الخميس ٢٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم داود سلمان مهنا

الكنز

قصة للأطفال

أَصْبَحَ الفقرُ ضيفًا ثقيل الطّبع على بيت الفتى سامي وأهله، بل تخلّى عن صفة الضّيف ليصبح فردًا من أفراد ذلك البيت الخشبيّ، مقيمًا بيتهم. وكم قرّر سامي أن ينتقم من هذا الوضع، فينتشل أهله من فقرهم، لكنّه في كلّ مرة يعود خائبًا. كلّ ما حوله يُشعره بالغِنى، لكنّه ابن عائلة فقيرة لا تملك قوت يومها.

بعدما جمع سامي مبلغًا زهيدًا من المال إثر صيد بعض السّمك وبيعه، قَرَّر وَرُفَقاؤه الذّهابَ في رحلةٍ بَحريَّةٍ إِلى الجَزيرَةِ الصَّغيرَةِ المَوجودةِ على مقربةٍ مِنَ الشّاطئ. لقد سمع كثيرًا من الأخبار الشّائقة لتلك الجزيرة (عن تلك الجزيرة)، فجدّتُهُ كانت تروي له حكايات البحّارة ومغامراتهم الليليّة ومبيتهم في الجزيرة، واللآلئ التي كانوا يجدونها. وأبوه قصّ على مسمعه مرّة أحداث مغامرته الّتي خرج منها سالمًا بأعجوبة إثر شتاء عاصف. سامي يعشقُ الرّحلات الّتي تنقلُهُ إلى عالَمِ الطَّبيعةِ الجميل، وبخاصَّةٍ إذا كانت رحلةً في البحر فيها شيء من المغامرة. لعلّ مصادفةً ما تفتح أمامه بابًا يؤدّي به إلى عالم الغنى، ويغلق باب الفقر خلفه بإحكام.

كان َاللِّقاءُ على الشّاطئ قربَ الميناء، تجمّع الأصحاب هناك صباحًا، وعندما حان وقت الانطلاق، صعد الجميع إلى المركب الّذي راح يتهادى فوق الموج، كأنَّه محمولٌ فوق سرير وثير أو فوق غيمةٍ ثقيلةٍ ستنقلهم عَبْرَها كي تمطرَ في مكانٍ ما. أُعجب الجميعُ بمنظر الأمواج المتتالية! إنّها تأتي من البَعيد متكسِّرةً على الشّاطئ كأنّها تقول: كلّ شيءٍ سينتهي، كلُّ شيءٍ سيؤول إلى زوال، ولكنْ لا بدَّ مِنَ السَّعي الدّائم من أجل الوصول إلى الهدف المرجوّ. الجميع على المركب، أحسّوا أنّهم ينتقلون إلى عالم آخر؛ عالم داخل العالم، لا يدرون ماذا ينتظرهم هناك. وهذا ما ألهبَ فيهم الشَّوق لاكتشاف تلك الجزيرة الصّغيرة الّتي سمعوا الكثير عنها، لكنّهم لم يزوروها من قبل.

بعد رحلةٍ دامت حوالي نصف ساعة فوق الماء، وصلوا إلى الجزيرة. اقترب المركب من أقرب صخرة، توقّف هناك وبدأ الجميع بالنّزول، وكلّ واحدٍ منهم يمسك بيد الآخر كي يعبروا.

الجزيرة صغيرة المساحة، لكنّها جميلة جدًّا. إنّها تطلّ على وجه المدينة، فتبدو كأنّها شامةٌ في وجه البحر. راح سامي يتأمّل البحر من الجهات الأربع، وفي داخله بحرٌ من الحنين يلفّه، وسرّ مبهمٌ لا يُدرك معناه. كان الشّغف يتطاير مع أنفاس سامي في الفضاء على شكل دعاء، راسمًا ألف وعدٍ ووعد. بقي صاحب المركب على الجزيرة، لأنّهم قد طلبوا إليه أن يبقى مرافقًا لهم في هذه الرّحلة. إنّه بحّار يعرف أسرار البحر ويعرف هذه الجزيرة حقّ المعرفة. وتبدو على وجهه تجاعيد تحكي ألف حكاية من حكايات البحر.

وبينما كان سامي يتجوّل فوق الجزيرة، لفتَهُ في مُنْتَصفِها وجود فتحةٍ قطرُها حوالي نصف متر. اقترب منها فإذا بها تؤدّي إلى الماء، بدت أمامه الجزيرة كأنّها خرزةٌ مثقوبةُ الوسط. أدهشه المنظر ونادى أصحابه كي يروا هذا المشهد الجميل. أتى البحّار وقال لسامي: "ذُق هذا الماء، إنّه ماء عذب". وتقدّمَ هو، وغرف بيديه وشرب، ثمّ أومأ إلى سامي كي يشرب، فتناول سامي غَرْفَةً بيديه وشرب. حقًّا إنّه ماءٌ عذب. قال سامي للبحّار:

كيف هذا ونحن وسط البحر المالح؟

وسط البحر يوجد ينابيع عذبة كان البحّارة القدماء يشربون من مائها أثناء قيامهم برحلاتهم البحرية.

أدهشت سامي الفكرة إذ اكتشف هذا السّرّ الرّائع. بعد وقت قصير، راح الأصحاب يهيّئون ما أحضروه معهم من طعام وشراب، أمّا سامي فبقي أمام تلك الفتحة، يتأمّل ما في داخلها، فتفاجأ بسمكة تقفز إلى فوق ثمّ تعود نزولًا، كأنّها استشعرت خطرًا ما، وتحاول الاستطلاع. ثمّ سمكة ثانية، ثمّ ثالثة... قال سامي في نفسه: "يا الله! ما هذا الجمال الأخّاذ؟ كأنّني أمام شريط سينمائيّ مذهل لم أحسب له حساب( حسابا). لا أدري إذا كانت السّمكات ترحّب بنا، أم تُنذرنا كي نغادر هذا المكان!".

بعد قليل، وفي محاولة لاستكشاف المكان أكثر، مدّ سامي يده في تلك الفتحة المشقوقة قليلًا، إذا بحجر عالق في جانبها، هزّه فاهتزّ قليلًا، حاول انتزاعه فانتزع بعد محاولات عدّة وصار بين يديه. راح يتفقّده، فهاله ما رأى: سمكة متحجّرة كأنّها منحوتة نحتًا فوق الحجر. نادى أصحابه بصوت عالٍ ملؤه الدّهشة، فأتوا مسرعين. راحوا يلمسون الحجر بإعجاب ودهشة. أمّا البحّار فقال إنّ البحّارة أحيانًا يجدون مثل هذا الحجر في أعماق البحر، ويعدّون ذلك نذير خير للّذي يجده.

احتضن سامي هذا الحجر، وقال في نفسه: "أتاك الغنى على قدميه أيّها الولد الفقير". ثمّ وضعه بين أغراضه. وبعد ما يقرب من ساعتين، قرر الجميع العودة، فحمل كلّ منهم متاعه وصعدوا إلى المركب متّجهين نحو الشّاطئ الّذي انطلقوا منه.

وصل سامي إلى البيت، أخرج الحجر، ثمّ حمله بين يديه وهتف:

أبي، انظر ماذا وجدت.
ما هذا؟
سمكة متحجرة.
من أين؟ كيف؟ إنّها كنز ثمين يا بنيّ.
تعالي يا أمّي.. أخي..

أتى الجميع كي يشاهدوا، أدهشوا (؟).. قال سامي في نفسه: سأبيع هذا الحجر، فلا شك في أنه سيعود عليّ بمبلغ كبير من المال، فأنا ابن عائلة فقيرة، وربّما أتى هذا الحجر كي ينقذنا من فقرنا.. ثمّ قال: لا، لا..."
أفكار كثيرة أتت في باله في تلك اللّحظة، وهو سارح في خياله إلى البعيد... وبعدما هدأ الجميع، جلسوا في الصّالة، قال الأب:

هذا الحجر ليس لك يا بنيّ.

كيف هذا؟ إنّه لي، أنا وجدته.

أعرف ذلك، ولكنّه ليس لك، إنّه ملك للجميع.
ماذا تقصد يا أبي؟

من حق الجميع أن يروا هذا الحجر، ومكانه ليس هنا، مكانه في المتحف الوطنيّ.
كيف ذلك؟

غدًا سنذهب إلى مكتب وزارة السّياحة الموجود هنا في المدينة، ونخبرهم بما جرى.

بعد سماع كلام الأب، شعر سامي بضياع هذا الحجر من بين يديه، وبفقدان هذا الكنز الثّمين، وبالاستسلام للفقر الذي يرافقه منذ طفولته ليسلب من بين يديه فرص الغنى.

صباح اليوم التّالي، ذهب سامي وأبوه إلى مكتب وزارة السّياحة. كان سامي قد وضع الحجر في حقيبة كي يحميه من أي ضرر قد يتعرّض له. وعند الوصول إلى المكتب، عرض الأب الحادثة على الموظّف هناك، فطلب الموظف رؤية الحجر، ناوله سامي الحقيبة، فتحها، ثمّ عبّر عن دهشته بهذه اللّوحة المنحوتة نحتًا جميلًا.
ذهب الموظّف إلى الغرفة المجاورة حيث يوجد مكتب المسؤول عن المتحجّرات، ثمّ عرض عليه الحجر. بدأ المسؤول يتفحّص الحجر برهة من الزّمن، خرج وقال:

هذا الحجر فيه سمكة متحجّرة يعود تاريخها إلى عشرات آلاف السّنين. وما يميّز هذا الحجر هو هذه القطعة الذّهبيّة العالقة فيه من الدّاخل. أظنّ أنّها كانت عالقة في السّمكة، وبقيت هكذا مع مرور الزّمن.

أبدى المسؤول إعجابه بما فعله سامي ووالده، شكرهما على هذه المبادرة الّتي رأى فيها حسّ المسؤوليّة الوطنيّة، وشجّعهما على هذه الخطوة الّتي قاما بها. ثمّ ذهب إلى مكتب المدير، غاب حوالي ربع ساعة، ثمّ عاد حاملًا بيده ظرفًا وقال:

هذا لك.

ما هذا؟

شهادة تقدير لك من مدير المكتب باسم وزارة السّياحة، بالإضافة إلى شيك، مبلغ من المال هديةً لك.
فرح سامي كثيرًا، لأنّه وجد تقديرًا لعمله، ثمّ قال له:

والحجر، ماذا ستفعلون به؟

سنرسله إلى مكتب وزير السّياحة، مع رسالة مرفقة، عليها اسمك وتاريخ العثور على هذا الحجر، ومكان العثور عليه. وسيضعون هذا الحجر في المتحف، وتحته بطاقة تعريف فيها اسمك وعمرك وباقي المعلومات.
شعر سامي بأنّه يطير في الفضاء من شدة الفرح والاكتفاء الذّاتيّ. شعر بسمو الرّوح... وعند الانصراف، قال للمدير:

لديّ طلب بسيط منك.

تفضل.

أرجو منك أن تأخذ هذا الشّيك، فأنا قررت أن أتبرّع بالمبلغ الموجود فيه لصالح المتحف.

أُعجب المدير بكلام سامي، وشكره مرة ثانية، ثمّ نظر إلى أبيه، وقال له:

أهنّئك على هذه التربية، أنت مثال المواطن الصالح.

عادا إلى البيت، وسامر يحمل الشّهادة في يده، ويحمل في قلبه كنزًا عظيمًا، حبًّا كبيرًا لوطنه.

وبعد حوالي شهر، دقّ ساعي البريد باب البيت حاملًا ظرفًا. فتحه سامي، فرأى فيه رسالة مرفقة بمبلغ كبير من المال يفوق ثمن الحجر والقطعة الذهبية. قرأ الرّسالة الّتي جاء فيها:

"السّيّد سامي المحترم،

بعدَما وَضَعْنا الحَجَر في المتحف الوطنيّ، مرفقًا باسمك وعمرك، أُعجب أحد السيّاح بفعلك وبالحجر الفريد النّوع، وأرسل إليك هذا المبلغ من المال تقديرًا لك".

طوى سامي الرّسالة، وطوى معها أيّامًا سوداء من الفقر، ليذهب في رحلة تحقيق الأحلام مع عائلته.

= انتهت =

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى