو المقدمة التوجيهية التي يفرضها المعلم وما هي إلاّ مديح. ذهلت عندما كتب الطلاب عن الام واذا بهم كلهم يبداون ب "امي يا نبع الحنان.. افديك بروحي" وهي المقدمة التي تردد في احتفالات عيد الام التي دخلت على مدارسنا ومجتمعنا لتتحول إلى ضريبة كلامية مبتذلة للتغطية على اضطهادهم لها كأم وامرأة .

ان شرط الكتابة الإبداعية الأول هو تحطيم القيود والحواجز والحدود، هو منح الطالب كل الحق والحرية بأن يقول ما يشاء وكيفما يشاء وعما يشاء ومتى يشاء وان يحاول أن يرى ما لا يرى وان يقرا ما وراء الكلمات والسطور، أن يترجم العالم إلى لغته هو وان يراه بعينيه هو لا بعيون الاخرين. كان علي أن أحرره أيضا من قيود اللغة وترجمة العامية إلى الفصحى وهي ليست لغة الام عند هذا الطفل الذي لا يفهم،" لماذا كان واخواتها تدخل على الجملة الاسمية فترفع المبتدأ وتنصب الخبر".

لماذا لا يحق للطفل أن يكتب بلغته الاولى وان يخطئ بالاملاء والقواعد دون أن يشعر انه ارتكب جريمة يعاقب عليها؟

قلت لمجموعة من الطلاب في احدى الدورات: انظروا إلى شبابيك الغرفة واكتبوا ما سيخطر ببالكم .

وكانت شبابيك المدرسة مشبكة بقضبان من الحديد وعن بعيد يتراءى منظر جذاب لغروب الشمس خلف جبل اخضر وعليه بيت مهدوم. كتب الطلاب ولم يكتب أحد منهم عن طائر دوري وقف على سلك كهربائي وتمعن هو في المنظر ذاته، وعندما سألوني: ماذا أرى ؟ قلت لهم: "انا لا أرى، بل اشعر .. اشعر أنني موجود في سجن ولا ارى سوى قضبان الحديد ولا افكر سوى بسجناء الحرية". وفي اللقاء التالي جاء عدد كبير منهم كاتبا خواطر عن الحرية والسجناء والمساواة والديمقراطية وعن الانسان كانسان وعن الطفولة وعن السعادة والبؤس والأرض والوطن، دون أن أطلب منهم أن يكتبوا في هذه المواضيع.

تعلمت الكثير من الأطفال عندما بدأت أكتب لهم، ولكن أهم ما تعلمته منهم وعنهم هو أن احترام وعي الطفل وشخصيته وذوقه هو القاعدة الأخلاقية الأولى لأدب الأطفال، وما يأتي فيما بعد هو اضافة تدخل في دائرة التقييم الأدبي والفني.

ألقيت في مؤتمر أدب الأطفال لفلسطينيي الداخل، عكا 19 أيار 2006

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى