الأربعاء ٢٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
القوقعة الفكريّة والغربال
بقلم حسين سرمك حسن

اللاشعوري يُضعفان الموضوعية

علي الوردي: «48»

ريادة في توضيح فعل "القوقعة الفكرية":

ولعل الفصل السادس من كتاب الوردي (مهزلة العقل البشري) والذي حمل عنوان (القوقعة البشرية) يمثل التناول الأشمل والأكثر دقة لأطروحته هذه. فهو يرى أن الإنسان في الوقت الحاضر وعلى توالي الدهور الماضية، أناني يعيش داخل قوقعته الذاتية، وهو لا يرى الحقيقة إلا من خلال هذه القوقعة المحصنة. ثم يتناول جانبا مهما من هذه المعضلة يتمثل في التساؤل: هل تستطيع الثقافة الصحيحة أن تفتح عين الإنسان على (قوقعته) ليقدّر نفسه حق قدرها فلا يغالي بها ولا يباهي بمحاسنها الموهومة؟

ويجيب الوردي بتساؤل مقابل عن حدود وسمات الثقافة الصحيحة، لأن الكثير من الناس يدّعون أنهم هم المثقفون وحدهم من بين الناس. ويذكّرنا بأن لا ننسى أن كل طائفة من الناس تعتقد أن ثقافتها هي الصحيحة وأن قيمها الاجتماعية هي المعيار الثابت الذي يمتاز به الحق عن الباطل، وهذا سينعكس على الفرد الذي يعيش ضمن هذه الجماعة، لأن الإنسان الذي ينشأ في مجتمع معين لا بدّ أن يتأثر بمقاييس ذلك المجتمع من حيث يشعر أو لا يشعر. ثم يصل الوردي إلى نتيجة حاسمة تقول أن لا فرق بين المثقف وغير المثقف من ناحية تأثير القوقعة الفكرية إلا من حيث الدرجة، أما من حيث النوع فالجميع سواء. ولا مراء – كما يقول – أنه كلما ازدادت خبرة الإنسان وكثر اتصاله بالناس وتوالت عليه التجارب المرّة، صار قريبا من الحقيقة الواقعية في نظرته إلى نفسه. ولكنه لا يصل ولن يصل إلى تلك الحقيقة وصولا تاما ) (337).
وإذا تابعنا تطور هذه القوقعة البشرية الفكرية خلال سني عمر الإنسان فسنجد أنها تكون في أوج قوتها في أثناء سنوات الطفولة الباكرة. فالطفل يرى الدنيا بمنظار عواطفه وملذاته، وهو لا يستطيع أن يفرّق بين الحقيقة الموضوعية وبين عاطفته نحوها. فالحَسَن لديه حَسَن لأنه محبوب لديه أو لذيذ. والحَسَن ينقلب قبيحا حالما يصير مكروها أو مؤلما. والطفل يرى نفسه محور الكون وكل ما يجري من حوله من حوادث يرتبط به وبأفعاله وعواطفه. ولكن عندما يكبر الطفل – وقد يصبح حكيما أو محنّكا – فإن بقية من هذه النظرة " القوقعية " تبقى في قرارة نفسه قليلا أو كثيرا. وكلما زادت تجارب الأنسان وعركته تجارب الحياة ضعفت فيه تلك النظرة ولكنها لن تموت أبدا. فهي باقية في الإنسان ما بقي الإنسان. ويصعب على الإنسان أن يتخلص من قوقعته الذاتية مهما حاول. فهي تكتنفه من حيث لا يشعر بها، وهي تجعله يضخّم محاسنه الخاصة في الوقت الذي يضخّم فيه مساويء منافسيه وخصومه.

الغربال الشعوري يعزّز القوقعة الفكريّة الخاصّة:

وهناك عامل آخر يعزّز هذه القوقعة وينمّيها ويحكم خناقها حول إدراكات الفرد، ويتمثل في ما أسماه الوردي بـ (الغربال اللاشعوري)، هذا الغربال يقوم بغربلة الأقوال التي تُقال عن الشخص فلا يدعها تصل إليه على حقيقتها. فالشخص إذا سمع مدحا له من فم أحد ظنّ أن المادح منصف يقول الحق. أما إذا سمع ذمّا عدّه ناتجا عن حسد أو نحوه. ولهذا نجد الإنسان يعيش في قوقعته الخاصة فهو لا يعرف ما يقول الناس عنه في غيابه معرفة دقيقة لأن الغربال اللاشعوري يمنعه من ذلك. فالإنسان مجبول أن ينسى مساوئه ويتذكر محاسنه تذكرا لا يخلو من مبالغة. وليقرّب هذه الحقيقة من ذهن القاريء، يقوم الوردي – وبروح ديمقراطي رائع – بضرب مثل مرتبط به هو شخصيا، حيث يقول:

(نجد هذا واضحا في المؤلفين الذين ابتليت الأمة بكوارث كتبهم من أمثالي. فأحدهم يخرج الكتاب فتنهال عليه التهاني من كل جانب وهو ينسى أن تلك عادة اعتاد عليها الناس في مجاملاتهم الاجتماعية (.. ) طلبت في العام الفائت من أحد طلبة الصف الرابع في فرع الفلسفة من كلية الآداب والعلوم أن يكتب تقريرا عني يجمع فيه ما يقوله الناس عن مؤلفاتي بصراحة لا رياء فيها. وقلت له أن درجته النهائية تتأثر بمقدار ما يبذل من جهد وتدقيق في كتابة هذا التقرير. وبعد مدة غير قصيرة جاء الطالب وهو آسف يقول بأنه سوف لن يقدم لي التقرير بأي حال من الأحوال. وسبب ذلك أنه جمع أقوال الناس وآراءهم عني فوجد معظمها تتجه إلى ناحية الذم والانتقاص والشتيمة، وهو يخاف على نفسه إذا قدم لي مثل هذا التقرير الفظيع ) (338).

ويواصل الوردي عرض تجربته الديمقراطية بالقول بأنه حصل على التقرير أخيرا فوجده ألعن تقرير ظهر في الوجود، وأنه كان واثقا أن الطالب لم يكن يقصد بكتابته إيّاه إلا جمع مختلف آراء الناس عنه بأمانة. ويقول الوردي أنه ما زال – آنذاك - يحتفظ بالتقرير الذي يحوي من الشتائم والفضائح ما لم ينزل الله به سلطانا – في نظر الوردي طبعا -. ويستنتج الوردي من حالة المكاشفة السلبية المرّة هذه نتيجة تعزز أطروحته عن الغربال اللاشعوري:

( أدركتُ عند قراءة التقرير أني أملك عن نفسي صورة زاهية جدا، بعيدة عن تلك التي يأخذها الناس عني. فقد كنتُ قبل ذاك قانعا بما أسمع من الثناء العاطر على ألسنة الطلاب أو الزملاء أو بعض القراء الذين أحبّوا كتاباتي.. أما أولئك الذين يذمونني فهم لا يجابهونني بذمهم طبعا. ومهما أحاول أن أستشف ما في قلوبهم نحوي فسوف لا أتمكن من الحصول على الحقيقة تماما. إنها تبقى بجزئها الأكبر مكتومة عني. فالغربال اللاشعوري يمنعني من اكتشافها كلها على أي حال) (339).

رأي الجاحظ الخطير في أنّ العقيدة ليست إراديّة:

ويستعيد الوردي ببراعة رأيا فريدا وخطيرا للجاحظ طرحه الأخير في القرن الثالث الهجري يقول فيه:
(إن الله لا يعاقب الكافرين على كفرهم إلا من كان منهم معاندا حقا، وهو الذي يقتنع بصحة الدعوة ولكنه يؤثر الكفر عليها بدافع من مصلحته الشخصية).

ففي رأي الجاحظ كما يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) إن الإنسان وعقائده ليست إرادية، بل هي مفروضة عليه فرضا، وأنها نتيجة حتمية لكيفية تكوين عقله وما يُعرض عليه من الآراء. فمن عُرض عليه دين فلم يستحسنه عقله فهو مضطر إلى عدم الاستحسان. وليس في الإمكان أن يستحسن. وهو إذن ليس مسؤولا عن اعتقاده، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. فمن أصيب بعمى الألوان فرأى الأحمر أسود فلا لوم عليه في ذلك. إذ ليس في استطاعته إلا أن يفتح عينيه أو يغلقهما، أما أن يرى هذا أسود أو أحمر فلا دخل له فيه. وكذلك الشأن في المعقولات.

والوردي لا يريد مناقشة الجاحظ في رأيه هذا لأنه يعتبره رأيا خطيرا جدا، وقد يدخلنا في موقف حرج لا ندري كيف نخرج منه، لكنه يستثمر جوانبه المتعلقة بتدعيم أطروحته عن القوقعة الفكرية أو الإطار الفكري. فالجاحظ يقوم بمقارنة رائعة بين المحسوسات والمعقولات، فالعقل في رأيه كالحس لا يخضع للإرادة إلا ضمن نطاق محدود. فأنت لا تستطيع أن ترى شيئا محجوبا عنك أو واقعا خارج نطاق الرؤية منك. وكذلك لا تستطيع أن ترى شيئا وأنت أعمى. فإحساسك بالشيء يشترط له أن تكون لديك حاسة كافية تجاهه، وإلا صار الشيء في نظرك بمثابة المفقود الذي لا وجود له. ورأي الجاحظ السبّاق هذا يتفق مع ما يقره العلماء في العصر الحديث، فهم يعتبرون التفكير كالإحساس محدود. فأنت لا تستطيع أن تعقل شيئا إلا إذا كان ذلك الشيء داخل نطاق المفاهيم والمقاييس الفكرية التي تعودت عليها في محيطك الاجتماعي. والإنسان – حسب الوردي – بهذا الاعتبار كالحصان الذي يجر العربات، وقد وضع على عينيه إطار فهو لا يرى من الأشياء إلا تلك التي تقع في مجال إطاره. ويخلص الوردي من ذلك إلى الاستنتاج:

( أن من الصعب على الإنسان أو من المستحيل أحيانا أن ينظر في الأمور بحرية تامة. وقد يتراءى لبعض المغفلين بأنهم أحرار في تفكيرهم وسبب ذلك أن الإطار الفكري قيد لا شعوري موضوع على عقولهم من حيث لا يحسون به. فهو بهذا الاعتبار كالضغط الجوي الذي نتحمل ثقله الهائل على أجسامنا دون أن نحس به. وقد نحس به بعض الإحساس إذا تحولنا إلى مكان آخر يتغير فيه مقدار الضغط، وعندئذ نشعر بأننا كنا واهمين. كذلك هو العقل البشري فهو لا يحس بوطأة الإطار الموضوع عليه إلا إذا انتقل إلى مجتمع جديد، ولاحظ هنالك أفكارا ومفاهيم مغايرة لمألوفاته السابقة. إنه يشعر عندئذ بأنه كان مثقلا بالقيود الفكرية وأن فكره بدأ يتفتّح) (340).

لكن الوردي بما عُرف عنه من وجهة نظر متوازنة إلى الأمور والمعضلات المطروحة يرى أن القوقعة أو الإطار الفكري ليست سلبية بأكملها:

(وقد يندهش القاريء حين أقول له بأن هذه الطبيعة الرقيعة أو النظرة القوقعية، هي من أهم الدوافع التي تدفع الإنسان نحو خدمة مجتمعه. فالإنسان لا يملك غريزة ثابتة تدفعه نحو الخدمة الاجتماعية كما هو الحال لدى النحل أو النمل. إنما هو يندفع في خدمة قومه لأنه يرى نفسه أولى من غيره بهذه الخدمة. إن الخدمة الاجتماعية تسبغ على من يقوم بها مهابة ومكانة بين الناس. والإنسان يتكالب على أي شيء آخر يجد فيه لذة نفسية. ولا ننكر أن هذه النظرة القوقعية قد تؤدي أحيانا إلى كثير من المكايدات الدنيئة والمؤامرات التي تضر أكثر مما تنفع. هذا ولكننا يجب أن نذكر بأن لكل شيء ثمنا، وأن ليس في الدنيا خير يخلو من شر كما أشار إلى ذلك ابن خلدون. فكل إنسان يحب نفسه ويتكالب في إعلائها. فينتج عن ذلك التنازع الضار كما ينتج عنه التنافس النافع. وليس من الممكن الفصل بين هذين الوجهين ) (341).

مكوّنات "الإطار الفكري" أو "القوقعة الفكريّة":

لكن ما هي مكونات هذا الإطار الفكري أو (القوقعة الفكرية)؟
يرى الوردي أن هناك ثلاثة أنواع من القيود موضوعة على عقل الإنسان عند تفكيره أو عند نظره في الأمور وهي:

أ – القيود النفسية:

وتتمثل في النفس البشرية المعقّدة المليئة بالرغبات المكبوتة والعواطف المشبوبة والدوافع الدفينة، وكلها تؤثّر في أحكامه والزاوية التي ينظر بها إلى الحوادث التي تجري من حوله.

ب – القيود الاجتماعية:

وهي القيود التي تفرضها ثقافة الطبقة أو الجماعة أو البلد أو الطائفة التي ينتمي إليها. هذه الثقافة تسهم في صياغة الإطار الفكري الذي يحيط بعقل الفرد.

ج – القيود الحضارية:

وهي القيود التي تشترك بها كل الجماعات في داخل حضارة معينة. فالبدو مثلا لهم قيم ومُثُل وأهداف في الحياة عامة يؤمنون بها جميعا رغم اختلافهم في تعصبهم القبلي أو الطبقي أو الاجتماعي. وهذه القيم تتغلغل في اللاشعور عميقا إذ ينشأ عليها الفرد ويعتاد عليها حتى تصبح جزءا لا يتجزأ من منطقه وأسلوب تفكيره.

أوّل من دعا إلى تدريس قوى اللاشعور لأن إهمالها يسبّب الإزدواجية:

ومن الأمور التي ينبغي أن نذكرها للتاريخ لتثبّت كسبق ريادي للوردي هو أنه أول مفكر عربي دعا إلى تدريس قوى ومحتويات اللاشعور في المدارس والكليات. يقول الوردي:
(ومن المؤسف حقا أن نرى مدارسنا وكلّياتنا تُعنى، في تربية طلابها بالشعور وحده وتهمل اللاشعور. وبعبارة أخرى: إنها تربّي فيهم العقل الظاهر وتترك العقل الباطن ينمو كما يهوى، وبذلك تخلق في تكوين شخصيتهم دواعي الازدواج البغيض).

إن الوردي يعيد جانبا من سمة ازدواجية الشخصية إلى هذا الإهمال لسطوة اللاشعور في رسم وتصميم أفعال الإنسان حتى لو كانت مناقضة تماما لأفكاره وآرائه وعقائده التي يؤمن بها شعوره أو عقله الظاهر ويهتف بها صباح مساء. فـ: (العقل الباطن هو الذي يسيّر الإنسان في كثير من أموره ويوجّه سلوكه. أمّا العقل الظاهر فليس إلّا طلاء ورياء ( يصف معلم فيينا (فرويد) العقل الظاهر بأنه وكالة حسّية فقيرة – الكاتب) ونحن كلّما اعتنينا بالعقل الظاهر وحشوناه بالمباديء الافلاطونية والمعلومات المطلقة خلقنا بينه وبين العقل الباطن ثغرة وجعلنا شخصية الفرد من جراء ذلك ذات شقّين. ويمسي الفرد بهذا مرائيا يقول شيئا ويفعل نقيضه. أو يدّعي صفة ثم يقوم بما يخالفها من قول أو فعل).
أي أننا لا يمكن أن نطلب من الإنسان الموقف الموضوعي المطلق بل ولا النسبي حتى لو كان باحثا مبرزا إذا لم يتنبه إلى مكنونات لاشعوره والقوى الفاعلة فيه. فالإنسان:

(حين يكتب أو يخطب أو ينصح غيره تراه يعيد ما لقّناه من كلمات رنانة ومُثُل جوفاء. أما حين يسعى وراء العيش أو ينافس أقرانه فيه فنجده كغيره من الناس مسوقا بما يمليه عليه عقله الباطن من طمع دنيء أو شهوة خسيسة أو حب للشهرة والجاه في الحق والباطل على السواء).

ولعل التفسير الذي نقله الوردي عن وليم جيمس – الفيلسوف الأمريكي المشهور – لقصور العقل البشري يقدم لنا صورة واضحة عن (حتمية) هذا القصور و (ضرورته). حيث يعتقد هذا الفيلسوف بأن العقل البشري جزئي ومتحيّز بطبيعته. ويرى أن العقل لا يستطيع التفكير المثمر إلّا إذا كان جزئيا في نظرته ومتحيّزا في انتباهه. ذلك أن الحقيقة الخارجية في رأيه تحتوي على نواحي متعددة وتفاصيل شتى. فإذا لم يركز العقل انتباهه على ناحية ويترك النواحي الأخرى يصعب عليه الوصول إلى فكرة عملية واضحة عنها. يقول (جيمس):

(إن العقل لا يكون ذا مقدرة وكفاية إلّا بتخيّره ما ينتبه إليه وبتركه ما عداه، أي بتضييقه وجهة نظره، وإلّا إذا توزّعت قوّته الضئيلة وضلّ في تفكيره).

علي الوردي: «48»

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى