الثلاثاء ١١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٢
بقلم أحمد الخميسي

«اللا أمـكـنــة».. مـارك أوجـيـه

لا شيء يقع خارج الأمكنة، فنحن نولد في منطقة محددة، ونتلقى العلم في مدرسة بعينها، ونتزوج، ونلد، ونعمل في نطاق أمكنة بالذات. كل ما يجري من أحداث في حياة الانسان مرتبط بمكان محدد، والمكان يتسع ويمتد من البيت إلى الشارع إلى المدينة فالوطن. ويقدم المفكر الفرنسي "مارك أوجيه" في كتابه "اللا أمكنة" ترجمة د. ميساء الصوفي تعريفا للمكان بأنه مفهوم وثيق الصلة بهوية الانسان وتاريخه وعلاقاته، ولذلك أقول "أنا مصري" أو "سوري" أعنى هويتي وتاريخي الذي خلق في موضع معين. إلا أن "المكان" عند "مارك أوجيه" يضيق كلما اتسع، فقد أصبحنا في عصر تقلص فيه كوكبنا الأرضي إلى حد هائل، بعد أن اكتشف الانسان كل شبر فيه، ثم تقلص كوكبنا بعد البدء في اكتشاف الكواكب المحيطة وخطو الانسان في الفضاء، هكذا أصبحت الكرة الأرضية نفسها صغيرة مع اتساع الكون أمامنا، بعد أن اختصرت وسائل النقل الحديثة المسافات، ولم تعد أي عاصمة تبعد عن أي عاصمة أخرى سوى ساعات محدودة. اتسع المكان بحيث أصبح صغيرا، وصرنا عبر شاشات التلفزيون نتابع حتى أصغر الأحداث في أقصى طرف بالأرض. ويطرح "مارك أوجيه" في ظل الحداثة العصرية مفهوما آخر باسم "اللا أمكنة"، وهي عنده الإنشاءات التي تفرضها الحياة الحديثة مثل المطارات، والطرق السريعة، والجسور، ووسائل النقل، والمجمعات التجارية الكبرى، والسلاسل التجارية "مول سنتر"، الفنادق، والنوادي، ومكنات صرف النقود، وحتى القطارات، والطيارات. ويقول "مارك أوجيه" إن تلك "اللا أمكنة" مقياس العصر، وفيها تكاد أن تنعدم العلاقة التاريخية بين الانسان والمكان، لأنه العلاقة " اللا أمكنة" تكون من طرف واحد، تحددها لك الأمكنة باللافتات التي ترشدك: "ممنوع التدخين"، و"اتجه الى اليمين إلى الصالة الكبرى"، إلى آخره. كما أن الذاكرة البشرية وهي تؤرشف لتلك الأماكن تضعها في موضع معين على الهامش، بعيدا عن هوية الانسان التي ترتبط تاريخيا بالمكان. "اللا أمكنة" التي تغرق العالم من حولنا لا يربطها شيء بثقافة الانسان أو تاريخه أو هويته. وهناك أيضا ما يسميه الكاتب "عكس الأمكنة" وهي تلك التي نتخيلها ولا نراها، كما يحدث حين نتخيل بلدا بعيدا لم نره قط. ولذلك يستدعي "مارك أوجيه" أعمالا أدبية تناولت مفهوم المكان، وعلاقته بالزمن بصفتهما فعليا وحدة واحدة، لأن الزمن هو النهر الذي تجري فيه الأماكن، كما أن الأماكن هي الأزمنة وقد تجمدت. وبشكل أو بآخر، فإن "اللا أمكنة " تخلق الاغتراب الانساني، لأن علاقة الانسان بها هي "علاقة الانفصال".

وبهذا الصدد أتذكر أنني قمت برحلة في الثمانينيات إلى باريس، وأخرى إلى روما، ولكنني رغم إقامتى في كل مدينة عشرة أيام، لا أكاد أذكر شيئا من المدينتين سوى صور من الخارج، شوارع بلا معنى، وأبنية بلا مغزى، وقد يعود ذلك لافتقاد العلاقة والتفاعل مع المكان.

يطرح "مارك أوجيه" في كتابه مفهوم المكان بالمعنى الفلسفي، رغم أنه أصلا عالم "أنثروبولجيا" أي أنه اخصائي في تاريخ علم الانسان، أو ما يعرف بدراسة السلالات البشرية على ضوء التاريخ الثقافي والعلوم الاجتماعية، والبيولوجية، لكن ثقافته الفلسفية والأدبية الواسعة تمكنه من اقتحام عالم الفلسفة باقتدار كبير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى